الحمد لله.
أولا :
أشارت عدد من النصوص الشرعية إلى أن الرقية لا يشترط لها أن تكون منصوصا على تفاصيلها ؛ بل يكفي أن تكون خالية من المخالفات الشرعية .
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَوْا عَلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ العَرَبِ ، فَلَمْ يَقْرُوهُمْ ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ لُدِغَ سَيِّدُ أُولَئِكَ ، فَقَالُوا : هَلْ مَعَكُمْ مِنْ دَوَاءٍ أَوْ رَاقٍ ؟ فَقَالُوا: إِنَّكُمْ لَمْ تَقْرُونَا ، وَلاَ نَفْعَلُ حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلًا ، فَجَعَلُوا لَهُمْ قَطِيعًا مِنَ الشَّاءِ ، فَجَعَلَ يَقْرَأُ بِأُمِّ القُرْآنِ ، وَيَجْمَعُ بُزَاقَهُ وَيَتْفِلُ ، فَبَرَأَ ، فَأَتَوْا بِالشَّاءِ ، فَقَالُوا: لاَ نَأْخُذُهُ حَتَّى نَسْأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَسَأَلُوهُ ، فَضَحِكَ وَقَالَ: ( وَمَا أَدْرَاكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ ؟ خُذُوهَا ، وَاضْرِبُوا لِي بِسَهْمٍ ) " رواه البخاري ( 5736 ) ، ومسلم ( 2201 ) .
قال الشوكاني -رحمه الله-:
" وفي الحديثين دليلٌ على جواز الرقية بكتاب الله تعالى ، ويلتحق به ما كان بالذِّكر والدعاء المأثور ، وكذا غيرِ المأثور ممَّا لا يُخالف ما في المأثور " .
انتهى من " نيل الأوطار " ( 10 / 440 ) .
وعَنْ جَابِرٍ ، قَالَ : " نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الرُّقَى ، فَجَاءَ آلُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ ! إِنَّهُ كَانَتْ عِنْدَنَا رُقْيَةٌ نَرْقِي بِهَا مِنَ الْعَقْرَبِ ، وَإِنَّكَ نَهَيْتَ عَنِ الرُّقَى ، قَالَ: فَعَرَضُوهَا عَلَيْهِ ، فَقَالَ: ( مَا أَرَى بَأْسًا ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَنْفَعْهُ ) رواه مسلم ( 2199 ) .
قال أبو جعفر الطحاوي رحمه الله تعالى :
" ففي حديث جابر ، ما يدل على أن كل رقية ، يكون فيها منفعة : فهي مباحة ، لقول النبي _صلى الله عليه وسلم_ : ( من استطاع أن ينفع أخاه فليفعل ) " .
انتهى " شرح معاني الآثار " ( 4 / 326 ) .
وعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ ، قَالَ : " كُنَّا نَرْقِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللهِ ! كَيْفَ تَرَى فِي ذَلِكَ ؟ فَقَالَ : ( اعْرِضُوا عَلَيَّ رُقَاكُمْ ، لَا بَأْسَ بِالرُّقَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شِرْكٌ ) " رواه مسلم ( 2200 ) .
ثانيا :
حتى تكون الرقية مشروعة ، لا بد أن تتوفر فيها الشروط الآتية :
الشرط الأول :
أن تكون بالقرآن أو بذكر الله تعالى وبالأدعية المشروعة .
قال النووي رحمه الله تعالى :
" الرقى بآيات القرآن وبالأذكار المعروفة : فلا نهي فيه ، بل هو سنة " .
انتهى من " شرح صحيح مسلم " ( 14 / 169 ) .
وقال ابن عبد البر رحمه الله تعالى :
" لا أعلم خلافا بين العلماء في جواز الرّقية من العين ، أو الحمة ؛ وهي لدغة
العقرب ، وما كان مثلها ، إذا كانت الرّقية بأسماء اللّه عزّ وجلّ ، وممّا يجوز
الرّقي به " .
انتهى من " الاستذكار " ( 27 / 19 ) .
الشرط الثاني :
أن تكون باللغة العربية للقادر عليها ، فلا يحل له أن يرقي بلغة لا يعرفها ، خشية
أن تحتوي رقيته على محرم ، من حيث لا يدري .
فإذا كانت بغير العربية ، لكن كانت مفهومة المعنى ، وليس فيها ما ينهى عنه : فهي
مشروعة ، إن شاء الله ، كما يجوز الدعاء بغير العربية ، لا سيما في غير الصلاة .
قال الخطابي رحمه الله تعالى :
" فأما الرقى فالمنهي عنه هو ما كان منها بغير لسان العرب فلا يدرى ما هو ولعله قد
يدخله سحر أو كفر ، فأما إذا كان مفهوم المعنى ، وكان فيه ذكر الله تعالى فإنه
مستحب متبرك به والله أعلم " انتهى من " معالم السنن " ( 4 / 226 ) .
لكن الأفضل ، مطلقا ، أن
تكون بالعربية للقادر عليها .
سُئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
" عمن يقول : يا أزران : يا كياان ! هل صح أن هذه أسماء وردت بها السنة ، ولم يحرم
قولها ؟
فأجاب: الحمد لله . لم ينقل هذه عن الصحابة أحد ، لا بإسناد صحيح ، ولا بإسناد ضعيف
، ولا سلف الأمة ، ولا أئمتها . وهذه الألفاظ لا معنى لها في كلام العرب ؛ فكل اسم
مجهول ليس لأحد أن يرقي به ، فضلا عن أن يدعو به ، ولو عرف معناها ، وأنه صحيح ،
لكره أن يدعو الله بغير الأسماء العربية ) انتهى من " مجموع الفتاوى " ( 24 / 283 )
.
الشرط الثالث :
أن تكون معقولة المعنى .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" وأما معالجة المصروع بالرقى ، والتعوذات ، فهذا على وجهين :
فإن كانت الرقى والتعاويذ مما يعرف معناها ، ومما يجوز في دين الإسلام أن يتكلم بها
الرجل ، داعيا الله ، ذاكرا له ، ومخاطبا لخلقه ، ونحو ذلك ، فإنه يجوز أن يرقى بها
المصروع ، ويعوذ ، فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( أنه أذن
في الرقى ، ما لم تكن شركا ) وقال : ( من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل ) .
وإن كان في ذلك كلمات محرمة مثل أن يكون فيها شرك ، أو كانت مجهولة المعنى ، يحتمل
أن يكون فيها كفر ، فليس لأحد أن يرقى بها ولا يعزم ، ولا يقسم ، وإن كان الجني قد
ينصرف عن المصروع بها ، فإن ما حرمه الله ورسوله ، ضرره أكثر من نفعه " .
انتهى من " مجموع الفتاوى " ( 24 / 277 – 278 ) .
الشرط الرابع :
أن يعتقد الراقي والمرقي أنّ الرقية مجرد سبب ، ولا تؤثر إلا بإذن الله تعالى .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى :
" وقد أجمع العلماء على جواز الرقى عند اجتماع ثلاثة شروط : أن يكون بكلام الله
تعالى أو بأسمائه وصفاته ، وباللسان العربي أو بما يعرف معناه من غيره ، وأن يعتقد
أن الرقية لا تؤثر بذاتها بل بذات الله تعالى " انتهى من " فتح الباري " ( 10 / 195
) .
وفي " فتاوى اللجنة الدائمة
" ( 1 / 155 ) :
" أذن النبي صلى الله عليه وسلم في الرقية بالقرآن والأذكار والأدعية ما لم تكن
شركا أو كلاما لا يفهم معناه ؛ لما روى مسلم في صحيحه عن عوف بن مالك قال : ( كنا
نرقي في الجاهلية فقلنا : يا رسول الله ، كيف ترى في ذلك ؟ فقال: اعرضوا علي رقاكم
، لا بأس بالرقى ما لم يكن فيها شرك ) .
وقد أجمع العلماء على جواز الرقى إذا كانت على الوجه المذكور آنفا ، مع اعتقاد أنها
سبب لا تأثير له إلا بتقدير الله تعالى " انتهى .
ثالثا :
تبين مما سبق : أن الرقية إذا توفرت فيها الشروط السابقة وكانت عن علم وتجربة فهي
مشروعة ، ولا تدخل في دائرة البدعة ، حتى لو كان في الأمر تخصيص لرقية معينة ، بمرض
معين ، أو سحر معين ، ونحو ذلك ، فعامة الرقى هي نوع من التخصيص لدعاء دون دعاء ،
وذكر دون ذكر ، رجاء نفعه لأمر معين .
وقد سُئل الشيخ ابن جبرين رحمه الله تعالى :
" ما حكم تخصيص آيات معينة ، وتكرارها بأعداد محددة ، لعلاج أمراض معينة ، مثال :
أن يقرأ آيات معينة ، من سورة معينة ، ويكررها بأعداد محددة لمرض السرطان مثلاً ،
وغيرها لمرض آخر إلى غير ذلك ؟
فأجاب : قال الله تعالى : ( وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء
وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ) فظاهر الآية أن من القرآن آياتٍ تكون قراءتها سببا
للشفاء والرحمة ، وقيل : إن ( مِنَ ) لبيان الجنس ؛ أي إن جنس القرآن شفاء ورحمة ،
ولاشك أن هناك آيات ورد فيها ما يدل على الاستشفاء بها ، وقد ثبت في حديث أبي سعيد
قراءة سورة الفاتحة كعلاج للديغ ، فأقر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ( وما
أدراك أنها رقية ) ، وفي حديث آخر: ( فاتحة الكتاب شفاء من كل داء ) .
وثبت أن آية الكرسي سبب للحفظ من وسوسة الشيطان ، ورويت آثار عن السلف من الصحابة
والتابعين في العلاج ببعض الآيات القرآنية والأدعية النبوية ، وجربت آيات السحر
الثلاث في سورة الأعراف ويونس وطه ؛ فوجدت مؤثرة في حل السحر وفي علاج المحبوس عن
أهله ، وكذا قراءة المعوذتين ، ولا بأس بتكرار القراءة والاستعاذة ، كما ورد : ( أن
النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفث في يديه بعد جمعهما ، ويقرأ آية الكرسي وسورتي
الإخلاص والمعوذتين ، ويمسح بهما ما أقبل من جسده ) ، فلا إنكار على من فعل ذلك أو
نحوه ، والله أعلم " انتهى .
من موقع الشيخ ابن جبرين (http://goo.gl/nhypdY)
ومن ذلك الباب أيضا : وضع
اسم لبعض هذه الرقى ، وهو من باب التعريف بها ، والعبرة بمحتواها ، لا باسمها ؛
فإذا كانت مشروعة كما سبق بيانه ، فتخصيصها بالاسم المعين : لا حرج فيه ، إذا كان
خاليا من المحاذير الشرعية .
ومن هذا ما شاع على ألسنة العلماء من تسمية رقية معينة بأسماء خاصة بها ، كرقية
النملة ، ورقية العقرب ، ونحو ذلك .
رابعا :
ينبغي أن تكون هذه التسجيلات مجرد وسيلة تعليمية للرقية ، وليست وسيلة للرقية ذاتها
، لأن الرقية المشروعة إنما تكون مباشرة بين الراقي والمرقي ، ولذلك شرع فيها النفث
على الراقي ، ومسح موضع الألم ، أو وضع الراقي يده عليه ، وهو ما لا يمكن حصوله إذا
كانت الرقية مسجلة .
ففي " فتاوى اللجنة الدائمة 2- " ( 1 / 86 – 87 ) :
" الأصل أن الراقي هو الذي يباشر قراءة القرآن وينفث على المريض من ريقه ، ففي
الصحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه : ( أن أناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه
وسلم أتوا على حي من أحياء العرب فلم يقروهم ، فبينما هم كذلك إذ لدغ سيد أولئك ،
فقالوا : هل معكم من دواء أو راق ؟ فقالوا : إنكم لم تقرونا ولا نفعل حتى تجعلوا
لنا جعلا . فجعلوا لهم قطعا من الشاء ، فجعل يقرأ بأم القرآن ويجمع بزاقه ويتفل ،
فبرأ فأتوا بالشاء ، فقالوا : لا نأخذه حتى نسأل النبي صلى الله عليه وسلم ، فسألوه
فضحك وقال : وما أدراك أنها رقية ؟ خذوها واضربوا لي بسهم ) .
وفي الصحيح أيضا من حديث عائشة رضي الله عنها : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث، فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه وأمسح
بيده رجاء بركتها ) .
ولما في مباشرة الراقي القراءة بنفسه من معان تقوم في الراقي ، لا بد من اعتبارها .
وعليه فإن الرقية بفتح جهاز التسجيل خلاف الأصل الشرعي، فالرقية بواسطة جهاز
التسجيل أمر محدث لا يجوز شرعا .
وبالله التوفيق ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء .
بكر أبو زيد ، صالح الفوزان ، عبد الله بن غديان ، عبد العزيز آل الشيخ ، عبد
العزيز بن عبد الله بن باز " انتهى .
لكن إذا لم يكن المريض يحسن أن يقرأ ، ولا أن يرقي نفسه ، ولم يتيسر له من يرقيه ،
فاستعان بسماع مثل هذه الرقى ، للحاجة ، فنرجو ألا يكون به بأس إن شاء الله ، وأن
ينفعه الله بها .
وينظر جواب السؤال رقم : (11109) .
والله أعلم .
تعليق