الحمد لله.
ولد يونس أَمْرِه في القرن السابع الهجري سنة (638هـ) بحسب أقرب التقديرات ، وتوفي سنة (720هـ/ 1322م)، وهذا يعني أنه أدرك نهاية الدولة السلجوقية ، وبداية العصر العثماني . ويعد هذا الشاعر " أسطورة " بحق لدى الشعب التركي ، والتراث الأدبي التركي ، اجتمعت قلوبهم على محبته ، وتحويله إلى " الرمز " الذي لا يختلف النقاد في حضوره في الوجدان التركي ، الثقافي والأدبي والشعبي ، وذلك بفضل مجموعة من العوامل المهمة :
أولها :
صلاحه وتدينه ، الأمر الذي يبدو جليا في أشعاره ، ولدى جميع من ترجم له وكتب عنه ، وتصريحه بتولي الخلفاء الراشدين الأربعة ، والقراءة في كتب السنة الأربعة ، الأمر الذي يدل على مذهبه السني العام ، خلافا لمن يتشكك في ذلك ، وينسبه إلى الدرزية أو النصيرية .
في ديوانه الشعري ، (ص25) (غزلية/26) يقول :
إن أصحاب الرسول عاشقون | وأبو بكر عظيم العاشقين |
وفي (ص34) (غزلية/52) يقول:
ومن الأسفار فاقرأ أربعة | بسواها ما لديك منفعة |
وفي (ص43) (غزلية/79) يقول :
من يقول إنني لَلْمسلم | شرطه تلك الصلاةَ يَلزم |
بالصلاة كل شيء يوجد | ومن النار النجاة تحمد |
وعلى الوسطى نراهم يحرصون | إنهم للحق لكن واصلون |
وبهذا كل ذنب قد يذوب | ولهذا كان للشمع الوجوب |
وإذا قيل فلان لم يصل | ليس بين المسلمين في محل |
النبي في انتظار للوفاء | أمة لا بد فيها من صفاء |
وفي (ص72) (غزلية/156) يقول :
إنه من قد دعانا للصلاة | كل من صلى له طابت حياة |
أنت في الفجر فقم كيما تصلي | وتأمل أنت للشمس التجلي |
الصلاة كل من عنها غفل | خسر الربح وخاب في العمل |
وله قلب ولكن من حجر | ليس بالمسلم عنها من نفر |
أنت يا يونس صل في عجل | أدها من قبل أن يأتي الأجل |
ثانيها :
أنه الشاعر القومي الأول الذي لم يسبقه أحد إلى اعتلاء الأدب التركي ، منذ بداية ظهور الشعر التركي ، كما يقول النقاد .
ثالثها :
سهولة عبارته ، ووضوح كلماته وأساليبه بعيدا عن الشعر المتكلف المصطنع ، فصار شعره محفوظا على كل لسان ، ومفهوما من قبل طبقات الناطقين بالتركية .
رابعها :
قدرته على المزج بين الذوق التركي ، والثقافة الإسلامية الزاهدة ، فأبدع نمطا فريدا من الشعر دخل قلوب الناس وعقولهم .
خامسا :
عنايته برقيق الشعر الذي يتحدث فيه عن حب الخالق جل وعلا ، والتعلق بآلائه ، والتفكر بجلاله وجماله وإنعامه ، فكلماته تفيض بمشاعر النفس الصادقة ، وتعبر عن مكنوناتها التي يحتاج الإنسان إلى التحدث بها دائما ، فيستشعر الارتقاء في مقامات العبودية لله سبحانه ، إذا صاحب ذلك العمل الصالح ، والأخلاق العالية . فكان شعره ذا تأثير روحي عميق على متذوقي اللغة التركية ، وتبوأ مكانة رفيعة في صفحات الأدب التركي .
ولأجل هذه المكانة الرفيعة ، شيدت الحكومة التركية نصبا تذكاريا ليونس أمره في قرية " أسكي شهر " حيث يعتقد أنه مدفون هناك ، وأقامت له المحافل الأدبية العديدة ، وأقرت تدريس أشعاره في المناهج التعليمية ، فضلا عن عناية أتباع الطرق الصوفية بأشعاره في المناسبات الدينية ، حتى غدا شعره محفوظا في القلوب والعقول .
وكما هي الحالة الدينية المعتادة في بلاد الأناضول ، منذ عهود قديمة ، وخاصة في عصر الخلافة العثمانية ، فقد كانت الطرق الصوفية – وما زالت – علامة بارزة لدى السالكين في تلك البلاد ، وعن طريقها انتشر الإسلام بينهم ، وهي طرق عديدة ، تجتمع على غاية السلوك لرب العالمين ، ولكنها تتفاوت بينها في الوقوف عند حدود ما رسمه الفقهاء من اجتهادات شرعية ، بحسب المذهب المنتشر في تلك البلاد . وأيضا تتفاوت في درجة التزامها بأصول الدين المحددة الواضحة ، وتأثير الحالة العرفانية ، أو المذهب الفلسفي المختلط بأصول الطريقة ، في تحييد تلك الأصول أو على الأقل تأويلها. وأخيرا في دركات البدع والخرافات التي يمارسها السالكون في تلك الطرق ، ما بين مقل ومستكثر .
والمقصود هنا أن من المتوقع أن تنسب الترجمات المعاصرة شاعر تركيا الأول يونس أمره إلى بعض هذه الطرق ، وبالأخص الطريقة " البكتاشية " في بداية نشأتها ، وهي طريقة معروفة لدى العلماء ، ذات نفوذ وانتشار كبيرين جدا في التاريخ العثماني ، يمكن الاطلاع على تفاصيل نشأتها وتطورات معتقدها في كتاب أحمد سري بابا، " الرسالة الأحمدية في تاريخ الطريقة العلية البكتاشية بمصر المحروسة ".
كما يمكنك الاستفادة من الروابط الآتية :
http://www.dorar.net/enc/firq/2348
http://bit.ly/3oLX3Tb
http://bit.ly/3rkxZ7l
وبعد الاطلاع على كامل ديوانه الشعري المترجم إلى اللغة العربية ، لا بد لنا من تسجيل النقد الشرعي الأهم ، كي تتضح الصورة الشرعية ، كما يطلب السائل الكريم :
أولا :
يرد في ديوان الشاعر كلمات تشير إلى عقيدة وحدة الوجود في شكلها الأدبي الشعري ، وهي من أخطر الفلسفات العقائدية التي تغلغلت في قطاعات عريضة من أتباع الطرق الصوفية ، تتلخص في اعتقاد الوجود وجودا واحدا ، هو وجود الذات الإلهية ، وأنه ليس ثمة وجودان ، واجب وممكن ، أو قديم وحادث ، أو خالق ومخلوق ، وهذا يعني إنكار حقيقة الخلق ، وليس مجرد غيب عن شهود ما سوى الله تعالى ، بل هي تعود في حقيقتها إلى إنكار الخالق ، الواحد القهار ، العلي فوق خلقه ، الكبير المتعال على كل من سواه ، وما سواه ، الخالق المدبر لكل مخلوق .
وكثيرا ما استشهد الشاعر – في هذا السياق – باسم الحسين بن منصور الحلاج (ت309هـ)، الذي قال فيه الإمام الذهبي رحمه الله : " تدبر - يا عبد الله - نحلة الحلاج الذي هو من رؤوس القرامطة ، ودعاة الزندقة ، وأنصف ، وتورع ، واتق ذلك ، وحاسب نفسك ، فإن تبرهن لك أن شمائل هذا المرء شمائل عدو للإسلام ، محب للرئاسة ، حريص على الظهور بباطل وبحق ، فتبرأ من نحلته .
وإن تبرهن لك - والعياذ بالله - أنه كان - والحالة هذه - محقا هاديا مهديا ، فجدد إسلامك ، واستغث بربك أن يوفقك للحق ، وأن يثبت قلبك على دينه ، فإنما الهدى نور يقذفه الله في قلب عبده المسلم ، ولا قوة إلا بالله . وإن شككت ولم تعرف حقيقته ، وتبرأت مما رمي به ، أرحت نفسك ، ولم يسألك الله عنه أصلا " انتهى من " سير أعلام النبلاء " (14/345) .
ورد في ديوان يونس أمره (ص/25) (غزلية/25) يقول :
إن عيني قل ترى كل المعاني | في الزوال ما سراجا يشعلاني |
يونس اعلم كل دنياك الإله | أي خلد ونعيم قد تراه |
وفي (ص28) (غزلية/32) يقول :
قائل هذا صدوق القائلين | وسل الحلاج تكرم سائلين |
وفي (ص29) (غزلية/37) يقول:
طال منكم إنما هذا السفر | فلماذا فيكم المرغوب قر |
أي شيء ترغبون في البعيد | الحبيب فيكمُ ما إن يحيد |
فتعالوا واستقروا ههنا | ثم قولوا : الحبيب عندنا |
غيبة منه يراها نائمون | معكم لكنكم لا تعلمون |
أنتم في مسجد أو مكتب | ما تبقى عندكم من مطلب |
صاحب التوحيد قال يا عدم | في الطريق وضعوا تلك القدم |
وفي (ص49) (غزلية/95) يقول:
أنا من جئت غريبا للديار | إنهم قد أوقعوني في الإسار |
فعرفت كل شيء للبشر | وأنا المنصور مصلوبا ظهر |
وجاء في (ص78) (غزلية/171) قوله :
يا أخي سري أنا سر عجيب | إنه فيَّ وعنك لا يغيب |
هو في أعماق نفسي حاضر | صورتي وهو إليها ناظر |
إنما إياه إني لا أجد | إنه عندي ولكن كيف ند |
لم يقل قلبي بأني من تراب | وعن الحضرة ما كان الغياب |
وبهذا منكر ما كان قال | بلبل لا عشق أنا ما من جدال |
أنا والمعشوق نحن شعرتان | ولنا دوما حضور في مكان |
عن طريقي إنني لست أحيد | سفرتي أفضت إلى شيء أريد |
كنت " منصورا " قدمت ههنا | و " أنا الحق " تدوي عندنا |
ومن أصرحه أيضا ما في (ص86) (غزلية/189) حين يقول :
قولة المنصور كانت في الأزل | قولة إني عليها لم أزل |
ثانيا :
المبالغة في التعبير عن حب الله سبحانه بكلمات العشق البشري ، وعبارات الخمر والكأس والساقي ونحوها مما يكثر في أشعار المتصوفة ، يريدون بها التعبير عن تعلقهم بالله سبحانه كما يتعلق شارب الخمر بكأسه ، وكأن هذا الكأس هو كأس المعرفة الذي ترتوي منه نفس الشارب ، الذي هو العارف بالله ، والمحب له . ولا يخفى ما في مثل هذه الشعرية " الخمرية " من خروج عن مقتضى اللياقة الأدبية مع الله سبحانه ، وتشبيه للعلاقة بين العبد وربه بالعلاقة بين البشر ، بل بالعلاقة المختلطة بالمعصية في صورتها الشهوانية المشتملة على العشق والخمر والسكر والعزف والوصال .
جاء في ديوانه (ص43) (غزلية/78) قوله :
اترك الدنيا إلى العشق ادخلن | رتبة فيه عليها عولن |
حانة للروح كانت موئلا | كن إلى الصدق دوما مائلا |
أنت يا يونس من عشق ثملتا | إلى الحق ولكن قد وصلتا |
وفي (ص54) (غزلية/108) يقول:
قدم الكأس وها إني عزفت | ما سواد ما بياض قد عرفت |
أثملتني وبعشق طرحتني | من سباتي إنها قد أيقظتني |
ثالثا :
الشطح الصوفي الذي يفضل الحقيقة على الشريعة ، ويعني بالحقيقة التصوف ، وبالشريعة الفقه والأحكام الشرعية ، وأيضا تقديس الدراويش أو " الواصلين "، ويعني بهم مشايخ الطرق الكبار .
وذلك في كثير من المواضع ، منها في (ص19) يقول :
من سماء إن قرأت ما نزل | واصلا أنكرت ، قطعا ما وصل |
وهذا يعني أن إنكار الوصول لله ، وهو مصطلح منتشر في شعره يريد به الصوفي البالغ مرحلة شهود الله سبحانه في كل شيء ، من ينكر وجود الواصلين من المتصوفة لم ينفعه شيء ولو قرأ كل القرآن الكريم وحفظه .
وفي (ص/19) (غزلية/8) يقول :
قبل أن تدخل روحي في الجسد | كنت من عرشا رآه قد وجد |
إن وجه المصطفى صفو الصفاء | إنه من علم الناس الوفاء |
إن أهل الشرع عن هذا بعيد | من سليمان لي القول المفيد |
ويعني بأهل الشرع أهل الفقه ، أي العلماء والفقهاء الذين كان المتصوفة معهم في خصومة .
وفي (ص32) (غزلية/47) يقول:
قبل أرض في الوجود أو سماء | إن عند الله حصن الأولياء |
نظرة الرومي تشفي قلبنا | ولهذا القلب مرآة لنا |
والحاصل :
أن يونس إمره ، على الرغم من مكانته الشعرية والأدبية العالية ، ومكانته في الوجدان التركي الإسلامي ، والقومي أيضا ؛ إلا أن الدراسة المتأملة لديوانه : تدل على أنه يعتقد المذهب السني العام في أصل أمره ، كما نقلنا بعض الأبيات التي تدل على ذلك .
لكن ، على الرغم من ذلك : كان يقول بعقيدة وحدة الوجود الباطلة الضالة ، كما يصرح في ذلك بكل وضوح : أنه لم يزل على عقيدة الحلاج ، وكما تدل على ذلك الأبيات التي نقلناها ، على الرغم من صعوبة ترجمتها البالغة ، وتعقيدها الأسلوبي .
وهذا العرض ، هو بحسب ما ظهر لنا من الأثر الوحيد المترجم له بالعربية ، وإن كنا نرى أن شخصا بهذه المكانة المركزية ، يحتاج دراسة أعمق لآثاره ، وتاريخه ، ومعرفة ما إذا كان مذهبه العام ، وسيرة حياته ، وسائر مصنفاته : تقول إن مثل هذه الأبيات هي أقرب إلى الشطح الذي وقع فيه كثير من مشايخ الطريق ، أو إن هذا هو بالفعل حقيقة مذهبه .
ونحن لم يتيسر لنا الوقوف على دراسة خاصة باللغة العربية ، تسد هذه الثغرة .
والله أعلم .
تعليق