الحمد لله.
لا شك في صحة ما ذكرت في سؤالك؛ أن الكتاب والسنة قد فصلا ما يحتاج إليه المسلم من أدب وخلق، فمن عمل بالقرآن والسنة فقد جمع الأدب والخلق الحسن؛ ولذلك لما وصفت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنه خلق النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: بأن خلقه كان القرآن.
عن سَعْد بْن هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ، أنه سئل عائشة رضي الله عنها، فقال: ( يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ ! أَنْبِئِينِي عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَتْ: أَلَسْتَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟
قُلْتُ: بَلَى، قَالَتْ: فَإِنَّ خُلُقَ نَبِيِّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ الْقُرْآنَ ) رواه مسلم (746).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ ) رواه البخاري في "الأدب المفرد" (273) والإمام أحمد في "المسند" (14 / 512 – 513). وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (2349) .
قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى:
" وهذا الحديث يتصل من طرق صحاح، عن أبي هريرة وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم " انتهى. "التمهيد" (24 / 333).
روى الخطيب البغدادي بسنده عن سفيان بن عيينة، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: " إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْمِيزَانُ الْأَكْبَرُ، فَعَلَيْهِ تُعْرَضُ الْأَشْيَاءُ، عَلَى خُلُقِهِ وَسِيرَتِهِ وَهَدْيِهِ، فَمَا وَافَقَهَا فَهُوَ الْحَقُّ، وَمَا خَالَفَهَا فَهُوَ الْبَاطِلُ " انتهى من "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" (1 / 79).
لكن؛ كون الأخلاق والآداب مصدرها الكتاب والسنة، لا ينافي هذا أن للعالم دورا كبيرا في تأديب طلابه، فالشيخ ليس أساسا للأدب والخلق لكنه وسيلة فعّالة لاكتساب ذلك؛ ولهذا أوصى أهل العلم الطالب أن يختار في تعلمه الشيخ العامل بعلمه، الذي يظهر عليه خلق الكتاب والسنة.
قال ابن مفلح رحمه الله تعالى :
" وعن إبراهيم النخعي قال : كانوا إذا أتوا الرجل ليأخذوا عنه نظروا إلى سمته وإلى صلاته وإلى حاله، ثم يأخذون عنه وقد روي هذا المعنى عن جماعة " انتهى من "الآداب الشرعية" (1 / 418).
قال ابن جماعة رحمه الله تعالى:
" ينبغي للطالب أن يقدم النظر ويستخير الله فيمن يأخذ العلم عنه، ويكتسب حسن الأخلاق والآداب منه، وليكن إن أمكن ممن كملت أهليته، وتحققت شفقته، وظهرت مروءته، وعرفت عفته، واشتهرت صيانته ...
ولا يرغب الطالب في زيادة العلم مع نقص في ورع أو دين، أو عدم خلق جميل، فعن بعض السلف : هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم. " انتهى من " تذكرة السامع والمتكلم في آداب العالم والمتعلم" (ص 96).
إن المعضلة الكبرى : ليست هي مجرد "معرفة" الفضائل والرذائل ، كما يظن السائل الكريم ؛ فعامة الناس يعلمون : أن الصدق حسن ، والكذب قبيح ، وكم من الناس من يكذب ، وكم من الناس من يخون ، وكم ، وكم .
إن المعضلة ـ حقا ـ والفارق بين "الصدق" والدعاوى ، إنما تكمن في "العمل" بهذا العلم ، والصبر عليه ، ومجاهدة النفس على هواها ، وما تشتهي .
وهذه وظيفة العالم الرباني ؛ أن يربي الناس على ذلك ، ويؤدبهم به .
قال الله تعالى : ( مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ) آل عمران/79
قال البغوي رحمه الله ، في تفسير "ربانيين" :
" وَاخْتَلَفُوا فِيهِ، قَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ: كُونُوا فُقَهَاءَ علماء، وقال قتادة: حكماء علماء، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الْعَالِمُ الَّذِي يَعْمَلُ بِعِلْمِهِ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فُقَهَاءَ مُعَلِّمِينَ .
وَقِيلَ: الرَّبَّانِيُّ الَّذِي يُرَبِّي النَّاسَ بِصِغَارِ الْعِلْمِ قَبْلَ كباره .
وقال عطاء: حكماء علماء نُصَحَاءَ لِلَّهِ فِي خَلْقِهِ .
قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: سَمِعْتُ رَجُلًا عَالِمًا يَقُولُ: الرَّبَّانِيُّ الْعَالِمُ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ والأمر والنهي العارف بِأَنْبَاءِ الْأُمَّةِ ، مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ .
وَقِيلَ: الرَّبَّانِيُّونَ فَوْقَ الْأَحْبَارِ، والأحبار فوق الْعُلَمَاءُ، وَالرَّبَّانِيُّونَ الَّذِينَ جَمَعُوا مَعَ الْعِلْمِ الْبَصَارَةَ بِسِيَاسَةِ النَّاسِ ..
وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: هُمْ أَرْبَابُ الْعِلْمِ سُمُّوا بِهِ لِأَنَّهُمْ يُرَبُّونَ الْعِلْمَ، وَيَقُومُونَ بِهِ وَيُرَبُّونَ الْمُتَعَلِّمِينَ بِصِغَارِ الْعُلُومِ قَبْلَ كِبَارِهَا، وَكُلُّ مَنْ قَامَ بِإِصْلَاحِ الشيء وَإِتْمَامِهِ فَقَدْ رَبَّهُ يَرُبُّهُ ... " انتهى ، من "تفسير البغوي" (1/463) . وينظر : "تفسير الطبري" (6/544) .
وحاصل ذلك :
أن هذه هي وظيفة العالم الرباني : أن يقوم في الناس بالعلم الذي علمه الله؛ يعلمهم إياه ، ويسوسهم ، ويربيهم ويصلح أمرهم بمقتضى ذلك .
ثم مع ذلك ، وربما فوق ذلك : أن يسير فيهم بعلمه الذي علمه الله ، حتى إنهم ليرون فيه : واقعا عمليا ، لذلك العلم الذي تعلموه .
- يرُوى أنَّ الأحنف بن قيس قال: "كنا نختلف إلى قيس بن عاصم نتعلم منه الحلم، كما نتعلم الفقه".
- وكان أصحاب عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - يرحلون إليه، فينظرون إلى سمته، وهديه، ودَلَّه، قال: "فيتشبهون به" .
- وقال ابن سيرين: "كانوا يتعلمون الهدي كما يتعلمون العلم.
- قال القاضي أبو يعلى رحمه الله: روى أبو الحسين بن المنادي بسنده إلى الحسين بن إسماعيل قال: سمعت أبي يقول: "كنا نجتمع في مجلس الإمام أحمد زُهاء على خمسة آلاف أو يزيدون، أقل من خمسمائة يكتبون، والباقي يتعلمون منه حُسنَ الأدب، وحسن السمت" .
- وقال إبراهيم بن حبيب بن الشهيد لابنه: "يا بني، إيت الفقهاء والعلماء، وتعلم منهم، وخذ من أدبهم وأخلاقهم وهديهم، فإن ذاك أحب إليَّ لك من كثير من الحديث" .
- وقال الأعمش: كانوا يأتون همام بن الحارث يتعلمون من هديه وسمته...
ينظر : "موسوعة الأخلاق" ، لخالد الخراز، ص (81) وما بعدها .
ثانيا :
الأصحاب يؤثر بعضهم في أخلاق بعض، والقوي يسحب الضعيف إلى طباعه، فلهذا حث الشرع على ملازمة صحبة أهل التقوى وحذر من صحبة أهل السوء.
عن أَبِي مُوسَى الأشعري رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَثَلُ الجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالسَّوْءِ، كَحَامِلِ المِسْكِ وَنَافِخِ الكِيرِ، فَحَامِلُ المِسْكِ : إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الكِيرِ : إِمَّا أَنْ يَحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً ) رواه البخاري (5534) ومسلم (2628) .
قال القاضي عياض رحمه الله تعالى:
" فيه تجنب خلطاء السوء ومجالسة الأشرار وأهل البدع والمغتابين للناس؛ لأن جميع هؤلاء ينفذ أثرهم إلى جليسهم، والحض على مجالسة أهل الخير وتلقى العلم والأدب، وحسن الهدى والأخلاق الحميدة " انتهى من " اكمال المعلم" (8 / 108).
فإذا صاحب الطالب شيخا عاملا بعلمه فإنه سيتأثر بهذه الصحبة ويتخلق بأخلاق شيخه؛ فلهذا نجد في كتب التراجم والسير أن فلانا كان كشيخه في الأدب والخلق والهيئة والسيرة.
قال عبد الله ابن الإمام أحمد رحمهما الله تعالى :
" حدثني أبي قال حدثنا عثمان بن عثمان قال: سمعت البتي يقول: كان يقال: ما رأينا رجلا قط أشبه هديا بعلقمة من النخعي، ولا رأينا رجلا أشبه هديا بابن مسعود من علقمة، ولا كان رجل أشبه هديا برسول الله صلى الله عليه وسلم من ابن مسعود " انتهى من " العلل ومعرفة الرجال" (2 / 194).
والنخعي تلميذ علقمة، وعلقمة تلميذ ابن مسعود رضي الله عنه، وابن مسعود صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال الذهبي رحمه الله تعالى:
" قال أبو بكر بن إسحاق الصبغي، وقيل له: ألا تنظر إلى تمكن أبي علي الثقفي في عقله؟
قال: ذاك عقل الصحابة والتابعين من أهل المدينة.
قيل: وكيف ذاك؟
قال: إن مالك بن أنس كان من أعقل أهل زمانه، وكان يقال: إنه صار إليه عقول من جالسهم من التابعين، فجالسه يحيى بن يحيى النيسابوري، فأخذ من عقله وسمته، حتى لم يكن بخراسان مثله، فكان يقال: هذا عقل مالك وسمته. ثم جالس يحيى محمدُ بن نصر سنين، حتى أخذ من سمته وعقله، فلم ير بعد يحيى من فقهاء خراسان أعقل منه. ثم إن أبا علي الثقفي جالس محمد بن نصر أربع سنين، فلم يكن بعده أعقل منه " انتهى من "تاريخ الإسلام" (6 / 1046 – 1047).
ثالثا:
هناك من الآداب والأخلاق ما يحتاج إلى تحقيق وعلم وحكمة لإصابة وجه الحق فيها، كالتفريق بين أوقات اختيار العزلة وأوقات مخالطة الناس، بين حالات استعمال خلق الحياء والحلم وبين حالات استعمال الجرأة والغضب، وكفهم حد الحلم وحد الضعف، وفهم حد البخل وحد الجود، ونحو هذا من المسائل التي قد يغنيك العالم بعلمه وحكمته وتجربته عن التيهان ومكابدة التجارب الخاطئة.
وهناك من الآداب والأخلاق ، ما هو داخل في دائرة المباح، لكنها مما يناسب تركها أو فعلها كمال المروءة وحسن السمت، ومثل هذه الآداب والأخلاق إنما تعرف وتكتسب بمعاشرة أهل المروءة، وأهل العلم العاملين بعلمهم هم أهلها وأولى الناس بها.
قال ابن مفلح رحمه الله تعالى:
" عن الأعمش قال: كانوا يتعلمون من الفقيه كل شيء حتى لباسه ونعليه ... وقال عبد الرحمن بن مهدي: كنا نأتي الرجل ما نريد علمه ليس إلا أن نتعلم من هديه وسمته ودله، وكان علي بن المديني وغير واحد يحضرون عند يحيى بن سعيد القطان ما يريدون أن يسمعوا شيئا إلا ينظروا إلى هديه وسمته.
وقال عبد الله بن أحمد سمعت ابن علي بن المديني يقول: رأيت في كتب أبي ستة أجزاء مذهب أبي عبد الله وأخلاقه، ورأيت أحمد يفعل كذا ويفعل كذا وبلغني عنه كذا وكذا " انتهى من "الآداب الشرعية" (2 / 149).
وحاصل الأمر :
المسألة : ليست قاصرة على "كبار الأخلاق" وتعلمها ، فهناك من تفاصيل الوقائع ، ودقائق الأمور ، في أبواب الخلق ، والورع ، والتربية والسلوك ، يحتاج من الناصح لنفسه ، البصير بأمره ، أن يتخذ شيخا ، أو صديقا صالحا ، يستشيره ، ويتعلم منه ما يحتاج إليه .
بل في كثير من الأحكام المتعلقة بكبار المسائل ، من الصدق والكذب ، والأمانة والخيانة ، والغيبة والنميمة : ما يحتاج إلى بصر العالم، وفقهه ، وإرشاده .
والله أعلم.
تعليق