الحمد لله.
أولا :
السنن المهجورة هي ما شاع تركه بين المسلمين من سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، القولية أو الفعلية .
ومعلوم أن الإسلام بدأ غريبا ، ثم قوي واشتد ، ثم مع طول العهد وتباعده عن زمن الوحي تُهجر السنن شيئا فشيئا ، حتى يعود الإسلام غريبا كما بدأ .
قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إِنَّ الإِسلَامَ بَدَأَ غَرِيبًا ، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ ، فَطُوبَى لِلغُرَبَاءِ . قِيلَ : مَن هُم يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : الذِينَ يَصلُحُونَ إِذَا فَسَدَ النَّاسُ ) أخرجه أبو عمرو الداني في "السنن الواردة في الفتن" (1/25) من حديث ابن مسعود ، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (1273) وأصل الحديث في "صحيح مسلم" (145)
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( َإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْر ، الصَّبْرُ فِيهِ مِثْلُ قَبْضٍ عَلَى الْجَمْرِ ، لِلْعَامِلِ فِيهِمْ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ ) !!
وفي رواية :
( قَالَوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْهُمْ ؟! قَالَ : أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ ) .
رواه أبو داود (4341) ، والترمذي (3058) وقال : حديث حسن ، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (494).
ثانيا :
السنن المهجورة ليست على منزلة واحدة ، فما كان من السنن المؤكدة ، وما واظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم ، ليس في قوة ما لم يواظب عليه .
فالرواتب قبل الصلوات الخمس وبعدها آكد من غيرها ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يواظب عليها .
والوتر آكد من الرواتب ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يتركه سفرا ولا حضرا .
فأعمال الخير كلها مطلوبة ، وأفضلها ما واظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم .
يقول الإمام ابن عبد البرِّ رحمه الله في سياق حديثه عن ركعتي الفجر:
"وَآكَدُ مَا يَكُونُ مِنَ السُّنَنِ مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوَاظِبُ عَلَيْهِ ، وَيَنْدُبُ إِلَيْهِ ، وَيَأْمُرُ بِهِ ، وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى تَأْكِيدِهِمَا أَنَّهُ صَلَّاهُمَا حِينَ نَامَ عَنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ فِي سَفَرِهِ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ، وَهَذَا غَايَةٌ فِي تَأْكِيدِهِمَا .... " انتهى من "التمهيد" (22/71) .
ويقول الزركشي :
"وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْمَنْدُوبِ آكَدَ مِنْ بَعْضٍ، وَلِهَذَا يَقُولُونَ: سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ...
وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي " شَرْحِ الْإِلْمَامِ ": لَا خَفَاءَ أَنَّ مَرَاتِبَ السُّنَنِ مُتَفَاوِتَةٌ فِي التَّأْكِيدِ، وَانْقِسَامِ ذَلِكَ إلَى دَرَجَةٍ عَالِيَةٍ وَمُتَوَسِّطَةٍ وَنَازِلَةٍ ، وَذَلِكَ بِحَسَبِ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى الطَّلَبِ".
انتهى من "البحر المحيط" (1/386) .
وينظر جواب السؤال:(149492) .
وكل سنن النبي صلى الله عليه وسلم مطلوب إحياؤها وإشاعتها ونشرها بين الناس ، لكن عند التزاحم يقدم الأولى فالأولى .
ولابد من الحكمة في نشر السنن المهجورة التي لا يعلم عنها كثير من عوام الناس .
قال الشيخ ابن عثيمين :
"السنن الميتة ، أي المهجورة : ينبغي لطلبة العلم أن يحيوها، لكن إذا خافوا استنكار الناس لها، فليمهدوا لها أولاً، لا سيما إذا كان طالب العلم صغيراً لا يُهْتَمُّ بكلامه وينتقد، فهنا ينبغي أن يمهد أولاً؛ لأجل أن يروّض أفكار الناس على قبول هذا الشيء.
فمثلاً: لو أن واحداً من علمائنا الكبار المشهود لهم بالثقة والعلم والأمانة في الدين : فعل سنّة لا يعلم عنها الناس ، لوجدت الناس يقولون: سبحان الله! ما كنّا علمنا أن هذه سنّة، جزاه الله خيراً فتح لنا باباً من العلم .
لكن لو فعلها أو قالها طالب علم صغير لقالوا: ما هذا الدين الجديد؟ وأخذوه والعياذ بالله بالسب والشتم، فينبغي للإنسان أن يكون حكيماً" انتهى من "الشرح الممتع" (5/145) .
ومثل ذلك : يدركه طالب العلم في سيره في طلب العلم ، وتفقهه في الأبواب ، شيئا ، فشيئا ، لا أنه يدرك مرة واحدة ، ولا أن يقال : هذه هي السنن المهجورة ؛ فهجران سنة من السنن أمر نسبي ، يتفاوت بحسب الزمان ، وبحسب المكان ، وبحسب حال كل شخص ، ومنزلته من العلم والدين، وما ظهر في بيئته من العلم والدين ، وما خفي من ذلك كله .
وينظر جواب السؤال:(89878) .
والله أعلم .
تعليق