الحمد لله.
أولاً :
النجاسة الواقعة في الماء لها ثلاثة أحوال :
الأولى:
أن تغير النجاسة أحد أوصاف الماء ( اللون ، الطعم ، الرائحة) ، فهذا الماء نجس قولاً واحداً ، سواء كان كثيرا أم قليلاً .
قال ابن المنذر : " أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الْقَلِيلَ أَوِ الْكَثِيرَ ، إِذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ ، فَغَيَّرَتِ النَّجَاسَةُ الْمَاءَ ؛ طَعْمًا، أَوْ لَوْنًا، أَوْ رِيحًا أَنَّهُ نَجَسٌ مَا دَامَ كَذَلِكَ ، وَلَا يُجْزِئ الْوُضُوءُ وَالِاغْتِسَالُ بِهِ " انتهى من " الأوسط" (1/260).
الحال الثانية :
أن تقع النجاسة في الماء الكثير ، ولا تغير شيئاً من أوصافه ، لا الطعم ، ولا اللون ، ولا الرائحة ، فهذا الماء طاهر ، قولاً واحداً .
قال ابن المنذر : " وأجمعوا على أن الماء الكثير ؛ من النيل ، والبحر، ونحو ذلك ، إذا وقعت فيه نجاسة ، فلم تغير له لوناً ، ولا طعماً ، ولا ريحاً أنه بحاله ، ويُتطهر منه " انتهى من "الإجماع" صـ 35.
الحال الثالثة :
أن تقع النجاسة في الماء القليل ، ولا تغير شيئاً من أوصافه ، كنقطة دم ، أو قطرة بول تقع في وعاء به ماء ، ولا تغير شيئاً من أوصافه ، فهل يحكم بتنجسه لوقوع النجاسة فيه ، أم بطاهرته لعدم تغير شيء من أوصافه ؟
الصحيح من أقوال العلماء : أنه لا يحكم بنجاسة الماء إلا إذا تغير بالنجاسة ، سواء كان قليلا أو كثيرا .
وهذا هو مذهب المالكية ، ورواية عن الإمام أحمد ، ورجحه شيخ الإسلام ابن تيمية ، وتلميذه ابن القيم ، واختاره كثير من المعاصرين ، كالشيخ ابن باز وابن عثيمين وعلماء اللجنة الدائمة للإفتاء ، رحمهم الله .
ينظر: "الذخيرة" للقرافي (1/172) ، "المغني" لابن قدامة (1/39) ، "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام (21/ 32) ، "الشرح الممتع " (1/41).
واستدلوا بما ورد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال : " قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَتَتَوَضَّأُ مِنْ بِئْرِ بُضَاعَةَ ، وَهِيَ بِئْرٌ يُلْقَى فِيهَا الْحِيَضُ ، وَلُحُومُ الْكِلَابِ ، وَالنَّتْنُ ؟!. [ الحِيض: الخرق التي يمسح بها دم الحيض] ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ ). رواه أبو داود (66) ، والترمذي (66) ، والنسائي (326) ، وصححه الإمام أحمد ، ويحيى بن معين ، والترمذي ، والنووي ، وابن الملقن، والحافظ ابن حجر. ينظر: "المجموع" (1/82) ، "البدر المنير" (1/381).
ففي هذا الحديث : أن الماء طهور ، لا ينجسه شيء ، وقد أجمع العلماء على أنه ينجس إذا تغير بوقوع نجاسة فيه ، فبقي ما عدا هذا على الأصل وهو الطهارة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " وَهَذَا اللَّفْظُ عَامٌّ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ ، وَهُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ النَّجَاسَاتِ.
وَأَمَّا إذَا تَغَيَّرَ بِالنَّجَاسَةِ : فَإِنَّمَا حُرِّمَ اسْتِعْمَالُهُ لِأَنَّ جِرْمَ النَّجَاسَةِ بَاقٍ ، فَفِي اسْتِعْمَالِهِ : اسْتِعْمَالُهَا؛ بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَحَالَتْ النَّجَاسَةُ ، فَإِنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ وَلَيْسَ هُنَاكَ نَجَاسَةٌ قَائِمَةٌ".
انتهى من "مجموع الفتاوى" (21/33).
وقال الشيخ ابن باز : " والصواب: أن ما دون القلتين لا ينجس إلا بالتغير، كالذي بلغ القلتين؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الماء طهور لا ينجسه شيء ) ... وإنما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم القلتين؛ ليدل على أن ما دونهما يحتاج إلى تثبت ونظر وعناية ؛ لا أنه ينجس مطلقا ؛ لحديث أبي سعيد المذكور.
ويستفاد من ذلك: أن الماء القليل جدا : يتأثر بالنجاسة غالبا، فينبغي إراقته، والتحرز منه". انتهى من "مجموع فتاوى ابن باز" (10/16).
وقال علماء اللجنة الدائمة الإفتاء: "الأصل في الماء الطهارة ، فإذا تغير لونه أو طعمه أو ريحه بنجاسة فهو نجس ، سواء كان قليلاً أو كثيراً، وإذا لم تغيره النجاسة فهو طهور " .
انتهى من "فتاوى اللجنة الدائمة" (5/84) .
وعلى كل حال :
فالخلاف في هذه المسألة قديم ، وهي مسألة شائكة كثر فيها الأخذ والرد ، ولكلٍّ دليله الذي استند إليه فيما قال. قال ابن القيم عن هذه المسألة : " فهنا معتَرَكُ النِّزال ، وتلاطمُ أمواج الأقوال ، وهي مسألة الماء إذا خالطته النجاسة فاستهلكت ولم يظهر لها فيه أثر البتة " انتهى من" بدائع الفوائد "(3/257) .
وقال الشوكاني : " فَحَدِيثُ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ يَدُلُّ بِعُمُومِهِ عَلَى عَدَمِ خُرُوجِهِ عَنْ الطَّهَارَةِ لِمُجَرَّدِ مُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ ، وَحَدِيثُ الْقُلَّتَيْنِ يَدُلُّ بِمَفْهُومِهِ عَلَى خُرُوجِهِ عَنْ الطَّهُورِيَّةِ بِمُلَاقَاتِهَا، فَمَنْ أَجَازَ التَّخْصِيصَ بِمِثْلِ هَذَا الْمَفْهُومِ قَالَ بِهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَمَنْ مَنَعَ مِنْهُ مَنَعَهُ فِيهِ. وَيُؤَيِّدُ جَوَازَ التَّخْصِيصِ بِهَذَا الْمَفْهُومِ لِذَلِكَ الْعُمُومِ بَقِيَّةُ الْأَدِلَّةِ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْمَاءَ الْقَلِيلَ يَنْجُسُ بِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ وَإِنْ لَمْ تُغَيِّرْهُ . وَهَذَا الْمَقَامُ مِنْ الْمَضَايِقِ الَّتِي لَا يَهْتَدِي إلَى مَا هُوَ الصَّوَابُ فِيهَا إلَّا الْأَفْرَادُ " . انتهى من "نيل الأوطار "(1/46).
ومتى احتاط المرء لدينه ، وترك الماء القليل الذي يعلم أن النجاسة قد وقعت فيه ، ولو لم تغير شيئا من أوصافه فهو أحسن له ، وأبرأ لذمته ، لا سيما إذا كان الماء قليلا جدا ، فهنا يقوى جانب الاحتياط بتركه .
والله أعلم .
تعليق