الحمد لله.
هذه الشبهة لا تشتمل على أي طرح جديد، فقد طرح نحوها بعض كفار العرب الأوائل الذين أبهرهم ما ورد في القرآن الكريم من علوم الغيب وأخبار السابقين وقصص الأنبياء، الأمر الذي لم تكن البيئة العربية في قلب الجزيرة العربية على اطلاع عليه، ولا على معرفة به، نتيجة بعدهم عن مراكز الحضارة، وعدم اشتغالهم بالعلوم، وعدم بلوغ الكتب السماوية لهم، فتساءلوا من أين جاء محمد بن عبد الله – عليه الصلاة والسلام – بهذه الحقائق التاريخية المفصلة في القرآن الكريم.
ونحن نقول إن هذا – بعينه - هو مكمن الإعجاز والتحدي، أن يأتي الرسول أو النبي بما لا يمكن ولا يتأتى لأهل محيطه الإتيان به أو الاطلاع عليه، ولا يمكن للرسول نفسه أن يجيء به إلا بتمكين الله جل جلاله له .
أما إذا استند إلى معارفه ، وما توفره له بيئته من إمكانات عقلية أو علمية : فلا يمكنه بحال من الأحوال أن يحقق هذا الإعجاز.
وما ذكرته في سؤالك خير مثال على ذلك، فمن أين قرأ محمد بن عبد الله – عليه الصلاة والسلام كتب أرسطو! وكيف حصل عليها! أو من علمه علوم هذا الفيلسوف الكبير! ومعلوم أن العرب كلهم لم يطلعوا على أرسطو إلا حين ترجمت كتبه إلى العربية في العهد العباسي الأول، لا يختلف في ذلك المؤرخون، المسلمون منهم وغير المسلمين.
وهذا ما وقع لكثير من الأنبياء في معجزاتهم، فالسيد المسيح عليه السلام كان يبرئ الأعمى والأكمه والأبرص، الأمر الذي لا يتحصل لأحد من البشر ذلك الزمان، ولم تبلغه العلوم الطبية أبدا في ذلك الوقت، فقد كان أمرا معجزا في تلك البلاد في ذلك الحين .
فليس لأحد أن يقول إن العلوم الطبية اليوم قادرة على تحقيق شفاء أكثر أمراض العمى والكمه والبرص ؛ فأين هو الإعجاز إذن ؟!
أو يقول كان شفاء العمى والبرص مشتهرا في حضارة الصين القديمة مثلا قبل المسيح عليه السلام. فأين الإعجاز؟!
ونحن نقول: الإعجاز هو أنه حقق هذا الإبراء رغم عدم اطلاعه على شيء من علوم الطب، ورغم عدم اطلاعه على علوم الطب في الحضارات الصينية أو الهندوسية البعيدة ، التي كانت الحالة الطبية فيها أفضل من الحالة في بلاد الشام وفلسطين.
وهكذا هو الجواب في شأن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، حين جاء بقصص الرسل والأنبياء على وجهها الصحيح، رغم عدم توفر أية وسائل اطلاع على هذه الأخبار في تلك البلاد العربية البعيدة عن بلاد العلم ، وأهل الكتاب، بل ورغم أمِّيَّته عليه الصلاة والسلام، وعدم توفر أية فرصة للتواصل مع علماء أهل الكتاب والتلقي عنهم، ومع ذلك ساق هذه الأخبار المفصلة الدقيقة، والمتنوعة على مدار تاريخ البشرية، الأمر الذي لا يمكن تفسيره إلا أن يكون أوحي إليه من عالم الغيب والشهادة.
لا شك أنه ملحظ دقيق، يغفل عنه الكثيرون، تجدهم يفتشون عن أي توافق بين ما ورد في القرآن الكريم، وما سبقه من كتب سماوية، أو ما سبقه من علوم وأخبار وردت في تراث حضارات أخرى، ثم يدَّعون أن ذلك التشابه ، أو حتى التوافق : يعني وقوع أن مصدر النبي في ذلك لم يكن عن خبر السماء ، ووحي الله له ؛ بل كان عن طريق الاقتباس والنقل، وأن القرآن لم ينشئ إعجازا استقلاليا، وإنما هو مجرد ناقل "سارق" عن الحضارات الأخرى.
ولهذا فهم يتعمدون غض الطرف عن إثبات المصادر التي تلقى منها رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه العلوم؛ لأنهم لم يتمكنوا من إثبات شيء منها، ولن يتمكنوا أبدا وهم يعلمون جاهلية البيئة العربية وأميتها، ويدركون أنها بطبيعتها الصحراوية ، وانشغالاتها المعيشية التي تناسب محيطها حجزتها عن أشكال التمدن ، وعلوم الأمم السابقة والحاضرة لها.
فما طرَحتَه في سؤالك ليس بجديد ؛ وإنما هو نفس ما طرحه بعض العرب في الجاهلية، على سبيل المكابرة ، واللجج في الخصومة . ففضحهم القرآن ، حيث لم يتمكنوا من إحضار برهان واحد على دعواهم الباطلة تلك، التي يمكن لكل أحد أن يدعيها. قال تعالى: ( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ) [النحل: 103].
وقال عز وجل: (وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) [الفرقان: 5]، وقال سبحانه: (وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [الأنعام: 105]
وفي آيات كريمات أخريات : أجوبة أخرى من جوانب إضافية، وذلك في قوله تعالى: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) [آل عمران: 44].
وقوله عز وجل: (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) [هود: 49]
يقول الفخر الرازي رحمه الله:
"إنه تعالى في هذه الآية بين أن الذي قالوه لم يصح، وهم كذبوا فيه، والدليل على كونهم كاذبين في ذلك القول وجوه:
الأول: أنهم لا يؤمنون بآيات الله وهم كافرون، ومتى كان الأمر كذلك كانوا أعداء للرسول صلى الله عليه وسلم ؛ وكلام العدا ضرب من الهذيان ، ولا شهادة لمتهم.
والثاني: أن أمر التعلم لا يتأتى في جلسة واحدة ، ولا يتم في الخفية، بل التعلم إنما يتم إذا اختلف المعلم إلى المتعلم ، أزمنة متطاولة ، ومددا متباعدة، ولو كان الأمر كذلك لاشتهر فيما بين الخلق أن محمدا عليه السلام يتعلم العلوم من فلان وفلان.
الثالث: أن العلوم الموجودة في القرآن كثيرة، وتعلمها لا يتأتى إلا إذا كان المعلم في غاية الفضل والتحقيق، فلو حصل فيهم إنسان بلغ في التعليم والتحقيق إلى هذا الحد ، لكان مشارا إليه بالأصابع في التحقيق والتدقيق في الدنيا، فكيف يمكن تحصيل هذه العلوم العالية ، والمباحث النفيسة من عند فلان وفلان؟
واعلم أن الطعن في نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمثال هذه الكلمات الركيكة ، يدل على أن الحجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كانت ظاهرة باهرة، فإن الخصوم كانوا عاجزين عن الطعن فيها، ولأجل غاية عجزهم ، عدلوا إلى هذه الكلمات الركيكة" انتهى من "مفاتيح الغيب" (20/272)
ويقول العلامة رشيد رضا رحمه الله:
"كان في هذه الرحلة [يعني النبي صلى الله عليه وسلم في السفر إلى الشام قبل البعثة] شابا له خمس وعشرون سنة، إلا أنه لم ينفرد دون ميسرة وسائر تجار قريش لدراسة ولا غيرها، بل لم يلبثوا إلا أياما في بلدة (بصرى) باعوا واشتروا وعادوا، ولا يعقل أن يكون سمع فيها أخبار جميع الرسل سرا أو جهرا، وحفظها من هذه الكتب حفظا، ثم لخصها بعد عشرين سنة تقريبا في هذه السور، ولم يجد أهل مكة عليه شبهة في هذا الباب إلا وقوفه أحيانا على قين (حداد صانع للسيوف) رومي كان بمكة، فقالوا: إنه هو الذي يعلمه وهو لم يكن يحسن العربية، وفيه نزل: (ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين) (16: 103) .
وقد تقدم في مسألة اشتمال القرآن على أخبار الغيب الماضية من هذا البحث ، تصريح الآيات بأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يعلم ما قصته السور منها ، ولا قومه، ولم يكن لأحد من خصومه المشركين أن يكذب أو يماري في ذلك" انتهى من "تفسير المنار" (1/180)
ويقول الشيخ محمد عبد الله دراز رحمه الله:
"من زعم أن له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معلمًا من البشر فليسمه:
ونعود للمرة الثالثة ، فنقول لمن يزعم أن محمدًا كان يعلمه بشر: قل لنا ما اسم هذا المعلم!
ومن ذا الذي رآه وسمعه؟ وماذا سمع منه؟ ومتى كان ذلك؟ وأين كان؟
فإن كلمة "البشر" تصف لنا هذا العالم الذين يمشون على الأرض مطمئنين؛ ويراهم الناس غادين ورائحين، فلا تسمع دعواها بدون تحديد وتعيين، بل يكون مثل مدعيها كمثل الذين يخلقون لله شركاء لا وجود لهم إلا في الخيال والوهم ؟
فيقال له كما قيل لهم: (قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ) ؟
بل نقول: هل ولد هذا النبي في المريخ، أو نشأ في مكان قصي عن العالم، فلم يهبط على قومه إلا بعد أن بلغ أشده واستوى، ثم كانوا بعد ذلك لا يرونه إلا لمامًا؟ ألم يولد في حجورهم؟ ألم يكن يمشي بين أظهرهم يصبحهم ويمسيهم؟ ألم يكونوا يرونه بأعينهم في حله ورحيله؟ (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) ؟
نعم؛ إن قومه قد طوعت لهم أنفسهم أن يقولوا هذه الكلمة: (إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) ؛ ولكن هل تراهم كانوا في هذه الكلمة جادين، وكانوا يشيرون بها إلى بشر حقيقي عرفوا له تلك المنزلة العِلْمِية؟
كلا؛ إنهم ما كان يعنيهم أن يكونوا جادين محقين، وإنما كان كل همهم أن يدرءوا عن أنفسهم معرة السكوت والإفحام، بأية صورة تتفق لهم من صور الكلام: بالصدق أو بالكذب، بالجد أو باللعب.
وما أدراك من هو ذلك البشر الذي قالوا: إنه يعلمه؟
أتحسب أنهم اجترءوا أن ينسبوا هذا التعليم لواحد منهم؟ كلا؛ فقد رأوا أنفسهم أوضح جهلًا من أن يعلِّموا رجلًا جاءهم بما لم يعرفوا هم ولا آباؤهم.
أم تحسب أنهم لما وجدوا أرض مكة مقفرة من علماء الدين والتاريخ ، في عهد البعثة المحمدية ، عمدوا إلى رجل من أولئك العلماء ، في المدينة أو في الشام أو غيرهما ، فنسبوا ذلك التعليم إليه؟ كلا؛ إن ألسنتهم لم تطاوعهم على النطق بهذه الكلمة أيضًا.
فمن ذا، إمَّا لا ... ؟
لقد وجدوا أنفسهم مضطرين أن يلتمسوا شخصًا يتحقق فيه شرطان:
أحدهما: أن يكون من سكان مكة نفسها ، لتروج عنهم دعوى أنه يلاقيه ويملي عليه بكرة وأصيلًا.
وثانيهما: أن يكون من غير جلدتهم وملتهم ، ليمكن أن يقال: إن عنده علم ما لم يعلموا.
وقد التمسوا هذ الأوصاف ، فوجدوها !!
أتدري أين وجدوها؟ .. في حداد رومي!!
نعم، وجدوا في مكة غلامًا تعرفه الحوانيت والأسواق، ولا تعرفه تلك العلوم في قليل ولا كثير، غير أنه لم يكن أميًّا ولا وثنيًّا مثلهم، بل كان نصرانيًّا يقرأ ويكتب، فكان من أجل ذلك خليقًا في زعمهم أن يكون أستاذًا لمحمد، وبالتالي أستاذًا لعلماء اليهود والنصارى والعالم أجمعين .
ولئن سألتهم هل كان ذلك الغلام فارغًا لدراسة الكتب وتمحيص أصيلها من دخيلها، ورد متشابهها إلى محكمها، وهل كان مزودًا في عقله ولسانه بوسائل الفهم والتفهيم.. ؟
لعرفت أنه كان حدادًا، منهمكًا في مطرقته وسندانه، وأنه كان عامي الفؤاد، لا يعلم الكتاب إلا أماني، أعجمي اللسان، لا تعدو قراءته أن تكون رطانة لا يعرفها محمد ، ولا أحد من قومه !!
لكن ذلك كله ، لم يكن ليحول بينه وبين لقب الأستاذية الذي منحوه إياه على رغم أنف الحاسدين!
هكذا ضاقت بهم دائرة الجد، فما وسعهم إلا فضاء الهزل، وهكذا أمعنوا في هزلهم حتى خرجوا عن وقار العقل، فكان مثلهم كمثل من يقول: إن العلم يستقى من الجهل، وإن الإنسان يتعلم كلامه من الببغاء!
وكفى بهذا هزيمة وفضيحة لقائله ؛ (لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ).
نعم، إنهم رأوا في هذا الأسلوب من حلاوة الفكاهة والملحة؛ ما يسيغ مرارة الزور والباطل، ورأوا في هذه الصورة الخيالية من التهكم والسخرية، ما يشفي صدورهم ، ويجعلهم يتضاحكون بملء أفواههم، ولكنهم ما دروا أن في طي هذه السخرية: سخرية بهم . وأنهم قد شهدوا فيها على أنفسهم أنهم أجهل الأمم، وأن كل غريب عنهم -ولو كان غلامًا سوقيًّا- أهل لأن يقال عنه: إن عنده من العلم ما ليس عندهم !!
فيا له من نطق كان العي في موضعه ، خيرًا لهم وأستر عليهم، ويا له من سلاح أرادوا أن يجرحوا به خصمهم، فجرحوا به أنفسهم من حيث لا يشعرون.
أما الحق الذي كانوا يخاصمونه، فقد -والله- زادوه بهذا الاتهام قوة إلى قوته. ذلك أنهم حين خرجوا يلتمسون واحدًا من البشر يمكن أن ينسب إليه هذا العلم المحمدي ، لم يستطيعوا أن يفترضوا له مصدرًا تعليميًّا خارج حدود قريته، بل كان آخر جُهد بذلوه من حيلتهم ، وآخر سهم رموه من كنانتهم: أن جاءوا من بين ظهرانيهم بهذا الغلام الذي عرفت خبره.
فيا ليت شعري؛ لو كان هذا الغلام أن يكون مرجعًا علميًّا كما أرادوا أن يصفوه، فما الذي منعهم أن يأخذوا عنه كما أخذ صاحبهم؟ وبذلك كانوا يستريحون من عنائه ويداوونه من جنس دائه، بل ما منع ذلك الغلام أن يبدي للعالم صفحته، فينال في التاريخ شرف الأستاذية. أو يتولى بنفسه تلك القيادة العالمية؟
ويا ليت شعري لماذا لم ينسبوا تلك العلوم الغريبة عنهم إلى أهلها الموسومين بها، من الربانين والأحبار في المدينة، أو من القسيسين والرهبان في الشام، أولئك الذين قضوا أعمارهم في دراستها وتعليمها؟
أليس ذلك -لو كان ممكنًا أو شبيهًا بالممكن- كان هو أحسن تلفيقًا، وأجود سبكًا، وأدنى إلى الرواج، وأبعد عن الإحالة من نسبتها إلى حداد مكة؟ أم ضاقت بهم الأرض فلم يجدوا أحدًا أمثل منه، ولا أعلم بالدين والتاريخ؟
تالله لولا أنهم وجدوا باب التعليم الخارجي أمنع سدًّا من سائر الأبواب ، وأدخل منها في معنى المكابرة التي لا تروج ؛ لما ضيَّقوا على أنفسهم دائرة الاتهام حتى تورطوا في هذا المحال المكشوف، وافتضحوا بهذه المقالة الشوهاء.
هؤلاء قوم محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهم كانوا أحرص الناس على خصومته، وأدرى الناس بأسفاره ورحلاته، وأحصاهم لحركاته وسكناته، قد عجزوا كما ترى أن يعقدوا صلة علمية بينه وبين أهل العلم في عصره ؛ فما للملحدين اليوم ، وقد مضى نيف وثلاثة عشر قرنًا ، انفضت فيها سوق الحوادث، وجفت الأقلام، وطُويت الصحف = لا يزالون يبحثون عن تلك الصلة في قمامات التاريخ، وفي الناحية التي أنف قومه أن ينبشوها؟
ألا فليريحوا أنفسهم من عناء البحث، فقد كفتهم قريش مئونته، وليشتغلوا بغير هذه الناحية التي قضى التاريخ والمنطق على كل محاولة فيها بالفشل، فإن أبوا فليعلموا أن كل شبهة تقام في وجه الحق الواضح ، سيحيلها الحق حجة لنفسه ؛ يضمها إلى حججه وبيناته.
حيرة المعاندين واضطرابهم في الجدل قديمًا وحديثًا:
نعود رابعًا وأخيرًا ، فنقول:
لو كانت "نسبة هذه العلوم القرآنية إلى تعليم البشر" من الدعاوي التي تعبر عن فكرة ، أو شبهة قائمة بنفس صاحبها ، لوقف عندها الطاعنون ولم يجاوزوها؛ ذلك لأن العقل إذا خُلِّي ونفسه في تعليل تلك المفارقة الكلية ، بين ماضي الحياة المحمدية وحاضرها -أعني ما قبل النبوة وما بعدها- لم يسعه إلا الحكم بأن هذا العِلم الجديد ، وليد تعليم جديد.
وإذ لا عهد للناس بمعلمين في الأرض من غير البشر، كان أول ما يخطر بالبال أن هنالك إنسانًا تولى هذا التعليم، فلو وجد الطاعن أدنى تكأة من عوامل واقعية، أو ممكنة، تجعل له شيئًا من الاقتناع بهذا التعليل فيما بينه وبين نفسه، لما رضي به بديلًا ، ولما عدل عنه إلى تعليل آخر ، أيًّا كان .
لكن هؤلاء الطاعنين ما فتئوا منذ نزل القرآن إلى يومنا هذا حائرين في نسب هذا القرآن، لا يدرون أينسبونه إلى تعليم البشر كما سمعنا آنفًا، أم يرجعون به إلى نفس صاحبه كما سمعنا من قبل، أم يجمعون له بين النسبتين فيقولون لصاحبه: إنه "معلم" "مجنون" كما جاء في سورة الدخان" انتهى من "النبأ العظيم" (ص: 92-95)
والله أعلم.
تعليق