الحمد لله.
أولًا :
اعلم - وفقك الله - أن كل طاعن في عربية القرآن من المتأخرين عن المشركين الأول ، فإن اعتراضه باطل ذاهب ، لأن أهل الشرك ، وهم أهل العربية التي نزل القرآن بها لم ينهض أحد منهم إلى الاعتراض على عربية القرآن ، وبدلًا من الطعن في لغته ، قاموا بحمل السلاح في مواجهة الدعوة .
تُرى أحمل السلاح أهون عليهم من الطعن في عربيته - إن كان ثمة مطعن يمكن النفوذ منه - ؟
لذا ، فإن الواجب على المؤمن أن يطمئن من هذه الناحية ، وأن يعلم أن الطعن في القرآن من جهة العربية لا يكون إلا ممن سفه نفسه ، وأضل غيره بجهله .
ثم نقول لهذا الطاعن الواهم ، الذي سفه نفسه :
هب أن محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ، لم يكن نبيا مرسلا من رب العالمين ؛ ألم يكن رجلا عربيا ؟!
أليست اللغة العربية، أساليبها، وقواعدها : إنما تؤخذ عن ألسن أهل ذلك الزمان من العرب ؟
أليس محمد بن عبد الله بن عبد المطلب – صلى الله عليه وسلم – من سَراة رجال ذلك الزمان ، وأشرافهم ؟!
أليس أحق بأن يؤخذ عنه لسان العرب، من مجاهيل العرب، والشعراء، والرُّجّاز؟
فما لهم أين يَذهبون ؟ بل أنَّى يُؤفكون ؟!
وهذا جواب عام عن كل طعن يوجه لعربية القرآن ، ونحن نبين لك الجواب المفصل عن كل شبهة من هذه الشبه التي أوردتها .
ثانيًا :
قوله تعالى : قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ. قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ، وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ، وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ يوسف/71-72.
زعم الطاعن الخاطئ، أن الصحيح أن يقول : ونحن به زعماء .
والجواب :
أن هذا الزعم غلط محض، لأن الله تعالى ذكر أن يوسف عليه السلام وضع الصواع في رحل أخيه ، ثم خرج هو ومن معه من جنده وأعوانه في طلب إخوته ، فلما أقبل عليهم نادى منادٍ من قِبَل يوسف: أيتها العير إنكم لسارقون ) ، فأقبل إخوة يوسف ، وسألوهم : ( ماذا تفقدون ) ؟
فقال أعوان يوسف : ( نفقد صواع الملك ، ولمن جاء به حمل بعير ) ، وقال كبيرهم ( وأنا به زعيم )، أي : أنا له كافل وضامن ، لأنه أميرهم ، وهو الموكل بالخزائن وقتئذ ، كما هو معلوم .
قال "ابن عاشور" في "التحرير والتنوير" : "ومرجع ضمير ( أقبلوا ) عائد إلى فتيان يوسف ...
والذي قال : ( وأنا به زعيم ) واحد من المقبلين وهو كبيرهم .
والزعيم : الكفيل "، انتهى ، بتصرف يسير .
هذا وجه ، ووجه آخر :
أن يكون القائل ، من أصل الكلام ، واحدا ، وأن يكون الجمع والإفراد = لرضا من معه بالكلام ، قال "البقاعي" في "نظم الدرر" (10/ 170): " وإفراد الضمير تارة ، وجمعه أخرى : دليل على أن القائل واحد ، وأنه نسب إلى الكل لرضاهم به "، انتهى .
ثالثا:
أما قول تعالى : فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ التكوير/26 ، وقول السائل : الصحيح : إلى أين تذهبون ؟
فمن أين جاء بأنه الصحيح ؟
والجواب :
أن ترك "إلى" إما على الحذف أو التضمين ، وقد قال العلماء : "العرب تقول: إلى أين تذهب؟ وأين تذهب؟ ويقول : ذهبت الشام ، وانطلقت السوق ، وخرجت الشام ، استجازوا في هذه الأحرف الثلاثة إلغاء (إلى) لكثرة استعمالهم إياها ، وأنشد :
تَصيحُ بِنا حَنيفةُ إذْ رأتْنا ... وأيَّ الأرضِ تذهبُ بالصِّياحِ
أراد إلى أي الأرض " انتهى من "التفسير البسيط" (23/ 281).
وقد قال "الطبري" (24/ 127): "يقول : فأين تعدلون عن كتابي وطاعتي ، وقيل : ( فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ ) [التكوير: 26] ولم يقل : فإلى أين تذهبون ، كما يقال : ذهبت الشأم ، وذهبت السوق .
وحكي عن العرب سماعًا: انطلق به الغور، على معنى إلغاء الصفة، وقد ينشد لبعض بني عقيل:
تَصيحُ بِنا حَنيفةُ إذْ رأتْنا ... وأيَّ الأرضِ تذهبُ للصِّياحِ
بمعنى : إلى أي الأرض تذهب ؟ واستجيز إلغاء الصفة [ الصفة : هي حرف الجر (إلى) ] في ذلك، للاستعمال" انتهى .
وانظر : "الدر المصون" للسمين الحلبي (10/ 707).
رابعا:
أما قوله تعالى : ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ عبس/ 20 ، فقد اعترض المعترض على كلمة ( السبيل ) ، وأن الصحيح : للسبيل .
والجواب :
قال "السمين الحلبي" (10/ 690): " والسبيل ظرفٌ ، أي: يَسَّر للإِنسان الطريقَ ، أي : طريق الخيرِ والشرّ، كقولِه : وَهَدَيْنَاهُ النجدين [البلد: 10] .
وقال أبو البقاء : ويجوز أن ينتصِبَ بأنه مفعولٌ ثانٍ لـ يَسَّره ، والهاء للإِنسان ، أي : يَسَّره السبيلَ ، أي : هداه له .
قلت : فلا بُدَّ مْن تضمينِه معنى أَعْطى ، حتى يَنْصِبَ اثنين ، أو يُحْذفُ حرفُ الجرِّ ، أي: يَسَّره للسبيل ، ولذلك قَدَّره بقولِه : هداه له .
ويجوزُ أَنْ يكون السبيل منصوباً على الاشتغال بفعلٍ مقدرٍ ، والضميرُ له ، تقديره : ثم يَسَّر السبيلَ يَسَّره ، أي : سَهَّله للناسِ كقوله : أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى [طه: 50] ، وتقدَّم مثلُه في قولِه : إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل [الإِنسان: 3]" انتهى .
خامسا :
أما قوله تعالى : بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ القيامة/ 14 ، فقد اعترض على تأنيث ( بصيرة ).
والجواب :
قال "الواحدي" في "التفسير البسيط" (22/ 493): " فأمَّا تأنيث (البصيرة) فيجوز أن يكون؛ لأن المراد بالإنسان - هاهنا - الجوارح؛ لأنها شاهدة على نفس الإنسان، كأنه قيل : بل الجوارح على نفس الإنسان بصيرة .
وقال أبو عبيدة : جاءت هذه الهاء في صفة الذكر ، كما جاءت: رجل راوية ، وعلامة ، وطاغية .
وقال الأخفش : جعله هو البصيرة ، كما تقول للرجل : أنْتَ حُجَّةٌ عَلى نَفْسِكَ "، انتهى .
وقال "الطاهر" : " ونظم قوله: ( بل الإنسان على نفسه بصيرة )
صالح لإفادة معنيين:
أولهما : أن يكون ( بصيرة )، بمعنى : مبصر شديد المراقبة، فيكون ( بصيرة ) خبرًا عن الإنسان .
و( على نفسه ) متعلقًا بـ ( بصيرة )، أي الإنسان بصير بنفسه .
وعدي بحرف ( على ) لتضمينه معنى المراقبة .
وهو معنى قوله في الآية الأخرى : ( كفى بنفسك اليوم عليك حسيبًا ).
وهاء ( بصيرة ) : تكون للمبالغة مثل هاء علامة ونسابة ، أي الإنسان عليم بصير ، قوي العلم بنفسه يومئذ .
والمعنى الثاني: أن يكون ( بصيرة ) مبتدأ ثانيًا، والمراد به قرين الإنسان من الحفظة . و ( على نفسه ) : خبر المبتدأ الثاني مقدمًا عليه ، ومجموع الجملة خبرًا عن الإنسان . و ( بصيرة ) حينئذ يحتمل أن يكون بمعنى بصير، أي : مبصر ، والهاء للمبالغة ، كما تقدم في المعنى الأول ، وتكون تعدية ( بصيرة ) بـ ( على ) لتضمينه معنى الرقيب كما في المعنى الأول .
ويحتمل أن تكون ( بصيرة ) صفة لموصوف محذوف ، تقديره : حجة بصيرة ، وتكون ( بصيرة ) مجازًا في كونها بينة ، كقوله تعالى: ( قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر ) [الإسراء: 102] ، ومنه قوله تعالى: ( وآتينا ثمود الناقة مبصرة ) [الإسراء: 59] ، والتأنيث لتأنيث الموصوف .
وقد جرت هذه الجملة مجرى المَثَل ، لإيجازها ، ووفرة معانيها "، انتهى من "التحرير والتنوير" (29/ 347).
سادسا :
اعترض الواهم الخاطئ ، على قوله تعالى : وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ق/16 ، وزعم أن الصحيح : توسوس إليه نفسه .
والجواب :
أن " ( بِهِ ): جارّ ومجرور، متعلِّق بـ "تُوَسْوِسُ".
وجُوِّز في الباء أن تكون زائدة. أي: مثل قولك: صَوَّت بكذا، وهمس به "، انتهى من "التفصيل في إعراب التنزيل" (26/ 281).
قال "ابن عاشور" في "التحرير والتنوير" : " والباء في قوله به : زائدة لتأكيد اللصوق ، والضمير: عائد الصلة ، كأنه قيل: ما تتكلمُهُ نفسه ، على طريقة : ( وامسحوا برؤوسكم ) [المائدة: 6] .
وفائدة الإخبار بأن الله يعلم ما توسوس به نفس كل إنسان : التنبيه على سعة علم الله تعالى بأحوالهم كلها ، فإذا كان يعلم حديث النفس ؛ فلا عجب أن يعلم ما تنقص الأرض منهم.
والإخبار عن فعل الخلق بصيغة المضي : ظاهر ، وأما الإخبار عن علم ما توسوس به النفس ، بصيغة المضارع : فللدلالة على أن تعلق علمه تعالى بالوسوسة : متجدد ، غير منقض ، ولا محدود، لإثبات عموم علم الله تعالى ، والكناية عن التحذير من إضمار ما لا يرضي الله "، انتهى .
ثامنًا :
أما اعتراض الواهم الغالط ، على قوله تعالى : مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآَبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا ، الكهف/ 5، بأن قوله ( كلمة ) : الصحيح فيها أن تكون بالرفع بدل النصب .
فالجواب :
قوله تعالى : كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ :
كَبُرَتَ : فعل ماض . لإنشاء الذم . والتاء : حرف للتأنيث . والفاعل ضمير مستتر ، وفيه قولان:
1 - يعود على مقالتهم : ( قَالُوْا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ) ، أي: كبر مقالهم، وهي جملة تفيد التعجب، أي: ما أكبرها كلمة.
2 - الفاعل ضمير مستتر مفسّر بالنكرة بعده، وهي "كَلِمَةً".
والمعنى على الذَّمّ مثل (بئس رجلًا). وعلى هذا يكون المخصوص بالذَّم محذوفًا، والتقدير: كبرت هي، أي: الكلمةُ كلمة خارجة من أفواههم.
( كَلِمَةً ): وفيها إعرابات :
1 - النصب على التمييز ، كما تقدَّم في بيان فاعل "كَبُرَت". وهو الظاهر عند أبي حيان.
قال ابن الأنباري: " ... والتقدير كبرت الكلمة ، كلمةً".
2 - النصب على الحال. ذكرته فرقةٌ. وقال السمين: "وليس بظاهر".
3 - ذهب أبو عبيدة إلى أنه نصب على التعجُّب، أي: أكبِرْ بها كلمةً. أي: من كلمة. ومثله عند الزمخشري: ما أكبرها كلمة.
ذكر هذا أبو حيان .
والجملة استئنافيّة لا محل لها من الإعراب "، انتهى من "التفصيل في إعراب التنزيل" (15/ 237).
والحاصل:
أن أقرب جواب لكل هذه الضلالات، هو ما قدمناه في أول جوابنا:
هب أنه لم يكن نبيا ؛ ألم يكن رجلا عربيا، على لسان قومه ، ومن كلامه يؤخذ لسان العرب، وتعرف القواعد، ويحتج لها بما جاء عنه من الكلام ؟!
ثم: قد تبين وجه الكلام، ومخارجه في كل آية مما ذكره الواهم الغالط في هذا المقام.
والله أعلم.
تعليق