الحمد لله.
ما دام الحق واضحاً عندك ، وغلب على ظنك أنه ليس هناك أي مخادعة منهم لنشر بدعتهم : فلا مانع من إجابتهم لما دعوك إليه وترك النقاش في مسائل الاختلاف ؛ اشتغالاً بما هو أهم وأولى ، وتعاوناً معهم على مواجهة الخطر الأعظم ، وتحقيقاً للمصلحة الكبرى.
فأنتم في بلاد أحوج ما تكونون فيها إلى التناصر والتعاون ، وليس إلى التفرق والتناحر ، والأمة اليوم تنتظر أن يؤدي كل منا دوره من موقعه للعمل على تجاوز أزماتنا الكبيرة ، المتمثلة في الانفصال عن الدين ، وفقدان الهوية ، والاستعمار المبطن ، والاحتلال ، والفقر ، والجهل ، وغياب العدالة ، وانتشار الظلم والطغيان ، ونحوها ، وهذه الأزمات لا يمكن تجاوزها بالاشتغال بالجدل ، ولا بإثارة الخلافات التي ما زالت قائمة عبر تاريخنا الإسلامي ، وأخذت حظا وافرا من الحوار والنقاش .
نحن لا نتحدث هنا عن تنازل عن معتقد السنة والجماعة لا قدر الله ، كما لا نتحدث عن إلغاء المباحثة في هذا المعتقد ، والحوار حوله ، وتحريره ، والاشتغال بأنساقه الفكرية والعقدية المؤثرة في بنية تفكيرنا المعاصر ، وكيف يمكن توجيه ذلك في سبيل عقول أوعى وقلوب أوثق .
وإنما نتحدث عن صيغة تعاون وتآلف يمكن من خلالها توجيه طاقاتنا نحو العمل والبناء والوحدة، ونتحدث عن استدعاء أجمل صفحاتنا الإسلامية ، وحقبنا المضيئة ، ومواقف علمائنا الأخلاقية العالية ، التي علمتنا – إلى جانب تمسكنا بمعتقد السنة والجماعة – أن نتراحم مع الخلق ، ولا نستطيل عليهم بحق ولا بغير حق ، مصداقاً للقاعدة العملية التي نقلها العلامة السعدي في كتابه ” المناظرات الفقهية ” (ص/10): ” نتعاون فيما اتفقنا عليه ، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه “.
وهكذا كانت سيرة كثير من العلماء في القديم والحديث ، سيرة تأليف للقلوب ، وتجاوز المختلف فيه ، إلى إطار أوسع وأرحب من العمل والتعاون ومعذرة المخالف ، وهي سيرة شيخ الإسلام ابن تيمية التي تجلت في العديد من المواقف والتقريرات ، ومن أهمها هذا النص الذي ننقله من كلامه رحمه الله ، حيث يقول :
” وَالنَّاسُ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ الْحَنْبَلِيَّةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ وَحْشَةٌ وَمُنَافَرَةٌ ، وَأَنَا كُنْت مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ تَأْلِيفًا لِقُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ ، وَطَلَبًا لِاتِّفَاقِ كَلِمَتِهِمْ ، وَاتِّبَاعًا لِمَا أُمِرْنَا بِهِ مِنْ الِاعْتِصَامِ بِحَبْلِ اللَّهِ ، وَأَزَلْت عَامَّةَ مَا كَانَ فِي النُّفُوسِ مِنْ الْوَحْشَةِ ، وَبَيَّنْت لَهُمْ أَنَّ الْأَشْعَرِيَّ كَانَ مِنْ أَجَلِّ الْمُتَكَلِّمِينَ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَنَحْوِهِ الْمُنْتَصِرِينَ لِطَرِيقِهِ ، كَمَا يَذْكُرُ الْأَشْعَرِيُّ ذَلِكَ فِي كُتُبِهِ…
وَلَمَّا أَظْهَرْت كَلَامَ الْأَشْعَرِيِّ – وَرَآهُ الْحَنْبَلِيَّةُ – قَالُوا: هَذَا خَيْرٌ مِنْ كَلَامِ الشَّيْخِ الْمُوَفَّقِ ، وَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِاتِّفَاقِ الْكَلِمَةِ.
وَأَظْهَرْت مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي مَنَاقِبِهِ: أَنَّهُ لَمْ تَزَلْ الْحَنَابِلَةُ وَالْأَشَاعِرَةُ مُتَّفِقِينَ إلَى زَمَنِ القشيري ، فَإِنَّهُ لَمَّا جَرَتْ تِلْكَ الْفِتْنَةُ بِبَغْدَادَ تَفَرَّقَتْ الْكَلِمَةُ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ فِي جَمِيعِ الطَّوَائِفِ مَنْ هُوَ زَائِغٌ وَمُسْتَقِيمٌ.
مَعَ أَنِّي فِي عُمْرِي إلَى سَاعَتِي هَذِهِ لَمْ أَدْعُ أَحَدًا قَطُّ فِي أُصُولِ الدِّينِ إلَى مَذْهَبٍ حَنْبَلِيٍّ وَغَيْرِ حَنْبَلِيٍّ، وَلَا انْتَصَرْت لِذَلِكَ، وَلَا أَذْكُرُهُ فِي كَلَامِي، وَلَا أَذْكُرُ إلَّا مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا… هَذَا مَعَ أَنِّي دَائِمًا وَمَنْ جَالَسَنِي يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنِّي: أَنِّي مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ نَهْيًا عَنْ أَنْ يُنْسَبَ مُعَيَّنٌ إلَى تَكْفِيرٍ وَتَفْسِيقٍ وَمَعْصِيَةٍ، إلَّا إذَا عُلِمَ أَنَّهُ قَدْ قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ الرسالية الَّتِي مَنْ خَالَفَهَا كَانَ كَافِرًا تَارَةً ، وَفَاسِقًا أُخْرَى ، وَعَاصِيًا أُخْرَى .
وَإِنِّي أُقَرِّرُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ خَطَأَهَا: وَذَلِكَ يَعُمُّ الْخَطَأَ فِي الْمَسَائِلِ الْخَبَرِيَّةِ الْقَوْلِيَّةِ ، وَالْمَسَائِلِ الْعَمَلِيَّةِ.
وَمَا زَالَ السَّلَفُ يَتَنَازَعُونَ فِي كَثِيرٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ ، وَلَمْ يَشْهَدْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى أَحَدٍ لَا بِكُفْرِ وَلَا بِفِسْقِ وَلَا مَعْصِيَةٍ ” انتهى من ” مجموع الفتاوى” (3/227) .
والمَدرك المهم هنا هو : أن عامة الناس وغير المختصين لا يطالبون بالدخول في قضايا الخلاف العقائدي ؛ لأن تصوراتهم في هذه القضايا ستبقى قاصرة عليلة ، وحينئذ لا يمكنهم إدارة اختلافهم فيها على الوجه المثمر النافع ، بل سينتقل الأمر إلى الشقاق والنزاع والفرقة ، بل إلى لغة التكفير والتبديع والتخوين ، والسبب هو عدم تحرير محل النزاع ، وعدم إدراك مقولات العلماء على وجهها الذي أرادوه .
ولهذا كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لا يفاتح عامة الناس بهذه القضايا أصلاً ، ولا يعرض مقولات الطوائف التفصيلية لغير المختصين ، كما أخبر عن نفسه بقوله : ” أَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: لَا يَتَعَرَّضُ لِأَحَادِيثِ الصِّفَاتِ وَآيَاتِهَا عِنْدَ الْعَوَامِّ: فَأَنَا مَا فَاتَحْت عَامِّيًّا فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ قَطُّ”. انتهى من “مجموع الفتاوى” (5/266) .
وليس المراد بذلك : التزهيد في تعلم جمل ما جاء به الكتاب والسنة ، ولا تفاصيل ذلك ، بحسب الطاقة ، ولكن المراد بيان مراعاة حال اجتماع المسلمين على جمل العلم والعمل الواردة في الكتاب والسنة ، والحرص على تآلف القلوب ، وتقديم ذلك على الاشتغال بتفاصيل الأمور العلمية ، التي لا تجب على كل أحد ؛ لا سيما في غير ديار الإسلام ، أو في زمان الاستضعاف ، وغربة السنة ؛ بل غربة الدين وأهله .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
” حَاجَةُ الْأُمَمِ إِلَى مَعْرِفَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ : أَكْثَرُ مِنْ حَاجَتِهِمْ إِلَى مَعْرِفَةِ التَّفَاصِيلِ بِالْخَبَرِيَّاتِ الَّتِي يُكْتَفَى بِالْإِيمَانِ الْمُجْمَلِ بِهَا، وَأَمَّا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ، فَلَابُدَّ مِنْ مَعْرِفَتِهِ عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ، إِذِ الْعَمَلُ بِالْمَأْمُورِ لَا يَكُونُ إِلَّا مُفَصَّلًا، وَالْمَحْظُورُ الَّذِي يَجِبُ اجْتِنَابُهُ لَابُدَّ أَنْ يُمَيَّزَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ..” انتهى، من “الجواب الصحيح” (3/34) .
وقال : ” الْأَفْعَال الْمَأْمُور بِهَا الْمَطْلُوبُ فِيهَا الْفِعْلُ لَا يَكْفِي فِيهَا الِاعْتِقَادُ الْعَامُّ ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِقَادٍ خَاصٍّ؛ بِخِلَافِ الْأُمُورِ الْخَبَرِيَّةِ ؛ فَإِنَّ الْإِيمَانَ الْمُجْمَلَ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ مِنْ صِفَاتِ الرَّبِّ وَأَمْرِ الْمُعَادِ يَكْفِي فِيهِ مَا لَمْ يَنْقُضْ الْجُمْلَةَ بِالتَّفْصِيلِ.
وَلِهَذَا اكْتَفَوْا فِي هَذِهِ الْعَقَائِدِ بِالْجُمَلِ ، وَكَرِهُوا فِيهَا التَّفْصِيلَ الْمُفْضِيَ إلَى الْقِتَالِ وَالْفِتْنَةِ ، بِخِلَافِ الشَّرَائِعِ الْمَأْمُورِ بِهَا؛ فَإِنَّهُ لَا يَكْتَفِي فِيهَا بِالْجُمَلِ؛ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ تَفْصِيلِهَا عِلْمًا وَعَمَلًا”. انتهى ، من “مجموع الفتاوى” (20/99) ، وينظر : “مجموع الفتاوى” (17/388) .
وقال أيضا :
” وَالْوَاجِبُ أَمْرُ الْعَامَّةِ بِالْجُمَلِ الثَّابِتَةِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ ، وَمَنْعُهُمْ مِنْ الْخَوْضِ فِي التَّفْصِيلِ الَّذِي يُوقِعُ بَيْنَهُمْ الْفُرْقَةَ وَالِاخْتِلَافَ ، فَإِنَّ الْفُرْقَةَ وَالِاخْتِلَافَ مِنْ أَعْظَمِ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ” انتهى، من “مجموع الفتاوى” (12/237) .
وهنا يمكننا أن نستدل بحديث جُنْدَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( اقْرَءُوا القُرْآنَ مَا ائْتَلَفَتْ قُلُوبُكُمْ ، فَإِذَا اخْتَلَفْتُمْ فَقُومُوا عَنْهُ ) رواه البخاري (5060) ومسلم (2667)
يقول الإمام النووي رحمه الله:
” الأمر بالقيام عند الاختلاف في القرآن محمول عند العلماء على اختلاف لا يجوز، أو اختلاف يوقع فيما لا يجوز، كاختلاف في نفس القرآن، أو في معنى منه لا يسوغ فيه الاجتهاد، أو اختلاف يوقع في شك أو شبهة أو فتنة وخصومة أو شجار ونحو ذلك.
وأما الاختلاف في استنباط فروع الدين منه ، ومناظرة أهل العلم في ذلك على سبيل الفائدة وإظهار الحق ، واختلافهم في ذلك ، فليس منهيا عنه ، بل هو مأمور به ، وفضيلة ظاهرة ، وقد أجمع المسلمون على هذا من عهد الصحابة إلى الآن ” انتهى من ” شرح مسلم ” (16/ 218-219).
وينظر جواب السؤال رقم : (192079).
وما ذكرناه سابقا ، ينبغي أن يراعى في تقريره أمران مهمان :
الأول : أن من يجهل شيئا من أمر الدين ، إنما يعذر بذلك ، ما لم تتبين له الحجة ، ويبلغه العلم الذي جاء به الرسول ، فمتى بلغه ذلك على وجه البيان الذي تقوم به الحجة ، لم يحل له أن يعرض عنه ، أو يعارضه بقول شيخ أو مُعَظَّم ، أو قاعدة مذهب ، أو نحو ذلك ؛ قال الله تعالى : ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ) الأحزاب/36
وينظر جواب السؤال رقم : (228033).
الثاني : أن من يعرف تفاصيل ما جاء به الرسول ، بحسب حاله وطاقته ، سواء في الأمور العلمية الاعتقادية ، أو في الأمور العملية : فهو أفضل ، وأكمل مقاما ، بلا شك ممن جهل ذلك ، أو شيئا منه ، سواء كان معذورا بذلك الجهل أو مفرطا ملوما .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
” ومن الناس من يؤمن بالرسل إيمانا مجملا ، وأما الإيمان المفصل فيكون قد بلغه كثير مما جاءت به الرسل ، ولم يبلغه بعض ذلك ؛ فيؤمن بما بلغه عن الرسل ، وما لم يبلغه لم يعرفه ، ولو بلغه لآمن به ، ولكن آمن بما جاءت به الرسل إيمانا مجملا .
فهذا إذا عمل بما علم أن الله أمره به ، مع إيمانه وتقواه : فهو من أولياء الله تعالى ، له من ولاية الله بحسب إيمانه وتقواه .
وما لم تقم عليه الحجة : فإن الله تعالى لم يكلفه معرفته ، والإيمان المفصل به ؛ فلا يعذبه على تركه؛ لكن يفوته من كمال ولاية الله بحسب ما فاته من ذلك .
فمن علم بما جاء به الرسل ، وآمن به إيمانا مفصلا ، وعمل به : فهو أكمل إيمانا وولاية لله ممن لم يعلم ذلك مفصلا ، ولم يعمل به؛ وكلاهما ولي لله تعالى.
والجنة درجات متفاضلة تفاضلا عظيما ، وأولياء الله المؤمنون المتقون في تلك الدرجات بحسب إيمانهم وتقواهم..” . انتهى من “مجموع الفتاوى” (11/ 187-188) .
والخلاصة :
النصيحة لك أن تجتمع مع هؤلاء الطلبة الحريصين على دينهم في العمل الدعوي والطلابي النافع لأجل نصرة الإسلام والمسلمين ، ونصرة قضايا الأمة الكبرى وكليات ديننا العظيم ، وأن تتركوا عنكم الجدل في التفاصيل العقائدية إذا كان سيؤدي إلى فرقة وشقاق واختلاف ، أما إذا جرى الحوار حولها بالحكمة والموعظة الحسنة ، واجتمعت إليها المحبة والمودة بينكم ، فلا بأس في هذه الحالة ولا حرج .
والله أعلم .
تعليق