الحمد لله.
أولا :
من أصول أهل السنة والجماعة المتفق عليها التصديق والإيمان بكرامات الأولياء .
والكرامة : هي " أمر خارق للعادة ، يجريه الله تعالى على يد ولي ؛ تأييدا له ، أو إعانة ، أو تثبيتا ، أو نصرا للدين " انتهى من " مجموع فتاوى ورسائل الشيخ ابن عثيمين " ( 8 / 626 ).
ومعنى هذا : أن الله تعالى قد يخرق العادة لعبد من عباده الصالحين ، لحاجته إلى ذلك ؛ كأن يقع في ضائقة فيزيلها الله عنه بأمر خارق ، أو لإقامة الحجة على صدق دين الإسلام ، وإبطال شبهات أعدائه .
والكرامة قد تكون بعلم أمر لم يقع بعد ، أو قد وقع ، لكنه غائب عن المخبِر به .
ولا يعني ذلك : أن هذا الرجل الصالح (الولي) عنده علم الغيب ، وإنما هو علم من الله تعالى ألهمه الله إياه بمنام صادق ، أو إلهام ، أو فراسة إيمانية .
ومن ذلك : ما روته عائشة رضي الله عنها أن أبا بكر رضي الله عنه أخبرها بأن الحمل الذي في بطن امرأته أنثى ، وذلك أنه ذكر من يرثه لعائشة وهو على فراش الموت ، فقال : " إِنَّمَا هُمَا أَخَوَاكِ وَأُخْتَاكِ ، فَاقْتَسِمُوهُ عَلَى كِتَابِ اللهِ ، فقَالَتْ عَائِشَةُ : يَا أَبَتِ ، إِنَّمَا هِيَ أَسْمَاءُ فَمَنِ الْأُخْرَى؟ فَقَالَ: ذُو بَطْنِ بِنْتِ خَارِجَةَ . أُرَاهَا جَارِيَةً " رواه مالك في " الموطأ " ( 2783 ) .
وقد وقع الأمر كما أخبر به بناء على رؤيا رآها ، أو شيء ألهمه الله إياه ووقع في قلبه ، أو ظن ظنه بناء على فراسة إيمانية صادقة .
فقد جاء في بعض الروايات : " قد ألقي في نفسي" ، وفي أخرى : " فَإِنِّي أَظُنُّهَا جَارِيَةً " .
قال ابن عبد البر : " وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ هَذَا: (إِنَّمَا هُمَا أَخَوَاكِ وَأُخْتَاكِ، فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: إِنَّمَا هِيَ أَسْمَاءُ، فَمَنِ الْأُخْرَى ؟ فَأَجَابَهَا أَبُو بَكْرٍ، وَقَالَ: إِنَّ ذَا بَطْنِ بِنْتِ خَارِجَةَ أُرَاهَا جَارِيَةً)، فَهَذَا مِنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ظَنٌّ لَمْ يُخَطِّئْهُ " انتهى من "الاستذكار" (22/298) .
وقال الزرقاني رحمه الله تعالى :
" قال ابن مُزَيْن: قال بعض فقهائنا : وذلك لرؤيا رآها أبو بكر " .
انتهى من " شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك " ( 3 / 218 ) .
وكذا ما وقع لابن تيمية رحمه الله تعالى فيحتمل أن ذلك كان بإلهام من الله ، ويحتمل أنه قاله استنباطا من النصوص الشرعية ، وهذا الاحتمال الثاني هو الذي ذكره ابن كثير رحمه الله ، فإنه قال : " وكان الشيخ تقي الدين ابن تيمية يحلف للأمراء والناس : إنكم في هذه الكرة منصورون على التتار ، فيقول له الأمراء : قل : إن شاء الله ، فيقول : إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا ، وكان يتأول في ذلك أشياء من كتاب الله ، منها قوله تعالى: ( ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ) الحج ( 60 ) " .
انتهى من " البداية والنهاية " ( 18 / 23) .
فذكر أن ذلك كان استنباطا من القرآن الكريم ، فلم يكن في ذلك شيء من ادعاء علم الغيب ، ولكنه كان فهما ثاقبا ، وفراسة صادقة .
ثانيا :
ليس كل ما يظهر لنا أنه خرق للعادة لعبد من العباد ، يعد كرامة من الله تعالى لذلك العبد ، فالشياطين قد يعينون أولياءهم بأنواع العجائب والغرائب ، فالكرامة لها معالم تدل عليها من أهمها:
1- الكرامة من الله تعالى ، وليست من فعل العبد ؛ فالله تعالى هو الذي يخرق العادة لمن شاء متى شاء .
فصاحب الكرامة لا يستطيع أن يدعي أنه يخرق العادة إذا شاء ومتى شاء ؛ لأن أولياء الله تعالى حقا يعتقدون اعتقادا جازما أن الخلق والأمر كله بيد الله تعالى وحده كما هو معلوم لكل مسلم .
قال الله تعالى : ( أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) الأعراف / 54 .
ويعتقدون أن علم الغيب مما اختص الله به ، فلا يعلم الغيب إلا الله تعالى ، وليس هذا في قدرة أحد من البشر حتى الأنبياء عليهم السلام لا يعلمون من الغيب إلا ما أخبرهم الله به .
قال الله تعالى مخاطبا لرسوله صلى الله عليه وسلم : ( قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) الأعراف /188، وانظر الفتوى رقم : (101968).
فالله تعالى هو الذي يكرم الرجل الصالح بالكرامة ابتداء ، أو يدعو هذا الصالحُ اللهَ تعالى عند حاجته لذلك فيستجيب الله له ويعطيه ما طلب .
أما أصحاب الأحوال الشيطانية فهم يدَّعون كذبا أن في قدرتهم علم ما في الصدور ، وما في الغد ، وخرق سنن العادة متى أرادوا ، كما هو حال بعض من يدعي التصوف من الفرق التي تعتمد السحر والشعوذة ونحو هذا .
2- الكرامة لا تكون خلاف أحكام الشرع ، ومثل ذلك من يدعي أنه يُحمل إلى عرفة يوم عرفة من مكان بعيد في لمح البصر فيقف مع الحجاج ثم يرجع إلى بلده ، فهذا لا يعد من الكرامات ، لأن الوقوف المشروع بعرفة يكون تابعا للحج ويلزمه الإحرام من الميقات والالتزام بأحكام الإحرام.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
" ومنهم من يطير به الجني إلى مكة ، أو بيت المقدس أو غيرهما ، ومنهم من يحملهم عشية عرفة ، ثم يعيده من ليلته ، فلا يحج حجا شرعيا ، بل يذهب بثيابه ، ولا يحرم إذا حاذى الميقات ، ولا يلبي ، ولا يقف بمزدلفة ، ولا يطوف بالبيت ، ولا يسعى بين الصفا والمروة ، ولا يرمي الجمار ، بل يقف بعرفة بثيابه ، ثم يرجع من ليلته ، وهذا ليس بحج مشروع باتفاق المسلمين ، بل هو كمن يأتي الجمعة ويصلي بغير وضوء وإلى غير القبلة " .
انتهى من " الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان " ( ص 171 ) .
أو مثل من يتخلف عن صلاة الجماعة دائما ويدعي أنه يجتمع مع مايسمونهم برجال الغيب ويصلون جماعة ، فهذا خلاف الشرع لأن المسلم مأمور شرعا بحضور صلاة الجماعة في المساجد وعدم التخلف عنها إلا لعذر .
قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى :
" عن إبراهيم الخراساني أنه قال : احتجت يوما إلى الوضوء فإذا أنا بكوز من جوهر وسواك من فضة رأسه ألين من الخز (الحرير) فاستكت بالسواك وتوضأت بالماء وتركتهما وانصرفت . قلت: في هذه الحكاية من لا يوثق بروايته ، فإن صحت دلت على قلة علم هذا الرجل ، إذ لو كان يفهم الفقه علم أن استعمال السواك الفضة لا يجوز ، ولكن قَلَّ علمه فاستعمله ، وإن ظن أنه كرامة ، والله تعالى لا يكرم بما يمنع من استعماله شرعا إلا إن أظهر له ذلك على سبيل الامتحان " انتهى من " تلبيس إبليس " ( 337 ) .
ومثل ذلك : من يجلس يخبر الناس بأمور هي في الشرع تعد غيبة أونميمة ونحو هذا ، فإن هذه الأخبار إما أن تكون مناما ، أو فراسة إيمانية رزقه الله إياها ليمتحنه بها ، فلا يخبر بها ، لأن المسلم مأمور بترك الغيبة والنميمة ، وإما أن تكون شعوذة ومن تلبيسات إبليس ، لأن من شأنه أن يوسوس بما يفرق جماعة المسلمين .
3- خرق العادة يعد كرامة إذا كان يحصل لشخص يعرف بالتقوى والصلاح ، لأن الكرامة تكون للمؤمنين أولياء الله تعالى ، وأولياء الله تعالى سمتهم الأساسية هي الإيمان والتقوى .
قال الله تعالى: ( أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ، الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) يونس / 62 – 64 .
فمن لم يكن متقيا ، فخرق العادة له لا يعتبر كرامة ؛ بل قد يكون استدراجا من الله تعالى له ، وامتحانا لعباده ، أو من عمل الشعوذة والسحر وعمل الشياطين .
وهذا المسيح الدجال يكون قبل يوم القيامة ، وتخرق له العادات ، امتحانا من الله لعباده .
ومن الألفاظ المأثورة عن بعض السلف : لو رأيتم الرجل يطير في الهواء ، أو يمشي على الماء ؛ فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي ، وحفظ الحدود ، وأداء الشريعة .
هذه أهم المعالم التي تُمَيَّز بها الكرامة .
ثالثا :
المطلوب في الكرامة التصديق بجنسها ، فنصدق بوجود الكرامات في الجملة ، أما كرامة الشخص المعين - أو دعواه الكرامة - بالإخبار ببعض ما سيحدث في المستقبل ، فلا يجب على أحد التصديق بذلك ، لأننا لا نقطع أنها كرامة وإلهام من الله ، فيحتمل أنها مجرد ظن ظنه ، يصيب ويخطئ ، ويحتمل أنها من الشيطان وقد لُبِّس على صاحبها فظنها من الله ، وهذا سيد الملهمين في هذه الأمة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، قد كان يظن أشياء ثم يتراجع عنها حينما يتبين له أنها لم تكن صوابا .
بل ينبغي لصاحبها نفسه أن لا يجزم بأنها إلهام من الله فقد يكون الأمر غير ذلك .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
"وَأَمَّا مَنْ شَاعَ لَهُ لِسَانُ صِدْقٍ فِي الْأُمَّةِ بِحَيْثُ اتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى الثَّنَاءِ عَلَيْهِ فَهَلْ يَشْهَدُ لَهُ بِذَلِكَ؟ هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْأَشْبَهُ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ بِذَلِكَ. هَذَا فِي الْأَمْرِ الْعَامِّ.
وَأَمَّا " خَوَاصُّ النَّاسِ " فَقَدْ يَعْلَمُونَ عَوَاقِبَ أَقْوَامٍ بِمَا كَشَفَ اللَّهُ لَهُمْ ، لَكِنَّ هَذَا لَيْسَ مِمَّنْ يَجِبُ التَّصْدِيقُ الْعَامُّ بِهِ فَإِنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ يَظُنُّ بِهِ أَنَّهُ حَصَلَ لَهُ هَذَا الْكَشْفُ يَكُونُ ظَانًّا فِي ذَلِكَ ظَنًّا لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا ، وَأَهْلُ الْمُكَاشَفَاتِ وَالْمُخَاطَبَاتِ يُصِيبُونَ تَارَةً؛ وَيُخْطِئُونَ أُخْرَى؛ كَأَهْلِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ فِي مَوَارِدِ الِاجْتِهَادِ؛ وَلِهَذَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ جَمِيعُهُمْ أَنْ يَعْتَصِمُوا بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَنْ يَزِنُوا مَوَاجِيدَهُمْ وَمُشَاهَدَتَهُمْ وَآرَاءَهُمْ وَمَعْقُولَاتِهِمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ؛ وَلَا يَكْتَفُوا بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ سَيِّدَ الْمُحَدَّثِينَ وَالْمُخَاطَبِينَ الْمُلْهَمِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ هُوَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ؛ وَقَدْ كَانَتْ تَقَعُ لَهُ وَقَائِعُ فَيَرُدُّهَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَوْ صَدِيقُهُ [يعني : أبا بكر الصديق رضي الله عنه] التَّابِعُ لَهُ الْآخِذُ عَنْهُ الَّذِي هُوَ أَكْمَلُ مِنْ الْمُحَدَّثِ الَّذِي يُحَدِّثُهُ قَلْبُهُ عَنْ رَبِّهِ. وَلِهَذَا وَجَبَ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ اتِّبَاعُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" .
انتهى من " مجموع الفتاوى" (11/65) .
ولمعرفة موقف أهل العلم من كتاب " فضائل الأعمال " راجع الفتوى رقم : ( 108084 ) .
والله أعلم .
تعليق