الحمد لله.
الحقيقة العلمية من خلق الله عز وجل ، والكتاب والسنة مصدرهما الله سبحانه ، وما يصدر عن الله سبحانه – سواء وحيا أم خلقا وإيجادا – لا يمكن أن يتناقض ؛ لأنك تتحدث عن الله سبحانه الذي هو صاحب الكمال المطلق ، والعلم الشامل لجميع الكليات والجزئيات ، فهو منزه سبحانه وتعالى عن التناقض في خلقه ووحيه ، فهما من مشكاة واحدة ، قال تعالى: ( وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ) النساء/ 82 .
فإذا انطلقت من هذه الفكرة أدركت أن كل ما نظنه تعارضا – في الظاهر – بين الحقيقة العلمية والحديث النبوي فهو ظن خاطئ ، لا بد على الباحث أن يسعى في دراسته والتأمل فيه من المنظور الكلي السابق، منظور "اتحاد" العقل (ومنه التجربة والعلم) والشرع، ليكتشف أن ثمة مغالطة أدت إلى ظن هذا التعارض، وإلا فحقيقة الأمر هي التوافق والاتحاد، كما يقول الراغب الأصفهاني رحمه الله – عن العقل والشرع-: "هما متعاضدان ؛ بل متحدان" .
انتهى من "تفصيل النشأتين" (ص74).
وهذا يعني احتمال البحث لأوجه عديدة في فض هذه المعارضة الظاهرية، نذكر بعضها ، أو أهمها:
الوجه الأول:
تحقيق أن الحديث المعين، المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم : لا يثبت إسناده أصلا، وأن صحته المظنونة بنيت على أساس خاطئ ، يتبين ضعفه مع إعادة الدراسة ، وتحقيقها ، لفك التعارض.
فتكون الحقيقة العلمية في هذه الحالة وسيلة مساعدة لاكتشاف العلة الإسنادية، ولولا الوقوف على هذه الوسيلة ، لكان الناقد قد أخذ بالصحة الظاهرية ، دون التعمق في العلل الخفية.
يقول ابن أبي حاتم الرازي رحمه الله:
"يقاس صحة الحديث بعدالة ناقليه، وأن يكون كلاما يصلح أن يكون من كلام النبوة" .
انتهى من "الجرح والتعديل" (1/351) .
وكما قال ابن الجوزي أيضا:
"ألا ترى أنه لو اجتمع خلق من الثقات، فأخبروا أن الجمل دخل في سم الخياط، لما نفعتنا ثقتهم، ولا أثرت في خبرهم؛ لأنهم أخبروا بمستحيل، فكل حديث يخالف المعقول، أو يناقض الأصول، فاعلم أنه موضوع ، فلا تتكلف في اعتباره" انتهى من "الموضوعات" (1/106) .
ونحوه قول الإمام العراقي رحمه الله :
"ومما يستدل به على وضع الحديث : مخالفةُ الواقع" .
انتهى. نقله ابن حجر في "القول المسدد" (ص9) .
ومن أمثلته حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: (مَنْ حَدَّثَ حَدِيثًا ، فَعَطَسَ عِنْدَهُ ، فَهُوَ حَقٌّ) رواه أبويعلى في "المسند" (11/234) بإسناد حسنه بعض العلماء ، كالنووي في "الأذكار" (ص275)، والسيوطي في "الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة" (ص183)
ولكن قال بعض المحدثين المتأخرين: "هذا حديث باطل ؛ ولو كان إسناده كالشمس" انتهى. نقله الزركشي في "اللآلئ المنثورة" (ص211) .
وقال ابن القيم:
"هذا – وإن صحح بعض الناس سنده – فالحس يشهد بوضعه؛ لأنا نشاهد العطاس والكذب يعمل عمله، ولو عطس مائة ألف رجل عند حديث يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحكم بصحته بالعطاس، ولو عكسوا عند شهادة زور لم تصدق" انتهى.
فتأمل استدلال ابن القيم رحمه الله بمخالفة الحديث للحس والواقع؛ على بطلان الحديث .
على أن إسناد هذا الحديث ليس صحيحا ولا حسنا ؛ بل هو ضعيف جدا ، ولذلك قال أبو حاتم الرازي: "هذا حديث كذب" ، كما في "العلل" (6/311).
وللوقوف على تفصيل علة الحديث يرجى مراجعة "الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة" للشوكاني، وتعليق العلامة المعلمي عليه (ص224) ، وأيضا : "سلسلة الأحاديث الضعيفة" للألباني (136).
ولكن هذا المنهج النقدي – كما ترى – منضبط بعلوم الحديث وقواعد التعليل، ومنضبط أيضا بمخالفة الحديث للواقع مخالفة صريحة واضحة، وليس كما ينحو بعض الطاعنين في السنة ، إلى رد كل حديث لا يخالف الواقع والعلم، وإنما يخالف أهواءهم ورغباتهم التي لا ضابط لها، ولا حاكم عليها، ودون الرجوع إلى قواعد تعليل الأحاديث التي يرجع إليها المحدثون.
وينبغي أن نشير هنا إلى مسألة ، هي من الأهمية بمكان في هذا الصدد ، سبق إلى تقريرها الإمام الشافعي رحمه الله ؛ وهي أن هذا النوع من الحديث ، الذي تكتشف ضعف نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، بهذه الوسيلة ، ونحوها ، لا يكاد يتفق إلا في القليل النادر من حديث النبي صلى الله عليه وسلم .
قال الإمام الشافعي رحمه الله :
"ولا يُستدل على أكثرِ صدق الحديث وكذبه إلا بصدق اُلمخبِر وكذبه، إلا في الخاصِّ القليل من الحديث، وذلك أن يُستدل على الصدق والكذب فيه بأن يُحَدِّث المحدث ما لا يجوز أن يكون مثله، أو ما يخالفه ما هو أَثبتُ وأكثرُ دلالاتٍ بالصدق منه " انتهى من "الرسالة" (ص399).
الوجه الثاني:
قد يتبين للباحث أن ما يظنه حقيقة علمية في واقع الأمر ليس كذلك، بل للعلم والتجربة فيه كلمة أخرى باقية توافق الحديث النبوي، فلا يبقى وجه لدعوى التناقض.
ومن أمثلة هذا الوجه رد بعض الناس حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الذباب، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي شَرَابِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ ثُمَّ لِيَنْزِعْهُ فَإِنَّ فِي إِحْدَى جَنَاحَيْهِ دَاءً وَالْأُخْرَى شِفَاءً) البخاري (3320) .
قال الخطابي:
"تكلم على هذا الحديث بعض من لا خَلاق له ، وقال: كيف يكون هذا ؟ وكيف يجتمع الداء والشفاء في جناحي الذبابة ؟ وكيف تعلم ذلك من نفسها ، حتى تقدم جناح الداء ، وتؤخر جناح الشفاء، وما أَرَبُها إلى ذلك" انتهى من "معالم السنن" (4/259) .
وهذا الاعتراض سببه الأول التسرع في النفي، وقد كان بالإمكان الجواب على هذا الطعن كما قال المعلمي:
"بأي إيمان ينفي أبو رية وأضرابه ، أن يكون الله تعالى أطلع رسوله صلى الله عليه وسلم على أمر لم يصل إليه علم الطبيعة بعد " انتهى من "الأنوار الكاشفة" (ص221) .
وقد أكدت بعض الأبحاث المعاصرة أن حديث الذباب يشتمل على واقع علمي، وأن الذباب يشتمل فعلا على الداء المتمثل بالبكتيريا الضارة، وعلى الدواء المتمثل بالمضادات لتلك البكتيريا. ومن أقوى الأبحاث العلمية التجريبية التي أقيمت في هذا الموضوع : بحث الأستاذ الدكتور مصطفى إبراهيم حسن، أستاذ الحشرات الطبية ، ومدير مركز أبحاث ودراسات الحشرات الناقلة للأمراض، بعنوان "الداء والدواء في جناحي الذباب"، يمكن الاطلاع عليه على الرابط الآتي:
http://www.eajaz.org/arabic/index.php?option=com_content&view=article&id=89
ولذلك لا يجوز أن يستعجل الباحث في ادعاء امتلاك الحقيقة العلمية، سواء في ضرر غمس الذباب في الماء ، أو في غيرها من المسائل – قبل أن يتحقق من الأمر بالتجارب العلمية المنضبطة.
وليعلم أن التسرع "بالنفي" آفة خطيرة ، غالبا ما تؤدي إلى الوقوع في المغالطات والنتائج الخاطئة. وحديث "الذباب" هذا أكبر عظة في هذا السياق.
ونحوه أيضا حديث "انشقاق القمر"، فعلماء الحديث لم يروا في التصديق بحادثة انشقاق القمر أي غضاضة أو تردد، وأثبتوا كثيرا من المرويات الواردة في تقرير هذه الحادثة .
من أهمها ما يروى في الصحيحين عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: " انْشَقَّ القَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شِقَّتَيْنِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( اشْهَدُوا) " البخاري (3636) ، ومسلم (2800).
وما يستعجل به بعض الباحثين من استعجال رد الحديث بدعوى مخالفته واقع العلوم الفلكية ، هو من مغالطة النفي السابقة ، فعلوم الفضاء لا تنفي أبدا تعرض القمر للانشقاق، وعدم إثباتها وجوده لا يعني النفي، فلا بد من إحالة الأمر إلى البحث العلمي الخاص ، قبل التعرض للحديث بالتأويل، فضلا عن الرد.
الوجه الثالث:
في العديد من الأحوال يتبين أن التعارض الظاهري سببه الفهم الخاطئ للحديث النبوي الشريف، وأن التفسير الصحيح، والتأويل الدقيق، هو السبيل الكفيل بفك ذلك التعارض الظاهري.
كمثل الفهم الخاطئ لحديث (لاَ عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ، وَلاَ هَامَةَ وَلاَ صَفَرَ، وَفِرَّ مِنَ المَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَسَدِ) رواه البخاري (5707)، ومسلم (2220) .
حيث ظن بعض الطاعنين أن الحديث ينفي العدوى ، بمعنى السبب الطبيعي الذي ينتقل المرض خلاله من المريض إلى السليم، فراحوا ينكرون الخبر ويردونه .
في حين أن هذا فهم خاطئ للحديث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى السليم أن يختلط بالمريض، وأوصى بالحجر الصحي على المصاب بالطاعون، وكله ثابت في أحاديث صحيحة مشهورة، بل في سياق الحديث نفسه ـ (لا عدوى) ـ يقول : (فر من المجذوم)، فلا يمكن أن يقع التناقض في حديث واحد.
فالعدوى المنفية إذن هي تلك التي تعشعش في أذهان الجاهليين، والتي ترتبط بدواب وكائنات خرافية، تسكن المريض ثم تغادره وتسكن جسد السليم فيسقم.
قال أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله:
" الصفر: دواب البطن. قال أبو عبيدة: سمعت يونس يسأل رؤبة بن العجاج عن الصفر فقال: هي حية تكون في البطن تصيب الماشية والناس، وهي أعدى من الجرب عند العرب.
قال أبو عبيد: فأبطل النبي عليه السلام أنها تعدي. ويقال: إنها تشتد علي الإنسان إذا جاع وتؤذيه" انتهى من "غريب الحديث" (1/ 25) .
وقد سبق التوسع في شرح هذا الحديث في الجواب رقم: (45694) .
فإذا ثبتت الحقيقة العلمية ، وكان إسناد الحديث صحيحا : فلا بد من حمل الحديث على معنى لا يخالف الحقيقة العلمية ، ولو بنوع من التأويل ، بشرط أن تكون اللغة تسمح بذلك الوجه من التأويل .
هذه أوجه مختصرة، يمكن الاستعانة بها في حل التعارض الظاهري بين العلم أو الواقع من جهة، والحديث الشريف من جهة أخرى، يظهر من خلالها أن الأمر لا يخضع لقاعدة واحدة مطلقة، بل لا بد من التفصيل والبيان، والموازنة بميزان العلم والعدل.
ومن سلك هذا السبيل فقد أصاب وأنصف، ولا يجوز أن يتعرض له بالتكفير أو التبديع.
أما من ينكر الحديث من غير سلوك مناهج العدل والإنصاف ، فقد سبق بيان حكمه في الجواب : (115125) .
وللتوسع يمكن الرجوع إلى أطروحة دكتوراة بعنوان: "أثر العلم التجريبي في الكشف عن نقد الحديث النبوي"، للدكتور جميل أبو سارة ، وفقه الله ، من مطبوعات مركز نماء. فعنها استفدنا أكثر أفكار ما سبق من الجواب.
والله أعلم.
تعليق