الحمد لله.
القائلون بهذه الشبهة هم قوم ينسبون أنفسهم إلى البحث العلمي على القواعد الصحيحة والأسس المنطقية وغير هذه من الدعاوى؛ رغم أن هذه الشبهة نفسها خلاف كل هذه الأسس العلمية؛ وبيان هذا بأمور:
الأمر الأول:
أن المعتمد في البحوث التي تتناول إنتاج فكري لكاتب ما، ومحاولة معرفة مصادر أفكاره ومعلوماته، هو أن تستقصى حياته الشخصية والعلمية وحالة بيئته التي عاش فيها من جميع النواحي حتى يتمكن الباحث من استخلاص مصادر أفكار هذا الكاتب.
لكن أصحاب هذه الشبهات لا يلقون بالا لهذه المسألة عندما يتكلمون عن مصدر القرآن الكريم؛ لأنهم يعلمون قطعا أنها تقتلع شبهتهم من جذورها.
فلو كانت شبهتهم هذه حقا؛ للزم منها أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد عاش في بلدة تعج بالمكتبات والكتب، بمختلف اللغات ومختلف التخصصات الدينية والتاريخية والقانونية وأدب الأساطير، وأن يكون النبي صلى الله عليه وسلم كان ملما بعدد من اللغات، وأن يكون قد امتلك قدرة على القراءة، ولظهر أثر هذه الكتب في القرآن الكريم من حيث الأسلوب ومن حيث المصطلحات وغير هذا.
وهذا الظلم في التعامل مع القرآن الكريم وعدم الإنصاف هو نفسه الذي وقع فيه كفار قريش؛ لأنه لم يكن همهم معرفة الحقيقة وإنما صرف الناس عنها، فعاب الله تعالى عليهم ذلك بقوله:
( أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ ، أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ، أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ) المؤمنون/68-70.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" وقال في إثبات نبوة رسوله باعتبار التأمل لأحواله وتأمل دعوته وما جاء به: ( أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ ... ) الآيات.
فدعاهم سبحانه إلى تدبر القول، وتأمل حال القائل، فإن كون القول للشيء كذبا وزورا يعلم من نفس القول تارة، وتناقضه واضطرابه وظهور شواهد الكذب عليه، فالكذب باد على صفحاته، وباد على ظاهره وباطنه، ويعرف من حال القائل تارة فإن المعروف بالكذب والفجور والمكر والخداع لا تكون أقواله إلا مناسبة لأفعاله، ولا يتأتى منه من القول والفعل ما يتأتى من البار الصادق المبرأ من كل فاحشة وغدر وكذب وفجور، بل قلب هذا وقصده وقوله وعمله يشبه بعضه بعضا، وقلب ذلك وقوله وعمله وقصده يشبه بعضه بعضا.
فدعاهم سبحانه إلى تدبر القول وتأمل سيرة القائل وأحواله وحينئذ تتبين لهم حقيقة الأمر وأن ما جاء به في أعلى مراتب الصدق " انتهى من "الصواعق المرسلة" (2/ 469–470).
ورد الله تعالى هذه الشبهة أيضا، حيث قال سبحانه وتعالى:
(قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) يونس /16.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" الحجة الثانية: أني قد لبثت فيكم عمري إلى حين أتيتكم به، وأنتم تشاهدوني وتعرفون حالي، وتصحبوني حضرا وسفرا، وتعرفون دقيق أمري وجليله، وتتحققون سيرتي هل كانت سيرة من هو من أكذب الخلق وأفجرهم وأظلمهم؟! فإنه لا أكذب ولا أظلم ولا أقبح سيرة ممن جاهر ربه وخالفه بالكذب والفرية عليه وطلب إفساد العالم وظلم النفوس والبغي في الأرض بغير الحق.
هذا وأنتم تعلمون أني لم أكن أقرأ كتابا ولا أخطه بيميني، ولا صاحبت من أتعلم منه؛ بل صحبتكم أنتم في أسفاركم لمن تتعلمون منه وتسألونه عن أخبار الأمم والملوك وغيرها ما لم أشارككم فيه بوجه، ثم جئتكم بهذا النبأ العظيم الذي فيه علم الأولين والآخرين وعلم ما كان وما سيكون على التفصيل.
فأي برهان أوضح من هذا! " انتهى من "الصواعق المرسلة" (2/471).
وقال الشيخ المفسر محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى:
" في هذه الآية الكريمة حجة واضحة على كفار مكة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبعث إليهم رسولا حتى لبث فيهم عمرا من الزمن، وقدر ذلك أربعون سنة، فعرفوا صدقه، وأمانته، وعدله، وأنه بعيد كل البعد من أن يكون كاذبا على الله تعالى، وكانوا في الجاهلية يسمونه الأمين، وقد ألقمهم الله حجرا بهذه الحجة في موضع آخر، وهو قوله: ( أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ) ولذا لما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان، ومن معه عن صفاته صلى الله عليه وسلم، قال هرقل لأبي سفيان: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال أبو سفيان: فقلت: لا. وكان أبو سفيان في ذلك الوقت زعيم الكفار، ورأس المشركين ومع ذلك اعترف بالحق، والحق ما شهدت به الأعداء.
فقال له هرقل: فقد أعرف أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس، ثم يذهب فيكذب على الله. اهـ.
ولذلك وبخهم الله تعالى بقوله هنا: ( أَفَلَا تَعْقِلُونَ ). " انتهى من "أضواء البيان" (2/ 563- 564).
وقال الله تعالى: (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ) العنكبوت/48.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" بين سبحانه من حاله ما يعلمه العامة والخاصة، وهو معلوم لجميع قومه الذين شاهدوه، متواتر عند من غاب عنه، وبلغته أخباره من جميع الناس: أنه كان أميا لا يقرأ كتابا، ولا يحفظ كتابا من الكتب، لا المنزلة ولا غيرها، ولا يقرأ شيئا مكتوبا، لا كتابا منزلا ولا غيره، ولا يكتب بيمينه كتابا، ولا ينسخ شيئا من كتب الناس المنزلة ولا غيرها.
ومعلوم أن من يعلم من غيره إما أن يأخذ تلقينا وحفظا، وإما أن يأخذ من كتابه، وهو لم يكن يقرأ شيئا من الكتب من حفظه، ولا يقرأ مكتوبا، والذي يأخذ من كتاب غيره إما أن يقرأه وإما أن ينسخه، وهو لم يكن يقرأ ولا ينسخ " انتهى من "الجواب الصحيح" (5/ 338-339).
الأمر الثاني:
أن أصحاب هذه الشبهات يتميزون بالانتقاء وليس بالموضوعية في البحث، فعندما يتناولون أمور الغيب في القرآن الكريم يتناولون قصص الماضين، ويعرضون عن مسألة أن القرآن الكريم كان يخبر بما مضى ويخبر أيضا بما سيكون، فمن أي أساطير أخذ القرآن الكريم هذه الأحداث المستقبلية؟!
كقوله تعالى: (الم ، غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ، فِي بِضْعِ سِنِينَ ...) الروم/2–4.
الأمر الثالث:
أن أصحاب هذه الشبهات يعانون من ازدواجية في معايير التعامل مع النصوص الخاضعة للبحث، فبينما يقفون من نصوص القرآن وشخصية النبي صلى الله عليه وسلم – الواردة أخبارها إلينا بالتواتر القاطع بصحتها - موقف تشكك بحجة الحيادية في البحث، تجدهم في الوقت ذاته وفي نفس البحث يقفون من الأساطير التي يتحدثون عنها، ومن نسبتها إلى عصر من العصور، موقف قطع وجزم، رغم أنها ضرب من الظنون والاحتمالات؟!
وهذه عادة قبيحة في مثل هؤلاء الباحثين، فتجدهم يقفون من الأخبار الواردة بالأسانيد موقف تشكيك، وفي المقابل لا يستحي أحدهم أن يرجع إلى أسطورة مثل ألف ليلة وليلة.
ومثال ذلك ما نبه إليه الأستاذ مصطفى السباعي بأن المستشرق "جولدتسيهر" بعد أن يطعن في الأخبار الواردة في كتب موثوقة، لا يستحي أن يرجع إلى كتب وضعت للترفيه أو لا تعتني بانتقاء الأخبار الصحيحة:
" ككتاب "ألف ليلة وليلة"، الذي كثيرا ما اعتمد عليه في النقل أثناء بحوثه العلمية، أو في كتاب "حياة الحيوان" للدميري الذي ينقل عنه كثيرا " انتهى من "السنة ومكانتها" للسباعي (ص 228).
فهؤلاء الباحثون كما وصفهم الله تعالى:
(وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) الأنعام/116.
الأمر الرابع:
أن صاحب هذه الشبهة يقع في مشكلة التحكم في الدليل؛ فيوجهه إلى النتيجة التي يهواها، وليست التي يقتضيها العقل والمنطق.
فمثلا أسطورة العجل التي تحدث عنها، وأن التوراة والقرآن اقتبسوا هذه الأسطورة من الأمم الوثنية السابقة؛ لماذا لا يفترض هذا الباحث أمرا معقولا دون التشكيك في قصة السامري والعجل؟! فيمكن القول:
أن السامري كان ملما وعالما بهذه الأسطورة وكذا بنو إسرائيل، فصنع لهم العجل تأثرا بهذه الأسطورة.
فقصة السامري ليس فيها أي خاصيّة من خصائص الأسطورة؛ فهي تصرف بشري يمكن أن يتكرر في أي عصر وفي أي مكان؛ فحاصله أن شخصا استغل ضعف إيمان طائفة من قومه، فنحت لهم عجلا ليست فيه حياة، بل جامدا لا يقدم نفعا ولا ضرا، فجاء رجل ناصح من قومه فحرقه ونهاهم عن هذا الشرك.
فهذه الواقعة كما ذكرت في القرآن الكريم؛ فما وجه التشابه بينها وبين الأساطير؟!
فالحاصل؛ أن أصحاب هذه الشبه، طعنهم في القرآن الكريم ليس نابعا من موضوعيتهم في البحث، بل من تكذيبهم، فيبحثون ما يبررون به هذا التكذيب، ولذا تنوعت شبههم وتناقضت، فكل صاحب هوى يخترع شبهة تناسبه.
وينظر للأهمية جواب السؤال رقم: (162219) والمصادر المذكورة فيه.
والله أعلم.
تعليق