الحمد لله.
جوابنا على حجتك بعدم التسليم بمقدمتيها ، ولا بنتيجتها أيضا :
فقولك في المقدمة الأولى : إن المسيحيات ملعونات .
إن أردت به أن كل واحدة منهن بعينها ملعونة ، فهذا الكلام بعيد عن الصواب ؛ وذلك أن الملعون هو المطرود من رحمة الله ، والإنسان ما دام حيا ، ولم يغلق عنه باب التوبة ، فلا يملك أحد الجزم بطرده من رحمة الله ، بل لا يملك أحد الاطلاع على حال معين عند الله ، إن كان في الجنة أو في النار ، إلا من أخبر النص الصحيح عنه بذلك ، أما أعيان الكفار اليوم فليس من الجائز شرعا وصفهم باللعن الخاص ، فالهداية مِنَّة من الله سبحانه وتعالى ، ينعم بها على من يشاء من عباده ، وإذا كان الله عز وجل نهى نبيه عن لعن الكفار بأعيانهم ، مقررا سبحانه أن الأمر ليس إليه عليه الصلاة والسلام ، بل إلى الله سبحانه ، هو الذي يعذب أو يتوب ، أو يضل أو يهدي ، فمن باب أولى أن يخاطب بهذا التقرير كل مسلم بعد النبي عليه الصلاة والسلام .
فعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ - فِي صَلاَةِ الفَجْرِ وَرَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ - : ( اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ فِي الأَخِيرَةِ . ثُمَّ قَالَ : اللَّهُمَّ العَنْ فُلاَنًا وَفُلاَنًا . فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : ( لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ) [آل عمران: 128] رواه البخاري (7346) .
وانظر في موقعنا جواب السؤال رقم : (36674) ، وجواب السؤال : (203625) .
وأما قولك في المقدمة
الثانية : إن الزواج من الملعونة لا يعقل .
فلا يسلَّم أيضا ؛ فاللعن شأن يتعلق بمصير الملعون ، وما يحاسب عليه في الآخرة .
وأما الزواج فهو معاشرة دنيوية في إطار الزوجية ، لا يتأثر حكمها بصلاح المعاشر أو
فساده ، كما أن البيع والشراء لا يفسد بفساد البائع أو المشتري ، فقد تعامل النبي
صلى الله عليه وسلم مع اليهود بيعا وشراء وإهداء . وأيضا حقوق الأبوة والبنوة لا
تتأثر باختلاف الديانة ، فالابن مطالب ببر والده ، ولو كان مشركا ، والأب مطالب
بنصيحة ولده ، ولو كان فاسقا ؛ قال الله تعالى : ( وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ
بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ
أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى
أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا
فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ
مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) لقمان/14-15 ، وقال
تعالى : ( لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي
الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا
إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) الممتحنة/8 .
والأحكام والفروع الفقهية
التي تدل على فك الارتباط بين منزلة الانسان عند الله في الدنيا والآخرة ، وبين
التعامل معه بأنواع العلاقات المختلفة كثيرة معلومة .
وهذا التفريق لا شك أنه من نعمة الله سبحانه وتعالى ، ومن حكمة التشريع ؛ وذلك أنها
شريعة واقعية ، صالحة لكل زمان ومكان ، تملك من الأدوات ما يؤهلها لتحقيق صلاح
البلاد والعباد ؛ فلو كانت العقود فيها مرتبطة بشخص المتعاقد معه ، لوجد الناس في
ذلك من الحرج والمشقة الشيء الكثير .
وبناء على جميع ما سبق ،
يتبين للسائل أيضا خطأ النتيجة التي توصل إليها ، وهي عدم معقولية الزواج من
النصرانية أو اليهودية ؛ فالشريعة لا تأتي بما تحيله العقول ، والزواج من الكتابية
من محاسن الإسلام العظيم ، الذي أثبت في تفاصيله التشريعية أنه الدين المهيمن على
الدين كله ، فلم يدعُ إلى إفناء أتباع الأديان الأخرى ، ولم يقطع كل أنواع التواصل
معهم ، بل بنى من جسور التواصل والتعارف بالزواج والتجارة وعقود الذمة والمعاهدة
وقيم الإحسان والأخلاق مجتمعات متماسكة ، وبلادا قوية ، ومكانا آمنا مستقرا للموافق
والمخالف ، فآل الأمر إلى أن يدخل الناس في دين الله أفواجا ، ويتأثر الكتابي
بالأخلاق الكريمة ، فيقبل على الدخول في الإسلام عن قناعة تامة ، من غير إجبار ولا
إكراه .
وهكذا حال الزوجات الكتابيات ، غالبا ما يتأثرن بأديان أزواجهن وأولادهن ، إذا ما
أحسن الأزواج والأولاد دعوتهن بالكلمة الطيبة والأخلاق الفاضلة ، وحينئذ تظهر أعظم
حكمة من حكم تشريع الزواج بهن ، كما سبق بيانه في موقعنا في الفتوى رقم : (154606)
، (164144) .
ومع ذلك نذكرك بأن فقهاءنا قرروا العديد من القيود على زواج المسلم من الكتابية ، يمكنك الاطلاع عليها في الأرقام الآتية : (20227) ، (44695) ، (95572) .
والله أعلم .
تعليق