الحمد لله.
أولا :
لا بأس بالإشارة إلى مثل ذلك المعنى؛ لا على أنه "مدلول" الآية، نصا ، أو ظاهرا قويا، ولا أن هذا هو تفسيرها الذي تقتضيه قواعد التفسير عند أهل العلم ؛ بل هو أقرب إلى : الملح ، والنكت ، والإشارات التي يذكرها العلماء كثيرا في مثل هذا المقام ، ويستأنس بها ؛ كما يذكر كثير من السلف : أن أول من (قاس) إبليس !!
روى ابن أبي شيبة (36956) والدرامي (189) عَنِ ابْنِ سِيرِينَ ، قَالَ : " أَوَّلُ مَنْ قَاسَ إبْلِيسُ ، وَإِنَّمَا عُبِدَتِ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِالْمَقَايِيسِ".
وفي رواية للدارمي (196) عَنِ الْحَسَنِ ، بيان هذا القياس : فقد تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف: 12] قَالَ: " قَاسَ إِبْلِيسُ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ قَاسَ ".
ثانيا :
وجه الاستدلال بقصة غرق ابن نوح عليه السلام، على أن النقل القطعي يقدم على العقل الظني إذا تعارضا:
أن ابن نوح عليه السلام قدَّم العقل على النقل القطعي ؛ فظن أنه إذا آوى إلى الجبل فإنه سينجو من الطوفان ؛ لأن الجبل عالٍ ولن يصل الماء إلى قمته ، إذ قال : سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ هود/43 .
بينما أهمل النقل القطعي ، وهو الوحي الذي جاء من عند الله على لسان أبيه ؛ بأن الله تعالى قضى بأن كل من على الأرض سيغرق إلا من آمن بالله تعالى ، إذ قال : لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ هود/43.
فكانت نتيجة تقديم العقل الظني، على النقل القطعي : أن ابن نوح ، الكافر بالشرع ، والنقل : قد غرق ، وأن أباه قد نجا ، بما معه من الدين والوحي (النقل) : وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ هود/43 .
قال البقاعي: " ولما كان الحال حال دهش واختلال ، كان السامع جديراً بأن لا يصبر بل يبادر إلى السؤال، فيقول : فما قال ؟
فقيل : ( قال ) ، قول من ليس له عقل ، تبعاً لمراد الله : ( سآوي إلى جبل يعصمني ) أي : بعلوه ( من الماء ) أي : فلا أغرق ( قال ) أي : نوح عليه السلام ( لا عاصم ) أي : لا مانع من جبل ولا غير موجود ( اليوم ) أي : لأحد ( من أمر الله ) أي : الملك الأعظم المحيط أمره وقدرته وعلمه ، وهو حكمه بالغرق على كل ذي روح لا يعيش في الماء ( إلا من رحم ) أي إلا مكان من رحمة الله ، فإنه مانع من ذلك ، وهو السفينة ، أو لكن من رحمه الله ؛ فإن الله يعصمه " انتهى من "نظم الدرر في تناسب الآيات والسور" (9/ 289).
وعلى أية حال، فليس هذا الاستنباط من متين العلم، ومحكم النظر في الآية، إنما هو من باب ملحها، وإشاراتها، كما ذكرنا .
ثالثا:
وسواء صح هذا الاستدلال، أو لم يصح ؛ فالأصل المقرر عند أهل السنة : أن ما جاءت به الرسل ، من الآيات والمعجزات : هو حق وصدق بلا ريب ، وما جاء في رسالاتهم ، من العقائد، والشرائع: فليس في المعقول الصريح ما يمكن أن يقدم عليه ، فإن الرسل معصومون فيما يبلغون به عن الله تعالى.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " ليس في المعقول الصريح ما يمكن أن يكون مقدمًا على ما جاءت به الرسل ، وذلك لأن الآيات والبراهين دالة على صدق الرسل ، وأنهم لا يقولون على الله إلا الحق ، وأنهم معصومون فيما يبلغونه عن الله ، من الخبر ، والطلب ، لا يجوز أن يستقر في خبرهم عن الله شيء من الخطأ ، كما اتفق على ذلك جميع المقرين بالرسل ، من المسلمين واليهود والنصارى وغيرهم .
فوجب أن جميع ما يخبر به الرسول عن الله : صدق وحق ، لا يجوز أن يكون في ذلك شيء مناقض لدليل عقلي ولا سمعي ، فمتي علم المؤمن بالرسول أنه أخبر بشيء من ذلك : جزم جزما قاطعا أنه حق ، وأنه لا يجوز أن يكون في الباطن بخلاف ما أخبر به ، وأنه يمتنع أن يعارضه دليل قطعي ، لا عقلي ، ولا سمعي .
وأن كل ما ظُن أنه عارضه من ذلك : فإنما هو حجج داحضة ، وشبه من جنس شبه السوفسطائية ، وإذا كان العقل العالم بصدق الرسول قد شهد له بذلك ، وأنه يمتنع أن يعارض خبره دليل صحيح، كان هذا العقل شاهدا بأن كل ما خالف خبر الرسول ، فهو باطل ، فيكون هذا العقل والسمع ، جميعا : شهدا ببطلان العقل المخالف للسمع " انتهى من "درء تعارض العقل والنقل" (1/172).
وإذا تقرر أن كل ما أخبر به الرسل ، يوافق العقل والفطرة ؛ فليعلم أنه قد يقع في أخبار الرسل ما تحار فيه العقول ، ولا تدركه لعجزها ، وضعفها ؛ وأما أن يقع في أخبرها ما تجزم العقول الصحيحة ببطلانه ، وإحالته : فحاشا ، وكلا .
قال ابن القيم رحمه الله : " الرسل صلوات الله وسلامه عليهم لم يخبروا بما تحيله العقول وتقطع باستحالته ، بل أخبارهم قسمان :
أحدهما : ما تشهد به العقول والفطر .
الثاني: ما لا تدركه العقول بمجردها ، كالغيوب التي أخبروا بها عن تفاصيل البرزخ واليوم الآخر وتفاصيل الثواب والعقاب ، ولا يكون خبرهم محالا في العقول أصلا ، وكل خبر يظن أن العقل يحيله ، فلا يخلو من أحد أمرين : إما أن يكون الخبر كذبا عليهم ، أو يكون ذلك العقل فاسدًا ، وهو شبهة خيالية ، يظن صاحبها أنها معقول صريح " انتهى من "الروح" (ص 62) . وينظر : "الصواعق المرسلة" (3/ 829-830).
والحاصل:
أن الاستدلال بقصة غرق ابن نوح ، على تقديم النقل القطعي على العقل الظني إذا تعارضا: هو من ملح التفاسير، وإشارات الآيات، واستنباط فوائدها .
وسواء صح ذلك الاستدلال، أو لم يصح : فبناء الدين، عامة، والعقائد : على النقل الصحيح، المؤيد بالعقل الصريح : هو طريق أهل السنة ، ومسلك السلف الصالح ، ولا يمكن أن يتعارض الدليلان: النقل الصحيح ، مع العقل الصريح ؛ بل يقطع العاقل، إذا تدبر حقيقة الأمر بـ : (موافقة صريح المعقول، لصحيح المنقول) .
والله أعلم.
تعليق