الحمد لله.
أولا:
إذا كان مثل هذا الشخص أهلا للإمامة ، ويغلب على ظنه أنه أكثرهم قرآنا وأتقنهم له، وأعلمهم بأحكام الصلاة وما ينوبها من الحوادث؛ فالأفضل أن يتقدم للإمامة.
عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ، فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً، فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً، فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً ... رواه مسلم (673).
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا كَانُوا ثَلَاثَةً فَلْيَؤُمَّهُمْ أَحَدُهُمْ، وَأَحَقُّهُمْ بِالْإِمَامَةِ أَقْرَؤُهُمْ رواه مسلم (672).
قال الخطابي رحمه الله تعالى:
" وهذا هو الصحيح المستقيم في الترتيب؛ وذلك أنه جعل صلى الله عليه وسلم ملاك أمر الإمامة القراءة وجعلها مقدمة على سائر الخِصال المذكورة معها... ثم تلا القراءة بالسنة؛ وهي الفقه، ومعرفة أحكام الصلاة، وما سنّه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها وبيّنه من أمرها، فإن الإمام إذا كان جاهلا بأحكام الصلاة ، وبما يعرض فيها من سهو ، ويقع من زيادة ونقصان : أفسدها ، أو أخرجها؛ فكان العالم بها ، والفقيه فيها: مقدَّما على من لم يجمع علمها، ولم يعرف أحكامها.
ومعرفة السنة وإن كانت مؤخرة في الذكر، وكانت القراءة مبدوءاً بذكرها؛ فإن الفقيه العالم بالسنة، إذا كان يقرأ من القرآن ما يجوز به الصلاة : أحق بالإمامة من الماهر بالقراءة ، إذا كان متخلفاً عن درجته في علم الفقه ومعرفة السنة... " .
انتهى من "معالم السنن" (1 / 166 - 167).
وراجع لمزيد الفائدة جواب السؤال رقم : (1875).
وما عند هذا الشخص من ذنوب ، يعاودها ؛ ليس الطريق فيها أن يدع الإمامة ؛ فإن "مشكلته" ليست مع "الإمامة" ، بل مع "الذنوب" ، والواجب عليه أن يدع "الذنوب" ، ويتوب إلى علام الغيوب منها ، وليس أن يدع الإمامة ، التي هي من أعمال الخير والبر .
ومن حيل الشيطان ، وكيده الخفي ، لصد الناس عن فعل الخيرات : أن يذكره بذنب ، هو حقه ألا ينساه ، وحقه ألا يعود إليه ، بل يندم عليه ، ويتوب إلى الله منه .
لكن حيلة الشيطان : أن يصده به عن فعل الخيرات ، كما فعل بهذا الشخص ، فيقول له : لا يليق بمن يصلي بالناس إماما ، أن يفعل كذا ، وكذا ، وقبيح منه أن يكون على هذه الحال ، وشنيع بالإمام : أن يكون هكذا !!
وهذا كله حق ؛ لكن أراد به الباطل : أن يصده عن الصلاة بالناس ، ودعوتهم للخير ، وأمرهم بالمعروف ، ونهيهم عن المنكر ، بل ربما صده بذلك عن الجماعات ، وعن كثير من أبواب الخير، ونوافل الطاعات !!
والواجب على العبد أن ينصح لنفسه ، ومتى ما انتبه إلى هذه الشناعة ، أن يدع الذنب الذي يلم به ، ويعتاده ، ويتوب إلى الله رب العالمين ، الرحمن الرحيم من تلك القبائح ؛ ثم لا يدع شيئا من الخير عمله لله ، وإن احتال له الشيطان بما احتال به ، وإن ذكره بذنبه ، وإن عيره به ، وقبحه له ؛ فلا يجمع بين فعل الذنب ، أن يترك بابا من الخير ؛ فإن الحسنات يذهبن السيئات ، والقبائح ، والذنوب : لا تحبط أعمال الخير ، بعامة ؛ فليحذر العبد من هذا الكيد الخفي .
وأما قول الله تعالى : أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ البقرة/44 ، فالمراد به ما قدمناه : أنه قبيح بمن يأمر الناس بالخير ، ويرشدهم إليه : ألا يكون أول من يسارع إليه ، ويسبقهم إلى فعله .
قال الإمام ابن كثير رحمه الله :
" يقول تعالى: كيف يليق بكم -يا معشر أهل الكتاب، وأنتم تأمرون الناس بالبر، وهو جماع الخير-أن تنسوا أنفسكم، فلا تأتمروا بما تأمرون الناس به، وأنتم مع ذلك تتلون الكتاب، وتعلمون ما فيه على من قصر في أوامر الله؟ أفلا تعقلون ما أنتم صانعون بأنفسكم؛ فتنتبهوا من رقدتكم، وتتبصروا من عمايتكم. وهذا كما قال عبد الرزاق عن معمر، عن قتادة في قوله تعالى: أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم قال: كان بنو إسرائيل يأمرون الناس بطاعة الله وبتقواه، وبالبر، ويخالفون، فعيرهم الله، عز وجل. وكذلك قال السدي.
وقال ابن جريج: أتأمرون الناس بالبر أهل الكتاب والمنافقون كانوا يأمرون الناس بالصوم والصلاة، ويدعون العمل بما يأمرون به الناس، فعيرهم الله بذلك، فمن أمر بخير فليكن أشد الناس فيه مسارعة..." .
ثم قال :
" والغرض : أن الله تعالى ذمهم على هذا الصنيع ، ونبههم على خطئهم في حق أنفسهم، حيث كانوا يأمرون بالخير ولا يفعلونه .
وليس المراد ذمهم على أمرهم بالبر، مع تركهم له ، بل على تركهم له، فإن الأمر بالمعروف معروف ، وهو واجب على العالم، ولكن الواجب والأولى بالعالم : أن يفعله ، مع أمرهم به، ولا يتخلف عنهم، كما قال شعيب، عليه السلام: وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب [هود: 88] .
فكل من الأمر بالمعروف وفعله : واجب، لا يسقط أحدهما بترك الآخر، على أصح قولي العلماء من السلف والخلف.
وذهب بعضهم إلى أن مرتكب المعاصي لا ينهى غيره عنها ؟
وهذا ضعيف . وأضعف منه : تمسكهم بهذه الآية؛ فإنه لا حجة لهم فيها.
والصحيح : أن العالم يأمر بالمعروف، وإن لم يفعله، وينهى عن المنكر، وإن ارتكبه .
قال مالك ، عن ربيعة: سمعت سعيد بن جبير يقول له: لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر، حتى لا يكون فيه شيء ؛ ما أمر أحد بمعروف ، ولا نهى عن منكر.
وقال مالك ، وصدق : من ذا الذي ليس فيه شيء؟
قلت : ولكنه -والحالة هذه-مذموم على ترك الطاعة ، وفعله المعصية، لعلمه بها ، ومخالفته على بصيرة، فإنه ليس من يعلم ، كمن لا يعلم؛ ولهذا جاءت الأحاديث في الوعيد على ذلك ... " انتهى من "تفسير ابن كثير" (1/246-247) .
فالعقل ، والحكمة ، والشرع في حق هذا الشخص : أن يتوب من ذنبه هذا ، بل من ذنوبه كلها ، وأن يجاهد نفسه على ذلك ، وينهى نفسه عن هواها ، ويغلق عنها أبواب الشر والعصيان ، ويعظم مقام ربه ؛ ثم لا يتأخر عن مقام الإمامة ، متى كان أولى الناس بها ، بحسب أمر الشر ؛ لا سيما إن كان إن تركها ، لم يقم بحقها من كان قارئا ، حسن الصلاة ، مؤهلا لإمامة الناس ، كما هو الواقع في كثير من الأحيان .
وينظر حول ذنوب الخلوات والتوبة منها : جواب السؤال رقم : (134211) .
والله أعلم .
تعليق