الأربعاء 15 شوّال 1445 - 24 ابريل 2024
العربية

يرغب في المنازل العالية في الجنة

307113

تاريخ النشر : 01-04-2020

المشاهدات : 11411

السؤال

هل يخالف النصوص شيء من سؤال الله أن يمن على العبد بأن ينزله منزلة قريبة جدا من النبي صل الله عليه وسلم والأنبياء وأصحابهم وأتباع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وأتباعهم، بحيث يسكن فيها ، وينال فيها مما هو أرقى وأرفع من الموجود في دونها من الدرجات، ويعلم في قرارة نفسه أنه ليس ببعيد عن درجاتهم، وكل هذا طمعا في مجاورتهم، طمعا بالأعلى فالأعلى؟ فإن كان الجواب بلا، أي لا يخالف هذا الدعاء النصوص، فكيف لي حينئذ أن أبلغها، وأنا أرى أعمالي -والله أعلم- لعلها نقطة في سماوات أعمال الصحابة، ونقطة في محيطات أعمال التابعين وأتباعهم العدول منهم، ونقطة في بحار أعمال كبار العلماء ممن عملوا بعلمهم ونشروه، حتى لعله دخل أغلب بيوت المسلمين، وما زال، ونظر فيه كثير من أهل الإيمان، وما زالوا، ودرسه ونشره كثير من طلبة العلم، فهل يكفيني لأسبق هؤلاء الذين قد ذكرت ممن هم دون الصحابة وأتباعهم وأتباع أتباعهم العدول منهم إلى تلكم الدرجة الرفيعة الالتزام بتقوى الله أكثر منهم، لقوله سبحانه : (إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، مع عمل المستحبات على حسب الاستطاعة ؛ لأني والله بدأت أتقطع، وأتحسر، أريد أصابة هذه الدرجة التي أرجوها؟ وهل التفاضل في درجاتها في العلو فحسب ؟ أم أن تفاضلهن يشمل العلو ودرجة رقي الأشياء الموجودة من الأزواج والأطعمة والأشربة ؟

الجواب

الحمد لله.

أولا:

ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الفردوس أعلى الجنة، وثبت أيضا : أن كل مسلم ينبغي له أن يسعى وينافس إلى هذه المكانة العالية ، ويبذل الأسباب الموصلة إليها من الإيمان والعمل الصالح، والدعاء بها.

قال تعالى :  إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا  الكهف /107.

قال الطبري رحمه الله تعالى:

" يقول تعالى ذكره: إن الذين صدقوا بالله ورسله، وأقرّوا بتوحيد الله وما أنزل من كتبه، وعملوا بطاعته، كانت لهم بساتين الفردوس ...

واختلف أهل التأويل في معنى الفردوس...

والصواب من القول في ذلك عندنا، ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وذلك ما حدثنا به أحمد بن أبي سريج، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا همام بن يحيى، قال: ثنا زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن عبادة بن الصامت، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: ( الجَنَّةُ مِائَةُ دَرَجَةٍ، ما بينَ كُلّ دَرَجَتَيْنِ مَسِيرَةُ عامٍ، والفِرْدَوْسُ أعْلاها دَرَجَةً، ومِنْها الأنهَارُ الأربعةُ، والفِرْدَوْسُ مِنْ فَوْقِها، فإذَا سألْتُمُ اللهَ فاسألُوهُ الفِرْدَوسَ ) " انتهى من "تفسير الطبري" (15 / 430 - 433).

وقال الله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ   المؤمنون/1-11.

قال الشيخ المفسر محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى:

" ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن المؤمنين المتصفين بالصفات التي قدمنا هم الوارثون، وحذف مفعول اسم الفاعل الذي هو الوارثون؛ لدلالة قوله: ( الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ ) عليه. والفردوس: أعلى الجنة، وأوسطها، ومنه تفجر أنهار الجنة، وفوقه عرش الرحمن جل وعلا " انتهى من "أضواء البيان" (5 / 848).

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:   مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ، وَأَقَامَ الصَّلاَةَ، وَصَامَ رَمَضَانَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الجَنَّةَ، جَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ جَلَسَ فِي أَرْضِهِ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا  .

فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَفَلاَ نُبَشِّرُ النَّاسَ؟

قَالَ:  إِنَّ فِي الجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ، أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ، فَاسْأَلُوهُ الفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الجَنَّةِ وَأَعْلَى الجَنَّةِ - أُرَاهُ قال: وفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ - وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الجَنَّةِ   رواه البخاري (2790).

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:

" وفي الحديث فضيلة ظاهرة للمجاهدين، وفيه عظم الجنة وعظم الفردوس منها، وفيه إشارة إلى أن درجة المجاهد قد ينالها غير المجاهد ، إما بالنية الخالصة ، أو بما يوازيه من الأعمال الصالحة ، لأنه صلى الله عليه وسلم أمر الجميع بالدعاء بالفردوس بعد أن أعلمهم أنه أعد للمجاهدين.

وقيل : فيه جواز الدعاء بما لا يحصل للداعي، لما ذكرته، والأول أولى . والله أعلم " انتهى من "فتح الباري" (6 / 13).

وللفائدة راجع جواب السؤال رقم : (135085).

ثانيا:

لا شك أن الواحد من المسلمين، وإن دخل الفردوس فلن يكون في درجة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا في درجة أصحابه والسابقين منهم.

قال الله تعالى:  لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ   الحديد/10.

لكنه موعود بنعيم مرافقتهم فيجالسونه ويزورونه.

قال الله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا  النساء/69.

روى الطبراني في "المعجم الصغير" (1 / 53 - 54) بسنده عن عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: " جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَاللَّهِ إِنَّكَ لَأَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي، وَإِنَّكَ لَأَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَهْلِي وَمَالِي، وَأَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ وَلَدِي، وَإِنِّي لَأَكُونُ فِي الْبَيْتِ فَأَذْكُرُكَ فَمَا أَصْبِرُ حَتَّى آتِيَكَ فَأَنْظُرَ إِلَيْكَ، وَإِذَا ذَكَرْتُ مَوْتِي وَمَوْتَكَ، عَرَفْتُ أَنَّكَ إِذَا دَخَلْتَ الْجَنَّةَ رُفِعَتْ مَعَ النَّبِيِّينَ، وَإِنِّي إِذَا دَخَلْتُ الْجَنَّةَ خَشِيتُ أَنْ لَا أَرَاكَ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا، حَتَّى نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهَذِهِ الْآيَةِ:   وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ   الْآيَةَ. " وحسّنه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (6 / 1044).

وعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ السَّاعَةِ، فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ:  وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟  قَالَ: لاَ شَيْءَ، إِلَّا أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ:  أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ ، قَالَ أَنَسٌ: فَمَا فَرِحْنَا بِشَيْءٍ، فَرَحَنَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:  أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ  ، قَالَ أَنَسٌ: فَأَنَا أُحِبُّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ بِحُبِّي إِيَّاهُمْ، وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِمِثْلِ أَعْمَالِهِمْ" رواه البخاري (3688)، ومسلم (2639).

ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم بإذن الله تعالى في درجة الوسيلة لا يشاركه فيها غيره، راجع للفائدة جواب السؤال رقم : (248223).

فتكون مرافقة المحب له بدخول الجنة وملاقاته فيها، لا بمساواته في الدرجة.

قال القرطبي رحمه الله تعالى:

" ( فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ) أي هم معهم في دار واحدة ونعيم واحد، يستمتعون برؤيتهم والحضور معهم، لا أنهم يساوونهم في الدرجة، فإنهم يتفاوتون، لكنهم يتزاورون؛ للاتباع في الدنيا والاقتداء. وكل من فيها قد رزق الرضا بحاله، وقد ذهب عنه اعتقاد أنه مفضول؛ قال الله تعالى: ( وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ ) " انتهى من "تفسير القرطبي " (6 / 449).

فالحاصل؛ أن جنة الفردوس العالية أتاح الله تعالى التنافس والتسابق إليها لجميع المسلمين، والذي يستنتج من الجمع بين النصوص أن أهل الفردوس على مراتب ودرجات.

قال المناوي رحمه الله تعالى:

" ما في الصحيحين: (إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة -أي: في الارتفاع - وفوقه عرش الرحمن ) واستشكل بخبر أحمد عن أبي هريرة مرفوعا: ( إذا صليتم علي فاسألوا الله لي الوسيلة أعلى درجة في الجبة لا ينالها إلا رجل واحد وأرجو أن أكون أنا هو ) وفي حديث آخر: ( الوسيلة درجة عند الله ليس فوقها درجة فاسألوا الله لي الوسيلة ) فقضيته: أن الوسيلة أعلى درجات الجنة وهي خاصة به، فهي أعلى الفردوس؟

وجمع بأن: الفردوس أعلى الجنة ، وفيه درجات؛ أعلاها الوسيلة، ولا مانع من انقسام الدرجة الواحدة إلى درجات ، بعضها أعلى من بعض " انتهى من "فيض القدير" (1 / 368).

وهذا هو الذي يفهم من حديث أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:  إِنَّ أَهْلَ الجَنَّةِ يَتَرَاءَوْنَ أَهْلَ الغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ، كَمَا يَتَرَاءَوْنَ الكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الغَابِرَ فِي الأُفُقِ، مِنَ المَشْرِقِ أَوِ المَغْرِبِ، لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ  .

قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ! تِلْكَ مَنَازِلُ الأَنْبِيَاءِ لاَ يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ؟ قَالَ:  بَلَى وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، رِجَالٌ آمَنُوا بِاللَّهِ وَصَدَّقُوا المُرْسَلِينَ  رواه البخاري (3256)، ومسلم (2831).

قال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله تعالى:

" اعلم أن هذه الغرف مختلفة في العلو والصفة بحسب اختلاف أصحابها في الأعمال، فبعضها أعلى من بعض، وأرفع " انتهى من"التذكرة" (2 / 965).

فالحاصل؛ أن لكل مسلم إمكانية دخول الفردوس والمنافسة في القرب من منازل السابقين من الصحابة ومن تبعهم بإحسان، والسبيل لذلك هو تمام الصدق والاتباع لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم؛ وليس السبيل هو ما ذكرته من مطالعة سعي كبار التابعين والأئمة المجتهدين، والتحسر على عدم تحصيلك ما حصّلوا؛ فهذا التصرف فيه خطران :

الخطر الأول: أن مثل هذا الحزن وإن حمد من جهة حب صاحبه للخير؛ إلا أنه مذموم لأن الحزن والتحسر مما لا يدفع إلى العمل؛ وإنما يدخل اليأس والضعف على القلب، فلا يقوى صاحبه على المنافسة على الخير.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:

" وأما " الحزن " فلم يأمر الله به ولا رسوله، بل قد نهى عنه في مواضع وإن تعلق بأمر الدين، كقوله تعالى: ( وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ )  ... وقوله: ( لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ )، وأمثال ذلك كثير.

وذلك لأنه لا يجلب منفعة ولا يدفع مضرة فلا فائدة فيه، وما لا فائدة فيه لا يأمر الله به...

وقد يقترن بالحزن ما يثاب صاحبه عليه ويحمد عليه، فيكون محمودا من تلك الجهة لا من جهة الحزن، كالحزين على مصيبة في دينه، وعلى مصائب المسلمين عموما ، فهذا يثاب على ما في قلبه من حب الخير وبغض الشر...

وأما إن أفضى إلى ضعف القلب ، واشتغاله به عن فعل ما أمر الله ورسوله به : كان مذموما عليه من تلك الجهة، وإن كان محمودا من جهة أخرى " انتهى من "مجموع الفتاوى" (10 / 16 - 17).

الخطر الثاني: هذا التصرف لا يستقيم مع الرضا بحكم الله تعالى وقسمته لفضله بين خلقه؛ بل كمال منزلة الرضا : تكون بالرضا بقسمة الله تعالى ، فلا يقارن الإنسان ما عنده بما عند غيره، بل ينشط في سؤال الله تعالى من فضله.

قال الله تعالى:  وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا  النساء /32.

قال ابن كثير رحمه الله تعالى:

" ثم أرشدهم إلى ما يصلحهم فقال: ( وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ ) لا تتمنوا ما فضل به بعضكم على بعض، فإن هذا أمر محتوم، والتمني لا يجدي شيئا، ولكن سلوني من فضلي أعطكم؛ فإني كريم وهاب " انتهى من "تفسير ابن كثير" (2 / 287).

وينبغي التنبه؛ إلى أن ما بسطه الله تعالى من بيان ما في الجنة من تفاوت في المنازل؛ هو من باب الحث على التنافس والتسابق إليها في دار العمل هذه؛ ثم مَنْ دخل الجنة بفضل الله تعالى فسيكون راضيا بأي منزلة أنعم الله بها عليه.

قال ابن عطية رحمه الله تعالى:

" وكل من فيها -في الجنة- قد رزق الرضا بحاله، وذهب عنه أن يعتقد أنه مفضول، وإن كنا نحن قد علمنا من الشريعة أن أهل الجنة تختلف مراتبهم على قدر أعمالهم، وعلى قدر فضل الله على من شاء " انتهى من "المحرر الوجيز" (2 / 76).

ثالثا:

الأصل في نعيم أهل الجنة أن علو الدرجة يصاحبه علو النعيم، كما يشير إليه كلام القرطبي السابق.

قال الشيخ عمر بن سليمان الأشقر رحمه الله تعالى:

" وأهل الدرجات العاليات يكونون في نعيم أرقى من الذين دونهم، فقد ذكر الله أنه أعد للذين يخافونه جنتين ( وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ )، ووصفهما، ثم قال: ( وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ )، أي دون تلك الجنتين في المقام والمرتبة، من تأمل صفات الجنتين اللتين ذكرهما الله آخراً علم أنهما دون الأوليين في الفضل، فالأوليان للمقربين، والأخريان لأصحاب اليمين، كما قال ابن عباس وأبو موسى الأشعري...

وذكر الحق تبارك وتعالى أن الأبرار يشربون كأساً ممزوجة بالكافور: ( إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا )، وقال في موضع آخر: ( وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا )، ويبدو أن هذا - والعلم عند الله - لأهل اليمين، وقال في موضع آخر: ( وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ )، فأهل اليمين يشربون شراباً ممزوجاً من تسنيم، وهي عين في الجنة، والمقربون يشربون من تسنيم صرفاً غير ممزوج " انتهى من "الجنة والنار" (ص 158 - 160).

وأعلى نعيم أهل الجنة هو قربهم من الله تعالى ورؤيتهم له.

عَنْ صُهَيْبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:  إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، قَالَ: يَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا؟ أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ، وَتُنَجِّنَا مِنَ النَّارِ؟ قَالَ: فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ، فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ   رواه مسلم (181).

وعلو المرتبة يعني مزيد قرب، ويحتمل معه مزيد رؤية لله تعالى أكثر من رؤية من هو أقل منه منزلة، كما أشار إلى هذا طائفة من أهل العلم، وقد سبق بيانه في جواب السؤال رقم : (144199).

ولا تنس ، يا عبد الله ، تلك الوصية الغالية، والنصيحة الجليلة ، من نبينا صلى الله عليه وسلم ، لمن اشتاقت نفسه إلى مرافقة الحبيب في جنة الفردوس؛ فهي من أبلغ ما يصل بك، إن شاء الله:

قَالَ رَبِيعَةُ بْنُ كَعْبٍ الْأَسْلَمِيُّ، رضي الله عنه :

"كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ فَقَالَ لِي :  سَلْ  !!

فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ.

قَالَ:  أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ ؟

قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ.

قَالَ:  فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ 

رواه مسلم (489).

وتلك وصية أصحاب النبي صلى الله عليهم وسلم، لسائليهم من التابعين:

قال مَعْدَانُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ الْيَعْمَرِيُّ: لَقِيتُ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ أَعْمَلُهُ يُدْخِلُنِي اللهُ بِهِ الْجَنَّةَ؟ أَوْ قَالَ قُلْتُ: بِأَحَبِّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ، فَسَكَتَ. ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَسَكَتَ. ثُمَّ سَأَلْتُهُ الثَّالِثَةَ فَقَالَ: سَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ:  عَلَيْكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ لِلَّهِ، فَإِنَّكَ لَا تَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً، إِلَّا رَفَعَكَ اللهُ بِهَا دَرَجَةً، وَحَطَّ عَنْكَ بِهَا خَطِيئَةً  قَالَ مَعْدَانُ: ثُمَّ لَقِيتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ لِي: مِثْلَ مَا قَالَ لِي: ثَوْبَانُ".

رواه مسلم (488).

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب