الحمد لله.
أولا:
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من آكد شعائر الدين الإسلامي ، وهما فرضا كفاية.
وإنما يتعين عليك إنكار المنكر إذا كان في مكان لا يطلع عليه غيرك، أو كان لا ينكره غيرك.
قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: "وقد يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرضَ عينٍ ، وذلك في حق من يرى المنكر، وليس هناك من ينكره وهو قادر على إنكاره ؛ فإنه يتعين عليه إنكاره، لقيام الأدلة الكثيرة على ذلك ، ومن أصرحها قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( مَن رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ) أخرجه مسلم في صحيحه" انتهى من " فتاوى الشيخ ابن باز " ( 3 / 212).
ثانيا:
الظاهر من صنيع والدك أنه يخاف عليك عاقبة الإنكار، كأن يلحقك أذى من الدولة ، أو من أصحاب المنكرات.
فاعلم أنه إذا خاف الإنسان أذى معتبرا كضرب أو حبس ، سقط وجوب الإنكار.
قال الغزالي رحمه الله: " فكل من علم أنه يضرب ضرباً مؤلماً يتأذى به في الحسبة، لم تلزمه الحسبة، وإن كان يستحب له ذلك كما سبق. وإذا فهم هذا في الإيلام بالضرب، فهو في الجرح والقطع والقتل: أظهر" انتهى من " إحياء علوم الدين" (2/ 322).
وقال النووي رحمه الله: " فإن خاف من ذلك على نفسه أو ماله أو على غيره: سقط الإنكار بيده ولسانه ، ووجبت كراهته بقلبه. هذا مذهبنا ومذهب الجماهير" انتهى من "شرح مسلم" (12/ 230).
ثالثا:
إذا ظن الإنسان أن إنكاره لا يفيد، فهل يجب عليه الإنكار أم يستحب ؟ في ذلك خلاف.
والمذهب عند الشافعية والحنابلة: أن الإنكار يجب، أفاد، أو لم يفد.
قال النووي رحمه الله في "شرح صحيح مسلم" (2/ 23): " ثم إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: فرض كفاية ، إذا قام به بعض الناس ، سقط الحرج عن الباقين .
وإذا تركه الجميع : أثم كل من تمكن منه ، بلا عذر ولا خوف.
ثم إنه قد يتعين –أي يصير واجباً على شخص بعينه- كما إذا كان في موضع لا يعلم به إلا هو ، أو لا يتمكن من إزالته إلا هو، وكمن يرى زوجته أو ولده أو غلامه على المنكر ، أو تقصير في المعروف.
قال العلماء رضي الله عنهم: ولا يسقط عن المكلف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكونه لا يفيد في ظنه ، بل يجب عليه فعله فإن الذكرى تنفع المؤمنين " انتهى.
وقال في "مطالب أولي النهى" (1/ 276): " الأمر بالمعروف : لا يجب إلا إذا ظن امتثال المأمور، وهو قول لبعضهم.
والمذهب : وجوبه، أفاد أو لم يفد؛ لقوله تعالى: وأمر بالمعروف [لقمان: 17]" انتهى.
وعن الإمام أحمد رحمه الله رواية: أن الإنكار حينئذ لا يجب.
قال ابن رجب رحمه الله: " وقد حكى القاضي أبو يعلى روايتين عن أحمد، في وجوب إنكار المنكر على من يعلم أنه لا يقبل منه، وصحح القول بوجوبه، وهذا قول أكثر العلماء.
وقد قيل لبعض السلف في هذا، فقال: يكون لك معذرة، وهذا كما أخبر الله عن الذين أنكروا على المعتدين في السبت أنهم قالوا لمن قال لهم: (لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) [الأعراف: 164].
وقد ورد ما يستدل به على سقوط الأمر والنهي عند عدم القبول والانتفاع به، ففي " سنن أبي داود وابن ماجه والترمذي «عن أبي ثعلبة الخشني أنه قيل له: كيف تقول في هذه الآية: عليكم أنفسكم [المائدة: 105] [المائدة: 105] ، فقال: أما والله لقد سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: بل ائتمروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بنفسك، ودع عنك أمر العوام» .
وفي " سنن أبي داود " عن عبد الله بن عمرو، قال: بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ ذكر الفتنة، فقال: إذا رأيتم الناس مرجت عهودهم، وخفت أماناتهم، وكانوا هكذا، وشبك أصابعه، فقمت إليه، فقلت له: كيف أفعل عند ذلك، جعلني الله فداك؟ فقال: الزم بيتك، واملك عليك لسانك، وخذ بما تعرف، ودع ما تنكر، وعليك بأمر خاصة نفسك، ودع عنك أمر العامة.
وكذلك روي عن طائفة من الصحابة في قوله تعالى: عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم [المائدة: 105] [المائدة: 105] ، قالوا: لم يأت تأويلها بعد، إنما تأويلها في آخر الزمان.
وعن ابن مسعود قال: إذا اختلفت القلوب والأهواء، وألبستم شيعا، وذاق بعضكم بأس بعض، فيأمر الإنسان حينئذ نفسه، حينئذ تأويل هذه الآية.
وعن ابن عمر: قال: هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا، إن قالوا لم يقبل منهم.
وقال جبير بن نفير عن جماعة من الصحابة، قالوا: إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك حينئذ بنفسك، لا يضرك من ضل إذا اهتديت.
وعن مكحول، قال: لم يأت تأويلها بعد، إذا هاب الواعظ ، وأنكر الموعوظ ، فعليك حينئذ بنفسك لا يضرك من ضل إذا اهتديت.
وعن الحسن: أنه كان إذا تلا هذه الآية، قال: يا لها من ثقة ما أوثقها! ومن سعة ما أوسعها! .
وهذا كله قد يحمل على أن من عجز عن الأمر بالمعروف، أو خاف الضرر، سقط عنه.
وكلام ابن عمر يدل على أن من علم أنه لا يقبل منه، لم يجب عليه، كما حُكي رواية عن أحمد، وكذا قال الأوزاعي: مُر من ترى أن يقبل منك" انتهى من "جامع العلوم والحكم" (2/ 252).
وإلى هذا ذهب جماعة منهم العز ابن عبد السلام رحمه الله.
قال رحمه الله: " فإن علم الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، أن أمره ونهيه لا يُجديان ولا يفيدان شيئا، أو غلب على ظنه: سقط الوجوب؛ لأنه وسيلة، ويبقى الاستحباب، والوسائل تسقط بسقوط المقاصد.
وقد كان صلى الله عليه وسلم يدخل إلى المسجد الحرام، وفيه الأنصاب والأوثان، ولم يكن ينكر ذلك كلما رآه.
وكذلك لم يكن كلما رأى المشركين ينكر عليهم، وكذلك كان السلف لا ينكرون على الفسقة والظلمة فسوقهم وظلمهم وفجورهم، كلما رأوهم، مع علمهم أنه لا يجدي إنكارهم.
وقد يكون من الفسقة، من إذا قيل له اتق الله ، أخذته العزة بالإثم فيزداد فسوقا إلى فسوقه، وفجورا إلى فجوره" انتهى من "قواعد الأحكام" (1/ 128).
وهذا كما رأيت قول معتبر، له أدلته.
وقد ذهب الشيخ ابن عثيمين رحمه الله إلى قريب من ذلك.
قال رحمه الله: "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية , إذا قام به مَن يكفي: سقط عن الناس ، وإذا لم يقم به من يكفي : وجب على الناس أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر , لكن لابد أن يكون بالحكمة ، والرفق ، واللين ؛ لأن الله أرسل موسى وهارون إلى فرعون وقال: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) طه/44، أما العنف : سواء كان بأسلوب القول ، أو أسلوب الفعل : فهذا ينافي الحكمة , وهو خلاف ما أمر الله به .
ولكن أحياناً يعترض الإنسان شيء يقول : هذا منكر معروف ، كحلق اللحية مثلاً ، كلٌّ يعرف أنه حرام - خصوصاً المواطنون في هذا البلد - ، ويقول : لو أنني جعلتُ كلما رأيت إنساناً حالقاً لحيته - وما أكثرهم - وقفتُ أنهاه عن هذا الشيء : فاتني مصالح كثيرة؟!
ففي هذه الحال : ربما نقول بسقوط النهي عنه ؛ لأنه يفوِّت على نفسه مصالح كثيرة.
لكن لو فرض أنه حصل لك اجتماع بهذا الرجل في دكان أو في مطعم أو في مقهى : فحينئذٍ يحسن أن تخوفه بالله ، وتقول : هذا أمر محرم ، وأنت إذا أصررت على الصغيرة، صارت في حقك كبيرة ، وتقول الأمر المناسب" انتهى من "لقاءا الباب المفتوح" (110 / السؤال رقم 5).
وحاصل ما تقدم:
1-أن الإنكار قد يجب عينا، لكن بشرط ألا يترتب عليه أذى للمنكِر، أو مفسدة أكبر، كأن يزداد المنكَر عليه فجورا.
2-أنه إذا غلب على الظن أن الإنكار لا يفيد، فالقول بعدم الوجوب : قول معتبر، يدل عليه صنيع السلف.
وعليه:
فإنه ينبغي أن يكون إنكارك على أصحاب المقاهي ونحوهم، إذا أنكرت عليهم: بحكمة ورفق ولين، وأن يكون ذلك على انفراد ، دون إنكار في العلانية ، ولا نرى تكرار الإنكار عليهم، فإن ذلك لا يفيد غالبا، وربما جلب لك ولأهلك الأذى.
وإذا كان إنكارك على الصفة التي ذكرنا، فإن الغالب أن والدك لن يعلم به، فتؤدي حق الله، وتسلم من اعتراض والدك.
والله أعلم.
تعليق