الاثنين 22 جمادى الآخرة 1446 - 23 ديسمبر 2024
العربية

هل يغفر الله الذنوب المتعلقة بحقوق العباد إن لم يتحلل الظالم من المظلوم ؟ وما هي مبادئ حقوق العباد ؟

264534

تاريخ النشر : 17-05-2017

المشاهدات : 222402

السؤال

هناك آية في سورة النساء مفهومها أن الله يغفر كل الذنوب ما عدا الشرك فهل يتضمن ذلك غفران ما كان متعلقًا بحقوق العباد وإن لم يطلب الظالم المغفرة من المظلوم؟ كما أريد أن أعلم مبادئ حقوق العباد

الجواب

الحمد لله.

أولا :

الآية الكريمة التي ذكرها السائل الكريم جاءت في سورة النساء، حيث قال الله تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا ) النساء/48.

ومعنى الآية : أن الله تعالى لا يغفر الشرك لمن مات عليه ، من غير توبة . ومن لقي الله بكل ذنب خلا الشرك بالله فهو في مشيئة الله ، إن شاء عذبه ، وإن شاء غفر له .

والتوبة واجبة بإجماع أهل العلم على جميع المسلمين ، قال القرطبي في "التذكرة" (ص53) :     " والتوبة فرض على المؤمنين باتفاق المسلمين لقوله تعالى : ( و توبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون ) و قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا ) ". انتهى

وينظر جواب السؤال رقم (14289) ورقم (175522) .

ثانيا :

الذنوب منها ما يكون بين العبد وربه ، ومنها ما يتعلق بحق من حقوق العباد ، وقد اشترط أهل العلم للتوبة النصوح شروطا ثلاثة فيما إذا كان الذنب بين العبد وربه ، وهي : الإقلاع عن الذنب ، والندم على الفعل ، والعزم على عدم العودة إلى الذنب .

قال ابن عبد البر في "التمهيد" (15/12) :" التَّوْبَةُ أَنْ يَتْرُكَ ذَلِكَ الْعَمَلَ الْقَبِيحَ بِالنِّيَّةِ وَالْفِعْلِ ، وَيَعْتَقِدَ أَنْ لَا يَعُودَ إِلَيْهِ أَبَدًا ، وَيَنْدَمَ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ فَهَذِهِ التَّوْبَةُ النَّصُوحُ الْمَقْبُولَةُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ عِنْدَ جَمَاعَةِ الْعُلَمَاءِ ". انتهى

فإن كان الذنب متعلقا بحق من حقوق العباد فيشترط فيه شرط رابع ، وهو أن يتحلله من صاحبه في الدنيا بأن يرد إليه الحق ، أو يطلب منه العفو .

فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( "مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ اليَوْمَ ، قَبْلَ أَنْ لاَ يَكُونَ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ). أخرجه البخاري (2449) .

وقال القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" (18/199) :" فَإِنْ كَانَ الذَّنْبُ مِنْ مَظَالِمِ الْعِبَادِ : فَلَا تَصِحُّ التَّوْبَةُ مِنْهُ إِلَّا بِرَدِّهِ إِلَى صَاحِبِهِ ، وَالْخُرُوجِ عَنْهُ ، عَيْنًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ ؛ إِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ .

فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا : فَالْعَزْمُ أَنْ يُؤَدِّيَهُ إِذَا قَدَرَ ، فِي أَعْجَلِ وَقْتٍ وَأَسْرَعِهِ.

وَإِنْ كَانَ أَضَرَّ بِوَاحِدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَذَلِكَ الْوَاحِدُ لَا يَشْعُرُ بِهِ ، أَوْ لَا يَدْرِي مِنْ أَيْنَ أُتِيَ : فَإِنَّهُ يُزِيلُ ذَلِكَ الضَّرَرَ عَنْهُ ، ثُمَّ يَسْأَلُهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ ، وَيَسْتَغْفِرَ لَهُ . فَإِذَا عَفَا عَنْهُ فَقَدْ سَقَطَ الذَّنْبُ عَنْهُ.

وَإِنْ أَرْسَلَ مَنْ يَسْأَلُ ذَلِكَ لَهُ ، فَعَفَا ذَلِكَ الْمَظْلُومُ عَنْ ظَالِمِهِ- عَرَّفَهُ بِعَيْنِهِ أَوْ لَمْ يُعَرِّفْهُ- فَذَلِكَ صَحِيحٌ.

وَإِنْ أَسَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَجُلٍ بِأَنْ فَزَّعَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ ، أَوْ غَمَّهُ أَوْ لَطَمَهُ ، أَوْ صَفَعَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ ، أَوْ ضَرَبَهُ بِسَوْطٍ فَآلَمَهُ ، ثُمَّ جَاءَهُ مُسْتَعْفِيًا نَادِمًا عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ ، عَازِمًا عَلَى أَلَّا يَعُودَ ، فَلَمْ يَزَلْ يَتَذَلَّلْ لَهُ حَتَّى طَابَتْ نَفْسُهُ ، فَعَفَا عَنْهُ : سَقَطَ عَنْهُ ذَلِكَ الذَّنْبُ. وَهَكَذَا إِنْ كَانَ شَانَهُ بِشَتْمٍ لَا حَدَّ فِيهِ ". انتهى

وينظر للفائدة : جواب السؤال رقم (145537) ورقم (65649) ورقم (219969).

ثالثا :

قد شددت الشريعة على حقوق العباد أعظم تشديد ، فقد ثبت في صحيح مسلم (2581) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:" أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟» قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ ، فَقَالَ: إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ، وَصِيَامٍ ، وَزَكَاةٍ ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا ، وَقَذَفَ هَذَا ، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا ، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا ، وَضَرَبَ هَذَا ، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ .

وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَحْشُرُ اللهُ الْعِبَادَ ، وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ قِبَلَ الشَّامِ ، عُرَاةً حُفَاةً غُرْلًا بُهْمًا ، قَالَ: قُلْتُ: مَا بُهْمًا؟ ، قَالَ: لَيْسَ مَعَهُمْ شيء وَيُنَادِي مُنَادٍ بِصَوْتٍ يَسْمَعْهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ ، أَنَا الْمَلِكُ الدَّيَّانُ ، لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ ، وَأَحَدٌ مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَطْلُبُهُ بِمَظْلَمَةٍ ، وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَدْخُلُ النَّارَ وَأَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَطْلُبُهُ بِمَظْلَمَةٍ، حَتَّى اللَّطْمَةِ ، قَالَ: قُلْتُ: وَكَيْفَ وَإِنَّمَا نَأْتِي عُرَاةً غُرْلًا بُهْمًا؟ ، قَالَ: الْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ .

أخرجه أحمد في المسند (16042) ، وحسنه الشيخ الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب" (3608)  .

ومن قذف مسلما أو مسلمة في الدنيا ولم يقم عليه حد القذف ، أو تاب ولم يتحلل من صاحب الحق أقيم عليه الحد يوم القيامة ، فعَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: صَنَعَ رَجُلٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - طَعَامًا , فَبَيْنَمَا الْجَارِيَةُ تَعْمَلُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ إِذْ قَالَ لَهَا الرَّجُلُ: يَا زَانِيَةُ ، فَقَالَ: ابْنُ عَبَّاسٍ: مَهْ إِنْ لَمْ تَحُدَّكَ فِي الدُّنْيَا , تَحُدُّكَ فِي الْآخِرَةِ ". أخرجه البخاري في الأدب المفرد (331) ، وصححه الشيخ الألباني في "صحيح الأدب المفرد" (252)

رابعا :

أما ما ورد في السؤال عن مبادئ حقوق العباد ، فإن جماعها ثلاثة أشياء : النفس ، والمال ، والعرض .

وينشأ العدوان على الحق في هذه الثلاث لأحد سببين :

الأول : التفريط في إعطاء الحق

الثاني : العدوان على الغير

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (10/373) :" فَالظُّلْمُ لِلْغَيْرِ يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا لَا مَحَالَةَ ، لِكَفِّ ظُلْمِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ .

ثُمَّ هُوَ نَوْعَانِ:

أَحَدُهُمَا: مَنْعُ مَا يَجِبُ لَهُمْ مِنْ الْحُقُوقِ ، وَهُوَ التَّفْرِيطُ.

والثَّانِي: فِعْلُ مَا يَضُرُّ بِهِ ، وَهُوَ الْعُدْوَانُ ". انتهى

فالجناية على النفس تشمل كل شيء حرم الله فعله للغير ، ابتداء من اللطمة حتى القتل ، ويشمل الجراحات كلها .

والجناية على المال : تشمل منع الحق واجب ، كالنفقة على الزوجة والولد مثلا ، وتشمل أيضا العدوان على مال الغير ، بأي نوع من أنواع الإفساد .

والجناية على العرض : تشمل كل نقيصة ألحقها المسلم بأخيه ، سواء بغيبة أو سب أو قذف ، أو عدوان على حرمته .

وقد جمعها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله :" كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ ". أخرجه مسلم في صحيحه (2564) .

قال ابن رجب في "شرح حديث لبيك" (ص106) :" والظلم المحرم : تارة يكون في النفوس ، وأشده في الدماء ، وتارة في الأموال ، وتارة في الأعراض .

ولهذا قال في خطبته في حجة الوداع : إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام ، كحرمة يومكم هذا ، في شهركم هذا ، في بلدكم هذا ". انتهى

وختاما : نوصي أنفسنا وإخواننا بالتوبة النصوح ، وإرجاع الحقوق إلى أهلها ، قبل أن يأتي يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم .

والله أعلم 

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب