الحمد لله.
أولا:
قول الله تعالى: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ الطلاق/4.
فالمرأة التي لم تحض لصغرها، أمرها الشرع إن طلقت أن تعتد بثلاثة أشهر.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى:
" يقول تعالى مبينا لعدة الآيسة - وهي التي قد انقطع عنها الحيض لكبرها -: أنها ثلاثة أشهر، عوضا عن الثلاثة قروء في حق من تحيض، كما دلت على ذلك آية "البقرة".
وكذا الصغار اللائي لم يبلغن سن الحيض أن عدتهن كعدة الآيسة ثلاثة أشهر؛ ولهذا قال: ( وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ ) " انتهى من"تفسير ابن كثير" (8 / 149).
والقول بأن الصغيرة التي لم تحض لا يمكن الدخول بها ، وما بناه السائل على ذلك من معارضة هذه الآية ( وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ ) بآية الأحزاب (فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا ) : غير صحيح ؛ لأن التي لم تحصن لصغر سنها ، لا يلزم إلا يكون جماعها ممكنا ، بل نفس جماعها ممكن ، لا إشكال في ذلك ، وهي أيضا قد تكون مطيقة للجماع، لا مانع عندها منه ، ولو كانت لم تحض؛ وحينئذ لا يمنع زوجها من جماعها.
وقد سبق بيان ذلك في جواب السؤال : (127176) ونقلنا أقوال العلماء في هذا ، وبينا فيه أنه لا يلزم من عقد النكاح على الصغيرة أن يدخل بها زوجها ، بل قد يتم العقد ، ثم يحصل الدخول ، أو لا يحصل .
وانظر جواب السؤالين : (176799) ، (178318) .
ففيهما بيان الحكمة من تزويج الصغيرة ، وأن ذلك لا يجوز إلا إذا كان هذا النكاح من مصلحتها.
ثانيا:
المرأة الصغيرة إذا طلقت، فلها حالان:
الحالة الأولى: أن يكون زوجها قد جامعها، وهنا تكون الحكمة من أمرها بالاعتداد ظاهرة؛ وهي التأكد من عدم وجود حمل في رحمها.
وذلك أن عدم وجود الحيض لا يلزم منه عدم الحمل؛ فنفس إمكان الحمل، يسبق وقت نزول الحيض، فالحيض يأتي بعد زمن بداية تشكل البويضة ، واستعداد الرحم للحمل، وهذا أمر يقرره أهل الاختصاص من أهل الطب.
فلهذا أمر الشرع المرأة التي لم تحض بعد بالعدة؛ احتياطا للأنساب، وسدا لباب الاختلاط فيها، وبه يحصل التأكد التام من عدم وجود الحمل.
الحالة الثانية:
إذا كان الزوج قد خلا بزوجته ، ولم يدخل بها ، صغيرة كانت أو كبيرة ؛ فهل عليها العدة ، كما هو الحال فيمن دخل بها ، أو لا عدة عليها ، كما هو الشأن في التي لم يدخل بها ؟
اختلف في ذلك أهل العلم.
قال ابن قدامة رحمه الله تعالى:
" إن خلا بها ولم يصبها، ثم طلقها، فإن مذهب أحمد وجوب العدة عليها. وروي ذلك عن الخلفاء الراشدين، وزيد، وابن عمر. وبه قال عروة، وعلي بن الحسين، وعطاء، والزهري، والثوري، والأوزاعي، وإسحاق، وأصحاب الرأي، والشافعي في قديم قوليه.
وقال الشافعي في الجديد: لا عدة عليها؛ وقوله تعالى: ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا ) وهذا نص، ولأنها مطلقة لم تمس، فأشبهت من لم يخل بها.
ولنا – أي : دليلنا على وجوب العدة- إجماع الصحابة، روى الإمام أحمد، والأثرم: بإسنادهما عن زرارة بن أوفى، قال: قضى الخلفاء الراشدون أن من أرخى سترا، أو أغلق بابا، فقد وجب المهر، ووجبت العدة. ورواه الأثرم أيضا عن الأحنف، عن عمر وعلي، وعن سعيد بن المسيب، عن عمر وزيد بن ثابت. وهذه قضايا اشتهرت، فلم تنكر، فصارت إجماعا " انتهى من "المغني" (11 / 197 — 198).
ويتأكد رجحان العدة عليها؛ بأن العدة وإن كان الأصل في تشريعها التأكد من عدم وجود حمل في الرّحم، إلا أنه توجد حِكَم أخرى لتشريعها؛ وأظهر دليل على ذلك أن الحمل يمكن معرفة وجوده أو عدم وجوده بحيضة واحدة، فمثلا الجارية إذا اشتراها الرجل فإنه يتم التأكد من عدم وجود الحمل بحيضة واحدة فقط، وليس بثلاثة قروء كما هوالحال في عدة المطلقة.
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي سَبَايَا أَوْطَاسَ: ( لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلَا غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً ) رواه أبو داود (2157). وصححه الألباني في "إرواء الغليل" (1 / 200).
فمن حِكَم العدة على الحائض وغير الحائض هو إعطاء فرصة للإصلاح ، وعدم تفريق الأسرة التي تم تأسيسها، فكثيرا ما يكون سبب الطلاق عبارة عن خصام عابر ومؤقت ، لو صبر فيه الزوجان لفترة من الزمن لزال التغاضب ، وحصل التصالح؛ فلهذا طوّلت العدة ولم يكتف فيها بحيضة واحدة، وأمرت الزوجة بالمكوث في بيت الزوجية ، ولا تنتقل أثناء العدة إلى غيره ، كبيت والدها، لأن هذا التقارب بين الزوجين يساهم في تسهيل التصالح.
قال الله تعالى: يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا الطلاق/1.
قال القرطبي رحمه الله تعالى:
" (لا تخرجوهن من بيوتهن) أي ليس للزوج أن يخرجها من مسكن النكاح ما دامت في العدة، ولا يجوز لها الخروج أيضا؛ لحق الزوج، إلا لضرورة ظاهرة " انتهى من"تفسير القرطبي" (21 / 35).
قال الشيخ عبد الرحمن المعلمي رحمه الله تعالى:
" فإذا طلَّق : كان عليه أن لا يقطع عنها النفقة والسكنى، ومن الحكمة في ذلك - والله أعلم - أن يبقى باب الصلح مفتوحًا ميسرًا، والغالب أن يكون بيتها الذي أمر أن يُسكِنها فيه ، هو بيته أو قريب منه، وذلك أدعى إلى الصلح، فقد تهيج به الذكرى وهو على فراشه في أثناء العدة، فلا يكون بينه وبينها إلا كشف الستر أو طَرْق الباب، ولعله لو صبر إلى الصبح لفترت رغبته، فلا يراجع " انتهى من"آثار الشيخ عبد الرحمن المعلمي" (17 / 627 - 628).
ومما يؤكد هذه الحكمة أن الزوجة إذا طلبت الخلع من زوجها، فإذا وافق الزوج فإن هذه المرأة المختلعة تعتد بحيضة واحدة فقط.
عَنْ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذِ ابْنِ عَفْرَاءَ " أَنَّهَا اخْتَلَعَتْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ أُمِرَتْ أَنْ تَعْتَدَّ بِحَيْضَةٍ" رواه الترمذي (1185) وقال: "حَدِيثُ الرُّبَيِّعِ الصَّحِيحُ؛ أَنَّهَا أُمِرَتْ أَنْ تَعْتَدَّ بِحَيْضَةٍ".
والحكمة في أنّ عدة المختلعة حيضة واحدة؛ أنه في الخلع : لا يمكن للرجل أن يرجع المرأة في العدة، بل بمجرد الخلع تصبح زوجته أجنبية عنه ، لا يجوز له نكاحها إلا بعقد جديد.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" وهذا الخلع تَبِينُ به المرأة، فلا يحل له أن يتزوجها بعده إلا برضاها، وليس هو كالطلاق المجرد؛ فإن ذلك يقع رجعيا، له أن يرتجعها في العدة بدون رضاها " انتهى من"مجموع الفتاوى" (33 / 152).
راجع لمزيد الفائدة عن الخلع جواب السؤال رقم : (5163).
والله أعلم.
تعليق