الحمد لله.
أولا:
قد أخبرنا الله تعالى أن اليهود حرفوا الكلم عن مواضعه، كما قال سبحانه: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) البقرة/79.
وقال تعالى: ( وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) آل عمران/78.
وقال: (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ) النساء/46.
وقال: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) المائدة/13.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : ” وَقَدْ حَدَّثَكُمُ اللَّهُ أَنَّ أَهْلَ الكِتَابِ بَدَّلُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ ، وَغَيَّرُوا بِأَيْدِيهِمُ الكِتَاب ، فَقَالُوا : هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا” رواه البخاري في ” صحيحه ” (2685)
ولكن هذا لا يلزم منه أن تكون التوراة كلها محرفة، بل بقي فيها –في زمن النبي صلى الله عليه وسلم- ما لم يحرف، ومنه الرجم.
قال ابن حزم رحمه الله :” إن كفار بني إسرائيل بدلوا التوراة والزبور، فزادوا ونقصوا ، وأبقى الله تعالى بعضها حجة عليهم، كما شاء؛ ( لا يُسْأَل عما يفعل وهم يسألون )، ( لا معقب لحكمه ).
وبدل كفار النصارى الإنجيل كذلك، فزادوا ونقصوا، وأبقى الله تعالى بعضها حجة عليهم كما شاء؛ ( لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ) …
وقد قلنا آنفا: إن الله تعالى أطلقهم على تبديل ما شاء رفعه من ذينك الكتابين، كما أطلق أيديهم على قتل من أراد كرامته بذلك من الأنبياء الذين قتلوهم بأنواع المُثَل ، وكف أيديهم عما شاء إبقاءه من ذينك الكتابين حجة عليهم، كما كف أيديهم الله تعالى عمن أراد أيضا كرامته بالنصر من أنبيائه الذين حال بين الناس وبين أذاهم ” انتهى باختصار من ” الفصل في الملل والأهواء والنحل ” (1/ 157)
ثانيا:
روى البخاري (7543)، ومسلم (1699) – واللفظ له – عن ابن عمر: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِيَهُودِيٍّ وَيَهُودِيَّةٍ قَدْ زَنَيَا ، فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى جَاءَ يَهُودَ ، فَقَالَ: ( مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ عَلَى مَنْ زَنَى ؟)
قَالُوا : نُسَوِّدُ وُجُوهَهُمَا، وَنُحَمِّلُهُمَا ، وَنُخَالِفُ بَيْنَ وُجُوهِهِمَا ، وَيُطَافُ بِهِمَا.
قَالَ : ( فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) .
فَجَاءُوا بِهَا فَقَرَؤوهَا حَتَّى إِذَا مَرُّوا بِآيَةِ الرَّجْمِ وَضَعَ الْفَتَى الَّذِي يَقْرَأُ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ ، وَقَرَأَ مَا بَيْنَ يَدَيْهَا ، وَمَا وَرَاءَهَا ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلَامٍ، وَهُوَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مُرْهُ فَلْيَرْفَعْ يَدَه ُ، فَرَفَعَهَا فَإِذَا تَحْتَهَا آيَةُ الرَّجْمِ .
فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَرُجِمَا.
والرجم شرع الله تعالى، وهو شريعة التوراة، وشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد نزل الرجم صريحا في القرآن، ثم رُفِع لفظه وبقي حكمه، وهو مجمع عليه، لا يخالف فيه إلا أهل البدع كالخوارج.
فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : (إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَقِّ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ ، فَكَانَ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةُ الرَّجْمِ ، فَقَرَأْنَاهَا ، وَعَقَلْنَاهَا ، وَوَعَيْنَاهَا ، رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ ، فَأَخْشَى إِنْ طَالَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ ، أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ : وَاللَّهِ مَا نَجِدُ آيَةَ الرَّجْمِ فِي كِتَابِ اللَّهِ ! فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ ، وَالرَّجْمُ فِي كِتَابِ اللَّهِ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى، إِذَا أُحْصِنَ، مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ؛ إِذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ، أَوْ كَانَ الْحَبَلُ، أَوْ الِاعْتِرَافُ) رواه البخاري ( 6442 )، ومسلم ( 1691 ) .
قال ابن عبد البر رحمه الله: ” ومعنى قول الله عز وجل: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) معناه الأبكار دون من قد أحصن. وأما المحصن فحده الرجم إلا عند الخوارج، ولا يعدهم العلماء خلافا؛ لجهلهم وخروجهم عن جماعة المسلمين، وقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم المحصنين، فممن رجم ماعز الأسلمي، والغامدية، والجهنية، والتي بعث إليها أنيسا.
ورجم عمر بن الخطاب سخيلة بالمدينة، ورجم بالشام، وقصة الحبلى التي أراد رجمها فقال له معاذ بن جبل: ليس لك ذلك للذي في بطنها فإنه ليس لك عليه سبيل. وعرض مثل ذلك لعثمان بن عفان مع علي في المجنونة الحبلى. ورجم علي شراحة الهمدانية، ورجم أيضا في مسيره إلى صفين رجلا أتاه مقرا بالزنا، وهذا كله مشهور عند العلماء” انتهى من “التمهيد” (5/ 324).
فالرجم شريعة محكمة لا خلاف فيها.
وهل كان رجم النبي صلى الله عليه وسلم لليهوديين قبل أن يرجم أحدا من المسلمين أو بعده؟
لم نقف عليه الآن، ولا أثر له، ولا يعنينا هذا هنا في كبير شيء، ولا أثر له في شيء من الأحكام.
ورجم النبي صلى الله عليه وسلم لليهوديين: لم يكن عملا بالتوراة، لا الثابتة المحكمة، ولا المحرفة؛ بل هو عمل بشرع الله الذي أوحاه إليه، وأمره به، وكان هذا موافقا لحكم التوارة الذي لم ينسخ، ولم يبدل، ولم يحرف، لكن أحبارهم يخفونه، ويكتمونه.
قال الله تعالى، آمرا نبيه الكريم: ( وَأَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ مُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَمُهَيۡمِنًا عَلَيۡهِۖ فَٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُۖ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَهُمۡ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ ٱلۡحَقِّۚ لِكُلّٖ جَعَلۡنَا مِنكُمۡ شِرۡعَةٗ وَمِنۡهَاجٗاۚ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمۡ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ وَلَٰكِن لِّيَبۡلُوَكُمۡ فِي مَآ ءَاتَىٰكُمۡۖ فَٱسۡتَبِقُواْ ٱلۡخَيۡرَٰتِۚ إِلَى ٱللَّهِ مَرۡجِعُكُمۡ جَمِيعٗا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ * وَأَنِ ٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَهُمۡ وَٱحۡذَرۡهُمۡ أَن يَفۡتِنُوكَ عَنۢ بَعۡضِ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيۡكَۖ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَٱعۡلَمۡ أَنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعۡضِ ذُنُوبِهِمۡۗ وَإِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلنَّاسِ لَفَٰسِقُونَ * أَفَحُكۡمَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ يَبۡغُونَۚ وَمَنۡ أَحۡسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكۡمٗا لِّقَوۡمٖ يُوقِنُونَ ) المائدة/48-50
وقبل هذه الآيات، قال الله تعالى في وصف اليهود، وبيان حالهم: ( سَمَّٰعُونَ لِلۡكَذِبِ أَكَّٰلُونَ لِلسُّحۡتِۚ فَإِن جَآءُوكَ فَٱحۡكُم بَيۡنَهُمۡ أَوۡ أَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡۖ وَإِن تُعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيۡـٔٗاۖ وَإِنۡ حَكَمۡتَ فَٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِٱلۡقِسۡطِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ * وَكَيۡفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ ٱلتَّوۡرَىٰةُ فِيهَا حُكۡمُ ٱللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوۡنَ مِنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَۚ وَمَآ أُوْلَٰٓئِكَ بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ ) المائدة/42-43
قال الإمام الشافعي، رحمه الله: ” ففي هذه الآية بيانٌ – والله أعلم – : أن الله تبارك وتعالى جعل لنبيه – صلى الله عليه وسلم – الخيارَ في أن يحكم بينهم، أو يعرض عنهم.
وجعل عليه، إن حكم: أن يحكم بينهم بالقسط. والقسط حكم الله تبارك وتعالى الذي أنزل على نبيه عليه الصلاة والسلام، المحض الصادق؛ أحدثُ الأخبار عهدا بالله تبارك وتعالى. قال الله عز وجل ( وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك ). قال الشافعي: وفي هذه الآية ما في التي قبلها من أمر الله تبارك وتعالى له بالحكم بما أنزل الله إليه…
وحكم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في يهوديين زنيا: رجمهما. وهذا معنى قوله عز وجل: ( وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط )، ومعنى قول الله تبارك وتعالى: ( وأن احكم بينهم بما أنزل الله ).
والدليل الواضح: أن من حكم عليهم من أهل دين الله؛ فإنما يحكم بينهم بحكم المسلمين؛ فما حكمنا به على مسلم، حكمنا به على من خالف الإسلام. وحكم به؛ عليهم، ولهم”. انتهى، من “الأم” (7/350-351).
وقال أيضا: ” فأعلم الله نبيَّه – صلى الله عليه وسلم – : أنَّ فرضاً عليه، وعلى من قبله، والناسِ، إذا حكموا: أن يحكموا بالعدل.
والعدلُ: اتباع حكمه المنزل. قال الله عز وجل لنبيه – صلى الله عليه وسلم – حين أمره بالحكم بين أهل الكتاب : ( وأن احكم بينهم بما أنزل الله ). ووضع الله نبيه – صلى الله عليه وسلم – من دينه وأهل دينه، موضع الإبانة عن كتاب الله عز وجل معنى ما أراد الله، وفرض طاعته، فقال : ( من يطع الرسول فقد أطاع الله )، وقال : ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ) الآية. وقال: ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره ) الآية.
فعُلِم أن الحقَّ: كتابُ الله، ثم سنة نبيه – صلى الله عليه وسلم -.
فليس لمُفْتٍ، ولا لحاكمٍ: أن يُفتيَ، ولا يحكم؛ حتى يكون عالما بهما.
ولا أن يخالفهما، ولا واحدا منهما بحال.
فإذا خالفهما؛ فهو عاص لله عز وجل، وحكمه مردود”. انتهى، من “الأم” (8/208-209). وينظر: “أحكام القرآن” للبيهقي (2/121).
وإنما أمرهم الله عز وجل بأن ينظروا في التوراة، ويقرؤوا ما فيها: إقامة للحجة عليهم، بكتابهم الذي يدعون الإيمان به، وقطعا لأعذارهم. كما قال الله عز وجل في سورة أخر: ( كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) آل عمران/93
قال ابن جرير، رحمه الله: ” وأما قوله: ( قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين )، فإن معناه: قل، يا محمد، للزاعمين من اليهود أن الله حرم عليهم في التوراة العروقَ ولحومَ الإبل وألبانها =: “ائتوا بالتوراة فاتلوها”، يقول: قل لهم: جيئوا بالتوراة فاتلوها، حتى يتبين لمن خفى عليه كذبهم وقيلهم الباطلَ على الله من أمرهم: أن ذلك ليس مما أنزلته في التوراة =”إن كنتم صادقين”، يقول: إن كنتم محقين في دعواكم أنّ الله أنزل تحريمَ ذلك في التوراة، فأتونا بها، فاتلوا تحريمَ ذلك علينا منها.
وإنما ذلك خبر من الله عن كذبهم، لأنهم لا يجيئون بذلك أبدًا على صحته، فأعلم الله بكذبهم عليه نبيَّه صلى الله عليه وسلم، وجعل إعلامه إياه ذلك حجةً له عليهم. لأن ذلك إذْ كان يخفى على كثير من أهل ملتّهم، فمحمد صلى الله عليه وسلم وهو أميٌّ من غير ملتهم، لولا أن الله أعلمه ذلك بوحي من عنده = كان أحرَى أن لا يعلمَه. فكان ذلك له صلى الله عليه وسلم، من أعظم الحجة عليهم بأنه نبي الله صلى الله عليه وسلم، إليهم. لأن ذلك من أخبار أوائلهم كان من خفيِّ عُلومهم الذي لا يعلمه غير خاصة منهم، إلا من أعلمه الذي لا يخفى عليه خافية من نبي أو رسول، أو من أطلعه الله على علمه ممن شاء من خلقه”. انتهى من “تفسير الطبري” (6/16).
وقال الشيخ السعدي، رحمه الله: ” وهذا رد على اليهود بزعمهم الباطل أن النسخ غير جائز، فكفروا بعيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم، لأنهما قد أتيا بما يخالف بعض أحكام التوراة بالتحليل والتحريم فمن تمام الإنصاف في المجادلة إلزامهم بما في كتابهم التوراة من أن جميع أنواع الأطعمة محللة لبني إسرائيل {إلا ما حرم إسرائيل} وهو يعقوب عليه السلام {على نفسه} أي: من غير تحريم من الله تعالى، بل حرمه على نفسه لما أصابه عرق النسا نذر لئن شفاه الله تعالى ليحرمن أحب الأطعمة عليه، فحرم فيما يذكرون لحوم الإبل وألبانها وتبعه بنوه على ذلك وكان ذلك قبل نزول التوراة، ثم نزل في التوراة أشياء من المحرمات غير ما حرم إسرائيل مما كان حلالا لهم طيبا، كما قال تعالى {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم} وأمر الله رسوله، إن أنكروا ذلك أن يأمرهم بإحضار التوراة، فاستمروا بعد هذا على الظلم والعناد، فلهذا قال تعالى {فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون}. وأي ظلم أعظم من ظلم من يدعى إلى تحكيم كتابه فيمتنع من ذلك عنادا وتكبرا وتجبرا.
وهذا من أعظم الأدلة على صحة نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وقيام الآيات البينات المتنوعات على صدقه وصدق من نبأه وأخبره بما أخبره به من الأمور التي لا يعلمها إلا بإخبار ربه له بها، فلهذا قال تعالى {قل صدق الله} أي: فيما أخبر به وحكم، وهذا أمر من الله لرسوله ولمن يتبعه أن يقولوا بألسنتهم: صدق الله، معتقدين بذلك في قلوبهم عن أدلة يقينية، مقيمين هذه الشهادة على من أنكرها، ومن هنا تعلم أن أعظم الناس تصديقا لله أعظمهم علما ويقينا بالأدلة التفصيلية السمعية والعقلية”. انتهى، من “تفسير السعدي” (138).
وبكل حال؛
فعمل النبي صلى الله عليه وسلم بما في التوراة ليس عملا بالمحرف، بل هو تقرير للصحيح الذي لم يدخله التحريف من شرعهم؛ وأما عمله، وحكمه: فإنما كان بما أوحاه الله إليه في شرعه الخاص، وأمره أن يحكم بين الناس به.
وأما ما جاء في الإنجيل، فيتوقف على صحته، وأنه ليس من المبدل والمحرف، على فرض توفر شروط إقامة الحد.
والذي في يوحنا:
” 2 ثُمَّ حَضَرَ أَيْضًا إِلَى الْهَيْكَلِ فِي الصُّبْحِ، وَجَاءَ إِلَيْهِ جَمِيعُ الشَّعْبِ فَجَلَسَ يُعَلِّمُهُمْ.
3 وَقَدَّم َإِلَيْهِ الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ امْرَأَةً أُمْسِكَتْ فِي زِنًا. وَلَمَّا أَقَامُوهَا فِي الْوَسْطِ
4 قَالُوا لَهُ: «يَا مُعَلِّمُ، هذِهِ الْمَرْأَةُ أُمْسِكَتْ وَهِيَ تَزْنِي فِي ذَاتِ الْفِعْلِ،
5 وَمُوسَى فِي النَّامُوسِ أَوْصَانَا أَنَّ مِثْلَ هذِهِ تُرْجَمُ. فَمَاذَا تَقُولُ أَنْتَ؟»
6 قَالُوا هذَا لِيُجَرِّبُوهُ، لِكَيْ يَكُونَ لَهُمْ مَا يَشْتَكُونَ بِهِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا يَسُوعُ فَانْحَنَى إِلَى أَسْفَلُ وَكَانَ يَكْتُبُ بِإِصْبِعِهِ عَلَى الأَرْضِ.
7 وَلَمَّا اسْتَمَرُّوا يَسْأَلُونَهُ، انْتَصَبَ وَقَالَ لَهُمْ: «مَنْ كَانَ مِنْكُمْ بِلاَ خَطِيَّةٍ فَلْيَرْمِهَا أَوَّلاً بِحَجَرٍ!»
8 ثُمَّ انْحَنَى أَيْضًا إِلَى أَسْفَلُ وَكَانَ يَكْتُبُ عَلَى الأَرْضِ.
9 وَأَمَّا هُمْ فَلَمَّا سَمِعُوا وَكَانَتْ ضَمَائِرُهُمْ تُبَكِّتُهُمْ، خَرَجُوا وَاحِدًا فَوَاحِدًا، مُبْتَدِئِينَ مِنَ الشُّيُوخِ إِلَى الآخِرِينَ. وَبَقِيَ يَسُوعُ وَحْدَهُ وَالْمَرْأَةُ وَاقِفَةٌ فِي الْوَسْطِ.
10 فَلَمَّا انْتَصَبَ يَسُوعُ وَلَمْ يَنْظُرْ أَحَدًا سِوَى الْمَرْأَةِ، قَالَ لَهَا: «يَاامْرَأَةُ، أَيْنَ هُمْ أُولئِكَ الْمُشْتَكُونَ عَلَيْكِ؟ أَمَا دَانَكِ أَحَدٌ؟»
11 فَقَالَتْ: «لاَ أَحَدَ، يَا سَيِّدُ!». فَقَالَ لَهَا يَسُوعُ: «وَلاَ أَنَا أَدِينُكِ. اذْهَبِي وَلاَ تُخْطِئِي أَيْضًا” انتهى.
وواضح من هذا أنه لا شهود على الزنا، فكيف يقام عليها الحد؟!
ولو فرض أن الكتبة هم الشهود، فقد عدلوا عن شهادتهم وانصرفوا.
وبكل حال؛ فلا يجوز أن تقولي: إن الرجم قد ألغي، بناء على قصة لا نعلم ثبوتها أصلا، ولا نعلم ملابساتها لو ثبتت، مع ما جاء في الإنجيل- المحرف- أن المسيح عليه السلام ما جاء لينقض الناموس، بل ليكمله.
والمهم أن الشرع الثابت في ديننا لا يقابل بالشبهات والاحتمالات، بل يجب الإيمان به والتسليم له.
وننصحك بالإقبال على طلب العلم، وأخذه من مصادره الموثوقة، والسؤال عما أشكل عليك.
تنبيه :
ذكرت ضمن بيانات السائل في خانة “الديانة”: “أؤمن بجميع الكتب السماوية” .
وليس من شك أن المسلم لا يكون مسلما حتى يؤمن بجميع الكتب التي أنزلها الله تعالى : كالزابور والتوراة والإنجيل ثم أعظم تلك الكتب وهو القرآن الكريم ، قال الله تعالى : (وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ) الشورى/15 .
وقال تعالى : (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) البقرة/136 .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : (الإِيمَانِ : أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ) رواه مسلم (8) .
ولكن الكتب السابقة قد أخبرنا الله تعالى أن أهلها قد حرفوها وغيروها ، والكتاب الوحيد الذي حفظه الله تعالى من التغيير والتبديل وسيظل كذلك حتى قيام الساعة هو القرآن الكريم ، قال الله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) الحجر/9 .
فلا يجوز القراءة في الكتب السابقة مع اعتقاد صحة ما فيها ، كما لا يجوز قراءتها لأخذ الهداية منها ، بسبب ما دخلها من التحريف والتغيير ، وقد أغنانا الله تعالى عن ذلك كله بالقرآن الكريم (ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) البقرة/2 .
وأما إن كان مرادك، أنك: لا تلتزمين دينا معينا، واحدا من هذه الأديان؛ فهو خطير جد خطير، فلا يصح لأحد إيمانه، ودينه: إلا أن يكفر بالأديان كلها، سوى دين الإسلام.
ومعنى كفره به: ليس أن يكفر بأنبياء الله السابقين لنبينا، عليه السلام، ولا أن ينكر شيئا من الكتب التي أنزلت عليهم؛ فالإيمان برسل الله وكتبه، ركن ركين من أركان الإيمان؛ ولكن: معناه أن يكفر في بقاء هذه الأديان، دينا يعبد الله جل جلاله به، بعد أن أرسل رسوله الخاتم، وأنزل عليه كتابه المهيمن على ما سبق من الكتب.
قال الله تعالى: ( فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) النساء/65
وقال تعالى: ( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) المائدة/48
والآيات، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة معلومة، وهذا من المعلوم من دين الإسلام بالضرورة.
فاحذري، أيتها السائلة، من أن يتلاعب بك الشيطان، أو أن يضلك عما أنزل الله، وعما فيه فلاحك، ونجاتك.
والله أعلم.
تعليق