الحمد لله.
أولا:
العقائد مبناها على التوقيف، وهذه جملة صحيحة معناها: أنه لا يثبت أمر عقدي إلا بدليل من الكتاب أو السنة أو الإجماع .
وقول الصحابي مما لا مجال للرأي فيه ، إذا لم يكن معروفا بالأخذ عن أهل الكتاب: له حكم المرفوع، كما هو مقرر في الأصول والمصطلح.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفيه أن أبا هريرة لم يكن يأخذ عن أهل الكتاب ، وأن الصحابي الذي يكون كذلك ، إذا أخبر بما لا مجال للرأي والاجتهاد فيه : يكون للحديث حكم الرفع" انتهى من " فتح الباري " (6/353).
وقال رحمه الله : " والحق أن ضابط ما يفسره الصحابي - رضي الله عنه - إن كان مما لا مجال للاجتهاد فيه، ولا منقولا عن لسان العرب، فحكمه الرفع ، وإلا فلا، كالأخبار عن الأمور الماضية ، من بدء الخلق وقصص الأنبياء ، وعن الأمور الآتية ، كالملاحم والفتن والبعث وصفة الجنة والنار، والأخبار عن عمل يحصل به ثواب مخصوص أو عقاب مخصوص، فهذه الأشياء لا مجال للاجتهاد فيها ، فيحكم لها بالرفع.
قال أبو عمرو الداني: "قد يحكى الصحابي - رضي الله عنه - قولا يوقفه، فيخرجه أهل الحديث في المسند ، لامتناع أن يكون الصحابي - رضي الله عنه - قاله إلا بتوقيف. كما روى أبو صالح السمان عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات لا يجدن عرف الجنة ..." الحديث؛ لأن مثل هذا لا يقال: بالرأي، فيكون من جملة المسند".
وأما إذا فسر آية تتعلق بحكم شرعي فيحتمل أن يكون ذلك مستفادا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن القواعد، فلا يجزم برفعه.
وكذا إذا فسر مفردا فهذا نقلٌ عن اللسان خاصة، فلا يجزم برفعه.
وهذا التحرير الذي حررناه هو معتمد خلق كثير من كبار الأئمة كصاحبي الصحيح، والإمام الشافعي، وأبي جعفر الطبري، وأبي جعفر الطحاوي، وأبي بكر ابن مردويه في تفسير المسند، والبيهقي، وابن عبد البر، في آخرين.
إلا أنه يستثنى من ذلك ما كان المفسِّر له من الصحابة - رضي الله تعالى عنهم- من عرف بالنظر في الإسرائيليات ، كمسلمة أهل الكتاب مثل عبد الله بن سلام وغيره.
وكعبد الله بن عمرو بن العاص، فإنه كان حصل له في وقعة اليرموك كتب كثيرة من كتب أهل الكتاب، فكان يخبر بما فيها من الأمور المغيبة حتى كان بعض أصحابه ربما قال له: حدثنا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا تحدثنا عن الصحيفة، فمثل هذا لا يكون حكم ما يخبر به من الأمور التي قدمنا ذكرها الرفع ؛ لقوة الاحتمال والله أعلم " .
انتهى من " النكت على مقدمة ابن الصلاح" (2/533).
وقال الشيخ محمد الأمين
الشنقيطي رحمه الله تعالى : " فإن كان مما لا مجال للرأي فيه ، فهو في حكم المرفوع
، كما تقرر في علم الحديث ، فيقدَّمُ على القياس ، ويُخَصُّ به النص , إن لم
يُعْرَف الصحابي بالأخذ من الإسرائيليات "انتهى من " مذكرة أصول الفقه " ( ص 256 ).
وانظر تفصيل الكلام على حجية قول الصحابي في الجواب رقم : (229770)
.
ومن أمثلة احتجاج أهل السنة
بقول الصحابي في العقيدة: احتجاجهم بقول ابن عباس: " الكرسي موضع القدمين، والعرش
لا يقدُر أحدٌ قدرَه" أخرجه الدارمي في "الرد على بشر المريسي "(1/400)، وعبد الله
بن أحمد في "السنة" (1/300)، وابن أبي شيبة في "العرش"، ص437، وابن خزيمة في "التوحيد"
(1/248)، وابن جرير في تفسيره (5/398)، والدارقطني في "الصفات"، ص49، والحاكم في "المستدرك"
(2/ 310)، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني
في "مختصر العلو"( ص75).
ثانيا:
لا يجوز الاحتجاج بالحديث الضعيف في إثبات شيء من العقائد أو الأحكام، وإنما يجوز
العمل به في الفضائل عند بعض أهل العلم بشروط ، وقد سبق بيان هذا في جواب السؤال
رقم: (44877) .
وحديث: ( إذا أصاب أحدكم
عرجة بأرض فلاة فليناد أعينوا عباد الله يرحمكم الله تعالى) حديث ضعيف كما سبق
بيانه في جواب السؤال رقم : (181206).
ومثله حديث: (إذَا أَضَلَّ أَحَدُكُمْ شَيْئًا ، أَوْ أَرَادَ أَحَدُكُمْ عَوْنًا ،
وَهُوَ بِأَرْضٍ لَيْسَ بِهَا أَنِيسٌ ، فَلْيَقُلْ : يَا عِبَادَ اللَّهِ
أَغِيثُونِي ، يَا عِبَادَ اللَّهِ أَغِيثُونِي ، فَإِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا لا
نَرَاهُمْ) وانظر: السؤال رقم : (132642)
.
فمن رأى ضعف الحديث لم يجز
له العمل به في هذه المسألة العقدية ، وهي مناداة الملائكة ؛ لأنه لم يؤذن لنا في
ذلك ، والأصل منع سؤال غير الله إلا الحي الحاضر فيما يقدر عليه ، وليس لأحد إذا
نزل به ضر أو مكروه أن يقول: يا جبريل أو يا ميكائيل، فإن ذلك من الشرك بالله تعالى.
لكن قد جاء هذا الحديث موقوفا من كلام ابن عباس رضي الله عنه.
قال البيهقي: " هَذَا مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ، مُسْتَعْمَلٌ عِنْدَ
الصَّالِحِينَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ لِوُجُودِ صِدْقِهِ عِنْدَهُمْ فِيمَا
جَرَّبُوا " انتهى من " الآداب للبيهقي" (ص: 269).
وممن عمل بهذا الحديث :
الإمام أحمد بن حنبل.
قال عبد الله بن الإمام أحمد : " سمعت أبي يقول : حججْت خمس حجج ، منها ثنتين
راكبًا ، وثلاثة ماشياً أو ثِنْتَيْنِ ماشياً وثلاثة راكبًا ، فضللت الطَّرِيق في
حجَّة ، وكنت مَاشِيا ، فجعلت أقول : يا عباد الله دلوني على الطَّرِيق ، فلم أزل
أقول ذلك حتى وقفتُ على الطريق " .
انتهى من "مسائل الإمام أحمد رواية ابنه عبد الله" (ص: 245) ، وينظر: "تاريخ دمشق"
لابن عساكر (5/ 298(.
فمن عمل بهذا، فلصحة الحديث
عنده ، أو لصحته عن ابن عباس، وقد تقدم بيان أن مثل هذا له حكم المرفوع .
والحديث محتمل للتحسين، ولهذا حسنه ابن حجر والسخاوي والألباني، واستظهر أن أحمد
كان يقويه.
قال الألباني بعد نقل تحسين ابن حجر والسخاوي: " ويبدو أن حديث ابن عباس الذي حسنه
الحافظ كان الإمام أحمد يقويه ، لأنه قد عمل به ، فقال ابنه عبد الله في " المسائل
" ( 217 ) : " سمعت أبي يقول : حججت خمس حجج منها ثنتين [ راكبا ] وثلاثة ماشيا ،
أو ثنتين ماشيا وثلاثة راكبا ، فضللت الطريق في حجة وكنت ماشيا ، فجعلت أقول : ( يا
عباد الله دلونا على الطريق ! ) فلم أزل أقول ذلك حتى وقفت على الطريق . أو كما قال
أبي .
ورواه البيهقي في " الشعب " ( 2 / 455 / 2 ) وابن عساكر ( 3 / 72 / 1 ) من طريق عبد
الله بسند صحيح .
وبعد كتابة ما سبق وقفت على إسناد البزار في " زوائده " ( ص 303 ) : حدثنا موسى بن
إسحاق : حدثنا منجاب بن الحارث : حدثنا حاتم بن إسماعيل عن أسامة بن زيد [ عن أبان
] ابن صالح عن مجاهد عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : فذكره .
قلت : وهذا إسناد حسن كما قالوا ، فإن رجاله كلهم ثقات غير أسامة بن زيد وهو الليثي
، وهو من رجال مسلم ، على ضعف في حفظه ، قال الحافظ في " التقريب " : " صدوق يهم "
.
وموسى بن إسحاق هو أبو بكر الأنصاري ثقة ، ترجمه الخطيب البغدادي في " تاريخه " (13
/ 52 - 54) ترجمة جيدة " انتهى من "السلسلة الضعيفة" (2/111).
ثالثا:
إذا صح الحديث ، أو حسن فلا إشكال في معناه، فيكون من الاستعانة بالحي الحاضر فيما
يقدر عليه، وهذا مشروع اتفاقا. قال تعالى: (فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ
عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ) القصص/15، وقال
النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: (ناوليني الخمرة من المسجد) رواه مسلم (298) .
فإذا ثبت الحديث ، وأن هناك ملائكة تعين الضال، كان هذا بمثابة أن تقول لصاحبك:
أعني، أو رد علي دابتي، فهي استعانة بحاضر في أمر يقدر عليه.
قال الألباني رحمه الله في
الموضع السابق: " فهذا الحديث - إذا صح - يعين أن المراد بقوله في الحديث الأول "
يا عباد الله " : إنما هم الملائكة ، فلا يجوز أن يلحق بهم المسلمون من الجن أو
الإنس ، ممن يسمونهم برجال الغيب من الأولياء والصالحين ، سواء كانوا أحياء أو
أمواتا ، فإن الاستغاثة بهم وطلب العون منهم شرك بين لأنهم لا يسمعون الدعاء ، ولو
سمعوا لما استطاعوا الاستجابة وتحقيق الرغبة ، وهذا صريح في آيات كثيرة ، منها قوله
تبارك وتعالى : ( والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير ، إن تدعوهم لا يسمعوا
دعائكم ، ولو سمعوا ما استجابوا لكم ، ويوم القيامة يكفرون بشرككم ، ولا ينبئك مثل
خبير ) ( فاطر 13 - 14 )" انتهى.
وقال الشيخ صالح آل الشيخ : " والحديث لا يدل على ما يدعيه المبطلة من سؤال الموتى
ونحوهم ، بل إنه صريح في أن من يخاطبه ضالُّ الطريق هم : الملائكة ، وهم يسمعون
مخاطبته لهم ، ويقدرون على الإجابة بإذن ربهم ؛ لأنهم أحياء ممكَّنون من دلالة
الضال ، فهم عباد لله ، أحياء يسمعون ، ويجيبون بما أقدرهم عليه ربهم ، وهو إرشاد
ضالي الطريق في الفلاة ، ومن استدل بهذه الآثار على نداءِ شخص معين باسمه ، فقد كذب
على رسول الله ، ولم يلاحظ ويتدبر كلام النبي صلى الله عليه وسلم ، وذاك سيما أهل
الأهواء" .
انتهى من " هذه مفاهيمنا (ص: 56) ، بتصرف يسير .
والله أعلم.
تعليق