الحمد لله.
لا نعلم شيئا عما يمكن أن يكون عليه حال الإنسان ، وحاجته إلى طرح مثل هذه التساؤلات .
وإذا كانت الجنة نعيما خالصا ، لا تنغيص فيه ولا كدر ؛ فإننا لا نعلم على وجه اليقين : هل يبقى ذلك القلق المعرفي : نعيما لأهل الجنة ، يطلبه من يطلبه منهم ، ويتلذذ به ، كحال محبي الحكمة والمعرفة في الدنيا ؟ أم لا يبقى ذلك نعيما هناك ، وقد بلغوا من "عين اليقين" ، و"حق اليقين" ، ما بلغوا ، وتلذذوا بالنظر إلى وجه الله الكريم .
لا علم لنا ببقاء شيء من ذلك في الجنة .
غير أنه إذا قدر أن يبقى شيء من ذلك نعيما ، هناك ؛ فليس ثمة ما يمنع من طرح مثل هذه الأسئلة في الجنة، والحصول على جوابها، على الصفة والحال التي يقدرها رب العالمين لأهل كرامته .
ذلك أن ظواهر الآيات الكريمات تدل على وقوف المؤمن على كل ما يشتهيه ويطلبه، سواء تعلق بملاذ عملية وبدنية، أم بمعارف عقلية وقلبية، وأحوال روحية، كلها داخلة في قول الله عز وجل: (وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ. نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) [فصلت: 31، 32]
وقد ثبت عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَوْمًا يُحَدِّثُ، وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ البَادِيَةِ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ فِي الزَّرْعِ. فَقَالَ لَهُ: أَلَسْتَ فِيمَا شِئْتَ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَزْرَعَ. قَالَ: فَبَذَرَ. فَبَادَرَ الطَّرْفَ نَبَاتُهُ وَاسْتِوَاؤُهُ وَاسْتِحْصَادُهُ، فَكَانَ أَمْثَالَ الجِبَالِ. فَيَقُولُ اللَّهُ: دُونَكَ يَا ابْنَ آدَمَ، فَإِنَّهُ لاَ يُشْبِعُكَ شَيْءٌ.
فَقَالَ الأَعْرَابِيُّ: وَاللَّهِ لاَ تَجِدُهُ إِلَّا قُرَشِيًّا، أَوْ أَنْصَارِيًّا، فَإِنَّهُمْ أَصْحَابُ زَرْعٍ، وَأَمَّا نَحْنُ فَلَسْنَا بِأَصْحَابِ زَرْعٍ. فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) رواه البخاري (2348)
يقول ابن بطال رحمه الله:
"قال المهلب: في هذا الحديث أن كل ما اشتهي في الجنة من أعمال الدنيا ولَذّاتها فممكن فيها، لقوله تعالى: (وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين)" انتهى من "شرح صحيح البخارى لابن بطال" (6/ 488) .
وقد وردت أدلة أخرى تؤكد أن ما يطلبه المؤمن في الجنة من النعيم يتحقق له، حتى لو كان في أصله من شأن الدنيا، كما ورد عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الْمُؤْمِنُ إِذَا اشْتَهَى الوَلَدَ فِي الجَنَّةِ كَانَ حَمْلُهُ وَوَضْعُهُ وَسِنُّهُ فِي سَاعَةٍ كَمَا يَشْتَهِي) رواه الترمذي في "السنن" (2563) وقال: حسن غريب.
فأحرى بالمؤمن في الجنة أيضا أن يجاب إذا تساءل عن بعض العلوم ، والحقائق الغائبة عنه، سواء تعلقت بشأن الغيب، أم بشأن ما سلف في الدنيا، متى ظل ذلك من النعيم الذي يتنعم به قلب المؤمن ، واللذة التي تشتهيها نفسه . وقد قال الله عز وجل: (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ) [النحل: 31]. فإذا شاء تحصيل تلك المعرفة كانت له بإذن الله.
وأما انشغال الفكر في الدنيا بها، فلا ينبغي أن يخرج عن إطار أدلة الكتاب والسنة، وأقوال أئمة العلم وتقريراتهم، فعالم الغيب عالم فسيح، الخوض فيه من غير منارة علمية سماوية لا يعود على الباحث بطائل، سوى شغل التفكير ومتاهة التعقل.
والمهم قبل ذلك كله وبعده هو الاشتغال بالعمل النافع، والإصلاح، ومحاربة الفساد، وهداية الناس لدعوة الحق والعدل والخير، وإرشادهم إلى الله سبحانه، وما بعد ذلك من تفاصيل الجدل ودقائق العلوم فيمكن تركها لله سبحانه، هو أعلم بها.
والله أعلم.
تعليق