الاثنين 22 جمادى الآخرة 1446 - 23 ديسمبر 2024
العربية

حول الجمع بين حديث :"ولا تستخلقي ثوباً حتى تسترقعيه ". وحديث: " وأصلحوا لباسكم ".

309147

تاريخ النشر : 01-12-2019

المشاهدات : 18722

السؤال

ما صحة هذا الحديث وفيه قول النبي صلى الله علية وسلم : ( یا عائشة إذا أردت اللحوق بي فلیكفك من الدنیا كزاد الراكب ، ولا تستخلقي ثوباً حتى ترقعیه) ؟ وكيف نوفق بينه وبين هذا الحديث قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( أَصْلِحُوا رِحَالَكُمْ ، وَأَصْلِحُوا لِبَاسَكُمْ حَتَّى تَكُونُوا كَالشَّامَةِ فِي النَّاسِ) وبين حديث قال رسول الله صلى الله علية وسلم: ( إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده ) ؟

الجواب

الحمد لله.

فكما هو معلوم أنه لا تعارض بين آية وآية ، ولا بين آية وحديث ، ولا بين حديث وحديث ، لأن الكل وحي من عند الله تعالى .

والأمر في قضية اللباس واضح إن شاء الله ، وبيانه كما يلي :

أولا : تخريج الأحاديث التي أوردها السائل الكريم .

أما الحديث الأول :

فهو حديث ضعيف جدا ، لا يصح ، وله طريقان :

الطريق الأول :

أخرجه الترمذي في "سننه" (1780) ، وابن السني في "القناعة" (64) ، وابن أبي الدنيا في "الزهد" (95) ، والحاكم في "المستدرك" (7867) ، والبيهقي في "شعب الإيمان" (5770) ، جميعا من طريق صالح بن حسان ، عَنْ عُرْوَةَ ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: " قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :  إِذَا أَرَدْتِ اللُّحُوقَ بِي ، فَلْيَكْفِكِ مِنَ الدُّنْيَا كَزَادِ الرَّاكِبِ ، وَإِيَّاكِ وَمُجَالَسَةَ الأَغْنِيَاءِ ، وَلاَ تَسْتَخْلِقِي ثَوْبًا حَتَّى تُرَقِّعِيهِ  .

وإسناده تالف ، مداره على : صالح بن حسان .

قال فيه أحمد بن حنبل كما في "العلل" (1/540) :" ليس بشيء ". انتهى ، وقال البخاري كما في "علل الترمذي" (544) :" منكر الحديث ". انتهى ، وقال النسائي في "الضعفاء والمتروكون" (296) :" متروك الحديث ". انتهى ، وقال ابن حبان في "المجروحين" (489) :" كَانَ مِمَّن يروي الموضوعات عَن الْأَثْبَات حَتَّى إِذَا سَمعهَا من الْحَدِيث صناعته شهد لَهَا بِالْوَضْعِ "  انتهى.

وقد قال الإمام الترمذي، رحمه الله، عقب تخريج الحديث: " هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث صالح بن حسان وسمعت محمدا يقول: صالح بن حسان منكر الحديث، وصالح بن أبي حسان الذي روى عنه ابن أبي ذئب ثقة." انتهى.

الطريق الثاني :

أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط" (7010) ، من طريق سويد بن عبد العزيز ، عن نوح بن ذكوان ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ ، عَنْ غَالِبٍ ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ:" دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ ، وَعَلَيْهَا شَمْلُ ثَوْبٍ مَرْقُوعٍ ، فَقُلْتُ: لَوْ أَلْقَيْتِ عَنْكِ هَذَا الثَّوْبَ؟ فَقَالَتْ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:  إِنَّ سَرَّكِ أَنْ تَلْقيني فَلَا تُلْقِيِنَّ ثَوْبًا حَتَّى ترَقِّعِيهِ ، وَلَا تَدَّخِرينَ طَعَامًا لِشَهْرٍ » ، وَمَا أَنَا مُغِيرَةٌ مَا أَمَرَنِي بِهِ حَتَّى أَلْحَقَ بِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ  .

وإسناده تالف ، فيه نوح بن ذكوان ، وسويد بن عبد العزيز ، وكلاهما متروك الحديث .

أما نوح بن ذكوان : فقال فيه أبو حاتم كما في "الجرح والتعديل" (8/485) :" ليس بشئ مجهول ". انتهى ، وقال ابن حبان في "المجروحين" (1102) :" مُنكر الحَدِيث جدا ، وَلست أَدْرِي أتفرد بهَا أَو شَارك أَخَاهُ فِيهَا ، وعَلى الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا يجب التنكب عَن حَدِيثهمَا، لما فِيهِ من الْمَنَاكِير وَمُخَالفَة الْأَثْبَات ". انتهى

وأما سويد بن عبد العزيز: فقال فيه أحمد بن حنبل كما في "العلل" (2/476) :" متروك الحديث " . انتهى ، وقال ابن معين كما في "سؤالات ابن الجنيد" (229) :" ليس بثقة ". انتهى .

والحديث أورده ابن الجوزي في "العلل المتناهية" (2/806) ، وقال الشوكاني في "الفوائد المجموعة" (ص239) :" وَفِي إِسْنَادِهِ: صَالِحُ بْنُ حسان ، وهو متروك ". انتهى ، و قال الشيخ الألباني في "السلسلة الضعيفة" (1294) :" ضعيف جدا " انتهى.

الحديث الثاني :

أخرجه أحمد في "مسنده" (17622) ، وأبو داود في "سننه" (4089) ، وابن أبي شيبة في "مصنفه" (19524) ، والطبراني في "المعجم الكبير" (6/94) ، جميعا من طريق هشام بن سعد ، عن قيس بن بِشْرِ التَّغلبيِّ ، قال: أخبرني أبي - وكان جليساً لأبي الدرداء - قال:" كان بدمشقَ رجل من أصحاب النبي - صلَّى الله عليه وسلم - يقال له: ابن الحنظلية ، وكان رجُلاً متوحِّداً قلَّما يُجَالِسُ الناسَ ، إنما هو صلاةٌ ، فإذا فَرَغَ فإنما هو تسبيحٌ وتكبيرٌ حتى يأتيَ أهلَه ، قال: فمرَّ بنا ونحنُ عندَ أبي الدَّرداء ، فقال له أبو الدرداءِ: كلمةً تنفعُنا ولا تضُرُّك ، قال: بعثَ رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلم – سرِيةً ، فقَدِمت ، فجاء رجلٌ منهم ، فجلس في المجلسِ الذي يَجْلِسُ فيه رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلم - ، فقال لرجُلٍ إلى جنْبه: لو رأيتَنا حينَ التقَينا نحنُ والعدوُّ فحملَ فلانٌ فَطَعَنَ فقال: خُذْها مني وأنا الغلامُ الغِفاريُّ ، كيف ترى في قوله؟ قال: ما أُراه إلا قد بَطَلَ أجرُه، فَسَمعَ بذلك آخرُ ، فقال: ما أُرى بذلك بأساً ، فتنازعا ، حتى سُمِعَ رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلم - ، فقال:  سُبحانَ الله! لا بأسَ أن يُؤجرَ ويُحمدَ   ، فرأيتُ أبا الدرداء سُرَّ بذلك ، وجَعَلَ يرفعُ رأسَه إليه ، ويقولُ: أنتَ سَمِعْتَ ذلك مِنْ رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلم -؟ فيقولُ: نعم ،  فما زالَ يُعيدُ عليه حتى إني لأقوُلُ: ليَبْرُكنَّ على رُكبتيه . قال: فمرَّ بِنا يوماً آخرَ ، فقال له أبو الدرداء: كلِمةً تنفعُنَا ولا تَضُرُّك ، قال: قال لنا رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلم -:  المُنْفِقُ على الخَيلِ كالبَاسِطِ يَدَه بالصَّدقَةِ لا يقْبِضُها  .

ثم مرَّ بِنَا يوماً آخَرَ ، فقال له أبو الدرداء: كلمةً تنفعُنا ولا تَضُرُّك ، قال: قالَ لنا رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلم -: نِعْمَ الرَّجُلُ خُرَيمٌ الأسدِيُّ لولا طُولُ جُمَّته ، وإسبَالُ إزاره  فبلغ ذلك خُريماً ، فعجِلَ فأخذَ شفرةً ، فقطَع بها جُمَّتَه إلى أُذنيه ، ورفع إزاره إلى أنصافِ سَاقَيْهِ .

ثم مرَّ بنا يوماً آخرَ ، فقال له أبو الدرداء ،: كلمةً تنفعُنَا ولا تضُرُّك ، فقال: سمعتُ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلم - يقول:  إنكم قادِمُونَ على إخوانِكم ، فأصْلِحُوا رِحَالكُم ، وأصْلِحُوا لباسَكُم ، حتى تكونوا كأنكم شامةٌ في الناسِ ، فإن الله لا يُحب الفُحْشَ ولا التّفَحُّشَ .

والحديث ضعيف ، علته جهالة بشر بن قيس ، فإنه ترجم له البخاري في "التاريخ الكبير" (2/86) ، وابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (1434) ، ولم يذكرا فيه جرحا ولا تعديلا ، وقال ابن حجر في "تقريب التهذيب" (700) :" صدوق ". انتهى ، ولذا حسن الحديث في "الأمالي المطلقة" (ص36) ، وضعفه الشيخ الألباني في "إرواء الغليل" (7/209) .

الحديث الثالث :

له عدة طرق ، أشهرها ، طريق عمران بن حصين ، وعبد الله بن عمرو بن العاص .

أما حديث عمران بن الحصين ، فأخرجه أحمد في "مسنده" (19934) ، من طريق أبي رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ قَالَ: " خَرَجَ عَلَيْنَا عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ وَعَلَيْهِ مِطْرَفٌ مِنْ خَزٍّ لَمْ نَرَهُ عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ وَلَا بَعْدَهُ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:  مَنْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ نِعْمَةً ، فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ أَنْ يُرَى أَثَرُ نِعْمَتِهِ عَلَى خَلْقِهِ .

والحديث صححه بشواهده الشيخ الألباني في "السلسلة الصحيحة" (1290) .

وأما حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ، فأخرجه الترمذي في "سننه" (2819) ، من طريق  عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبَّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ .

وهو حديث حسن ، حسنه الشيخ الألباني في "مشكاة المصابيح" (4350) .

ثانيا : الجمع بين الأحاديث الواردة في المسألة :

بالنظر إلى الأحاديث الصحيحة الواردة في قضية اللباس نجد أن هناك ثلاث حالات ، حيث قد يمدح ، أو يذم ، أو يباح ، وتفصيل ذلك كما يلي :

أما المحمود فهو ما يلي :

أولا : إن كان معه سعة من المال أن يشتري ثوبا حسنا للجمع والأعياد ، وكذلك تجملا للقاء الله تعالى .

فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله ، وحث على فعله .

أما فعله صلى الله عليه وسلم :

فمنه ما أخرجه أحمد في "مسنده" (15323) ، والطبراني في "المعجم الكبير" (3/202) ، من حديث حكيم بن حزام ، قال :" كَانَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبَّ رَجُلٍ مِنَ النَّاسِ إِلَيَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، فَلَمَّا نُبِّئَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَرَجَ إِلَى الْمَدِينَةِ شَهِدَ حَكِيمٌ الْمَوْسِمَ وَهُوَ كَافِرٌ ، فَوَجَدَ حُلَّةٌ لِذِي يَزَنَ تُبَاعُ ، فَاشْتَرَاهَا لِيُهْدِيَهَا لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَدِمَ بِهَا عَلَيْهِ الْمَدِينَةَ ، فَأَرَادَهُ عَلَى قَبْضِهَا هَدِيَّةً فَأَبَى ، فَقَالَ:    إِنَّا لَا نَقْبَلُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَيْئًا ، وَلَكِنْ إِنْ شِئْتَ أَخَذْتُهَا مِنْكَ بِالثَّمَنِ  ، فَأَعْطَيْتُهُ إِيَّاهَا حِينَ أَبَى عَلَيَّ الْهَدِيَّةَ فَلَبِسَهَا ، فَرَأَيْتُهَا عَلَيْهِ عَلَى الْمِنْبَرِ ، فَلَمْ أَرَ شَيْئًا أَحْسَنَ مِنْهُ يَوْمَئِذٍ ، ثُمَّ أَعْطَاهَا أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ ، فَرَآهَا حَكِيمٌ عَلَى أُسَامَةَ ، فَقَالَ: يَا أُسَامَةُ ، أَنْتَ تَلْبَسُ حُلَّةَ ذِي يَزَنَ؟  فَقَالَ: نَعَمْ ، وَاللهِ لَأَنَا خَيْرٌ مِنْ ذِي يَزَنَ ، وَلَأَبِي خَيْرٌ مِنْ أَبِيهِ . قَالَ حَكِيمٌ:  فَانْطَلَقْتُ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ أُعَجِّبُهُمْ بِقَوْلِ أُسَامَةَ" .

قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (4/151) :" إسناده جيد ". وصححه الشيخ الألباني في "السلسلة الصحيحة" (1707)

وأما حثه صلى الله عليه وسلم :

فمنه ما أخرجه ابن ماجه في "سننه" (1096) ، من عَائِشَةَ ،:" أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ النَّاسَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، فَرَأَى عَلَيْهِمْ ثِيَابَ النِّمَارِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:  مَا عَلَى أَحَدِكُمْ ، إِنْ وَجَدَ سَعَةً : أَنْ يَتَّخِذَ ثَوْبَيْنِ لِجُمُعَتِهِ ، سِوَى ثَوْبَيْ مِهْنَتِهِ .

والحديث صححه الشيخ الألباني في "صحيح أبي داود" (4/244) .

وهذا ابن عمر رضي الله عنه كان ربما يلبس الثوب ثمنه خمس مائة درهم .

أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (5801) ، من طريق عبد الله بن محمد بن أسماء ، قال حَدَّثَنِي جُوَيْرِيَةُ بْنُ أَسْمَاءَ ، عَنْ نَافِعٍ ،:" أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ رُبَّمَا لَبِسَ الْمِطَرِّفَ الْخَزَّ ، ثَمَنُهُ خَمْسُ مِائَةِ دِرْهَمٍ "وإسناده صحيح .

وهذا مالك بن أنس رحمه الله ، يقول :" مَا أَدْرَكْتُ فُقَهَاءَ بَلَدِنَا إِلَّا وَهُمْ يَلْبَسُونَ الثِّيَابَ الْحِسَانَ " .

أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (5809) ، بإسناد صحيح عنه .

ثانيا : أن يترفع عن الحسن من الثياب تواضعا لله تعالى مع قدرته على شراء الحسن من الثياب .

ويدل على ذلك الحديث المشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو قوله :" البذاذة من الإيمان ".

أخرجه أبو داود في "سننه" (4161) ، من حديث أبي أمامة ، قال: ذكر أصحابُ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلم - يوماً عنده الدُّنيا ، فقال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلم -:  ألا تَسْمَعُونَ ، ألا تَسْمَعُونَ ، إنَّ البَذَاذَةَ مِنَ الإيمانِ ، إن البذَاذَة مِنَ الإيمان  .

والحديث صححه ابن حجر في "فتح الباري" (10/368) ثم قال :" وَالْبَذَاذَةُ بِمُوَحَّدَةٍ وَمُعْجَمَتَيْنِ : رَثَاثَةُ الْهَيْئَةِ ، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا تَرْكُ التَّرَفُّهِ وَالتَّنَطُّعِ فِي اللِّبَاسِ ، وَالتَّوَاضُعُ فِيهِ مَعَ الْقُدْرَةِ ، لَا بِسَبَبِ جَحْدِ نِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى ". انتهى،  والحديث حسنه الشيخ الألباني في "السلسلة الصحيحة" (341).

ويشهد له حديث في إسناده ضعف ، وهو ما أخرجه أحمد في "مسنده" (15619) ، من طريق سَهْلِ بْنِ مُعَاذٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:  مَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ ، وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَنْتَصِرَ دَعَاهُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ ، حَتَّى يُخَيِّرَهُ فِي حُورِ الْعِينِ أَيَّتَهُنَّ شَاءَ ، وَمَنْ تَرَكَ أَنْ يَلْبَسَ صَالِحَ الثِّيَابِ ، وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ ، تَوَاضُعًا لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، دَعَاهُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ ، حَتَّى يُخَيِّرَهُ اللهُ تَعَالَى فِي حُلَلِ الْإِيمَانِ ، أَيَّتَهُنَّ شَاءَ  .

والحديث فيه ضعف ، وقد ضعفه الشيخ الالباني في "ضعيف الجامع" (5822) .

قال البرهان ابن مفلح في "المبدع شرح المقنع" (1/340) :" يُسْتَحَبُّ التَّوَاضُعُ فِي اللِّبَاسِ ، لِمَا رَوَى أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ ، عَنْ زُهَيْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أُمَامَةَ  ،عَنْ أَبِيهِ مَرْفُوعًا: الْبَذَاذَةُ مِنَ الْإِيمَانِ  رِجَالُهُ ثِقَاتٌ ، قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ: وَهُوَ التَّوَاضُعُ فِي اللِّبَاسِ ". انتهى

أما المذموم فهو ما يلي :

أولا : أن يوسع الله على عبده ، ثم يمتنع عن لبس الحسن من الثياب بخلا وكتمانا لفضل الله عليه .

ويدل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ثيابا بالية على رجل فسأله عن حاله ، فعلم أنه ليس فقيرا ، فحثه على أن يوسع على نفسه .

والحديث أخرجه النسائي في "سننه" (5224) ، من طريق أَبِي الْأَحْوَصِ ، عَنْ أَبِيهِ ،: " أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ثَوْبٍ دُونٍ ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَكَ مَالٌ؟  قَالَ: نَعَمْ ، مِنْ كُلِّ الْمَالِ ، قَالَ: مِنْ أَيِّ الْمَالِ؟ قَالَ: قَدْ آتَانِي اللَّهُ مِنَ الْإِبِلِ ، وَالْغَنَمِ ، وَالْخَيْلِ ، وَالرَّقِيقِ ، قَالَ:  فَإِذَا آتَاكَ اللَّهُ مَالًا ، فَلْيُرَ عَلَيْكَ أَثَرُ نِعْمَةِ اللَّهِ وَكَرَامَتِهِ  .

والحديث صححه الشيخ الألباني في "غاية المرام" (75) .

وعلق ابن عبد البر في "التمهيد" (3/255) على هذا الحديث ، فقال :" وَفِيهِ أَنَّ مَنْ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ،  لَمْ يَجُزْ لَهُ إِدْمَانُ لُبْسِ الْخَلِقِ مِنَ الثِّيَابِ ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :  إِذَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ بِنِعْمَةٍ أَحَبَّ أَنْ يَرَى أَثَرَهَا عَلَيْهِ، وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ :" إِذَا وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَوْسِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ ، جَمَعَ الرَّجُلُ عَلَيْهِ ثِيَابَهُ " انتهى .

وقال ابن رجب في "اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى" (ص109) :

" وإنما يذم من ترك اللباس مع قدرته عليه ، بخلاً على نفسه ، أو كتماناً لنعمة الله عز وجل ، وفي هذا جاء الحديث المشهور: " إن الله إذا أنعم على عبد نعمة أحب أن يرى أثر نعمته على عبده ". ومن لبس لباساً حسناً ، إظهاراً لنعمة الله ، ولم يفعله اختيالاً : كان حسناً.

وكان كثير من الصحابة والتابعين يلبسون لباساً حسناً ، منهم: ابن عباس ، والحسن البصري. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الرجل يحب أن يكون لباسه حسناً ونعله حسناً؟ قال: " ليس ذلك بالكبر ، إنما الكبر بطر الحق وغمط الناس ". يعني: التكبر عن قبول الحق والانقياد له ، واحتقار الناس وازدراءهم ؛ فهذا هو الكبر ، فأما مجرد اللباس الحسن الخالي عن الخيلاء فليس بكبر ، واحتقار الناس مع رثاثة اللباس كبر " انتهى.

ثانيا : أن يلبس المرقع من الثياب كي يُشتهر بين الناس بالزهد والتقلل من الدنيا .

قال شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوى" (11/555) :

" وَقَدْ كَانُوا يَكْرَهُونَ الشهرتين مِنْ الثِّيَابِ: الْمُرْتَفِعَ وَالْمُنْخَفِضَ .

وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَجْعَلَ مِنْ الدِّينِ ، وَمِنْ طَرِيقِ اللَّهِ ؛ إلَّا مَا شَرَعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ، لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ التَّقْيِيدُ فِيهِ فَسَادُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا . فَإِنَّ لُبْسَ الصُّوفِ ، وَتَرْقِيعَ الثَّوْبِ عِنْدَ الْحَاجَةِ : حَسَنٌ ، مِنْ أَفْعَالِ السَّلَفِ . وَالِامْتِنَاعُ مِنْ ذَلِكَ مُطْلَقًا مَذْمُومٌ .

فَأَمَّا مَنْ عَمَدَ إلَى ثَوْبٍ صَحِيحٍ ، فَمَزَّقَهُ ، ثُمَّ يُرَقِّعُهُ بِفَضَلَاتِ ، وَيَلْبَسُ الصُّوفَ الرَّفِيعَ الَّذِي هُوَ أَعْلَى مِنْ الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ . فَهَذَا جَمْعُ فَسَادَيْنِ:

 أَمَّا مِنْ جِهَةِ الدِّينِ : فَإِنَّهُ يَظُنُّ التَّقْيِيدَ بِلُبْسِ الْمُرَقَّعِ وَالصُّوفِ مِنْ الدِّينِ ، ثُمَّ يُرِيدُ أَنْ يُظْهِرَ صُورَةَ ذَلِكَ دُونَ حَقِيقَتِهِ ؛ فَيَكُونُ مَا يُنْفِقُهُ عَلَى ذَلِكَ أَعْظَمَ مِمَّا يُنْفَقُ عَلَى الْقُطْنِ الصَّحِيحِ!!

وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلزُّهْدِ ، وَفَسَادُ الْمَالِ بِإِتْلَافِهِ ، وَإِنْفَاقِهِ فِيمَا لَا يَنْفَعُ لَا فِي الدِّينِ وَلَا فِي الدُّنْيَا ". انتهى.

وقال في "المستدرك على الفتاوى" (1/156) :" لبس المرقعات والمصبغات والصوف ، من العباءة وغير ذلك ؛ فالناس فيه على ثلاثة طرق: منهم: من يكره ذلك مطلقا، إما لكونه بدعة ، وإما لما فيه من إظهار الدين .

ومنهم: من استحبه ، بحيث يلتزمه ويمتنع من تركه ، وهو حال كثير ممن ينتسب إلى الخرقة واللبسة ، وكلا القولين والفعلين : خطأ.

والصواب: أنه جائز ، كلبس غير ذلك ، وأنه يستحب أن يرقع الرجل ثوبه للحاجة ، كما رقع عمر ثوبه وعائشة وغيرهما من السلف ، وكما لبس قوم الصوف للحاجة ، ويُلبس أيضا للتواضع والمسكنة، مع القدرة على غيره ، كما جاء في الحديث: من ترك جيد اللباس ، وهو يقدر عليه ، تواضعا لله ؛ كساه الله من حلل الكرامة يوم القيامة .

فأما تقطيع الثوب الصحيح وترقيعه : فهذا فساد وشهرة ، وكذلك تعمد صبغ الثوب لغير فائدة ، أو حك الثوب ليظهر التحتاني ، أو المغالاة في الصوف الرفيع ، ونحو ذلك مما فيه إفساد المال ونقص قيمته ، أو فيه إظهار التشبه بلباس أهل التواضع والمسكنة ، مع ارتفاع قيمته وسعره ، فإن هذا من النفاق والتلبيس .

فهذان النوعان : فيهما إرادة العلو في الأرض بالفساد . والدار الآخرة للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا ، مع ما في ذلك من النفاق.

وأيضا فالتقيد بهذه اللبسة ، بحيث يَكرَهُ اللابس غيرها ، أو يُكْرِهُ أصحابه ألا يلبسوا غيرها : هو أيضا منهي عنه "انتهى.

وأما المباح فهو كما يلي :

أولا : ألا يجد الإنسان إلا ثوبا باليا ، أو مرقعا ، فهنا يباح له لبسه ؛ إذ لا يجد غيره .

فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرقع ثوبه .

كما في الحديث الذي أخرجه أحمد في "مسنده" (24749) ، من حديث هِشَامٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ:" قِيلَ لِعَائِشَةَ: مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُ فِي بَيْتِهِ؟ قَالَتْ:   كَمَا يَصْنَعُ أَحَدُكُمْ: يَخْصِفُ نَعْلَهُ ، وَيُرَقِّعُ ثَوْبَهُ ".

وإسناده صحيح .

وثبت أن عمر رضي الله عنه لبس ثوبا مرقعا .

أخرجه مالك في "الموطأ" (1638) ، من طريق أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ ؛ قَالَ :"  رَأَيْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ، وَقَدْ رَقَعَ بَيْنَ كَتِفَيْهِ بِرَقَاعٍ ثَلاَثٍ . لَبَّدَ بَعْضَهَا فَوْقَ بَعْضٍ ".

والأثر صححه الشيخ الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب" (2082) .

قال ابن العربي في "المسالك في شرح موطأ مالك" (7/303) :" وأمّا لباس عمر المرقعات ، فكان ذلك منه زهدًا في الدّنيا ، وحُوطة على بيت مال المسلمين ، وإلَا فلبس الثِّياب الحِسَان جائز إجماعًا ، لقوله: "إِذَا وَسَّعَ اللهُ عَلَيكُم فَأَوسِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُم ". وقد كان مالك يلبس الثِّياب العربيّة ويستجيدها .

وإنّ الله تعالى قد أدّب أهل الإيمان فأحسن أدبهم ، فقال: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ ، فإنّ الله ما عذَّب قومًا أعطاهُم الدّنيا ، فشكرُوهُ ، ولا عذَرَ قومًا زَوَى عنهم الدّنيا ، فعَصَوه.

وقال عيسى -عليه السّلام-: البسوا ثيابَ الملوكِ ، وأميتوا قلوبكم بالخشية .

وإنّما كره العلماء لباس الشّهرةِ ، والإفراط في البذاذة ، والإسراف والغلوّ "  انتهى .

ثانيا : أن يوسع الله عليه فيلبس الحسن من الثياب من غير إسراف ولا مخيلة .

ويدل عليه حديث النبي صلى الله عليه وسلم ، الذي أخرجه أحمد في "مسنده" (6695) ، من طريق عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كُلُوا ، وَاشْرَبُوا ، وَتَصَدَّقُوا ، وَالْبَسُوا ، غَيْرَ مَخِيلَةٍ ، وَلَا سَرَفٍ .

وإسناده حسن ، حسنه الشيخ الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب" (2145)

 وبالجملة :

فخير الهدي هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، الذي لبس أحسن الثياب ، ولبس الثوب الخشن حتى أثر في رقبته ، ورقع ثوبه ، فمن لبس ما أحل الله له ، من غير إسراف ولا مخيلة ، وتحدثا بنعمة الله عليه ، فهذا مما يحبه الله ، ويزداد الأمر حسنا إن كان لذلك نية صالحة .

وكذلك من تواضع لله ، فترك جميل الثياب دون أن يلبس المرقع تكلفا ، فضلا عن الثياب المتسخة ، فإنه يؤجر على ذلك إن شاء الله .

قال ابن القيم في "زاد المعاد" (1/137) :

" وَكَانَ غَالِبُ مَا يَلْبَسُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ: مَا نُسِجَ مِنَ الْقُطْنِ، وَرُبَّمَا لَبِسُوا مَا نُسِجَ مِنَ الصُّوفِ وَالْكَتَّانِ.

وَذَكَرَ الشَّيْخُ أبو إسحاق الأصبهاني بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ ، عَنْ جابر بن أيوب ، قَالَ: دَخَلَ الصلت بن راشد عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ ، وَعَلَيْهِ جُبَّةُ صُوفٍ وَإِزَارُ صُوفٍ وَعِمَامَةُ صُوفٍ ، فَاشْمَأَزَّ مِنْهُ محمد ، وَقَالَ أَظُنُّ أَنَّ أَقْوَامًا يَلْبَسُونَ الصُّوفَ ، وَيَقُولُونَ: قَدْ لَبِسَهُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ، وَقَدْ حَدَّثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ لَبِسَ الْكَتَّانَ ، وَالصُّوفَ ، وَالْقُطْنَ ، وَسُنَّةُ نَبِيِّنَا أَحَقُّ أَنْ تُتَّبَعَ .

وَمَقْصُودُ ابْنِ سِيرِينَ بِهَذَا ؛ أَنَّ أَقْوَامًا يَرَوْنَ أَنَّ لُبْسَ الصُّوفِ دَائِمًا أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ ، فَيَتَحَرَّوْنَهُ وَيَمْنَعُونَ أَنْفُسَهُمْ مِنْ غَيْرِهِ ، وَكَذَلِكَ يَتَحَرَّوْنَ زِيًّا وَاحِدًا مِنَ الْمَلَابِسِ ، وَيَتَحَرَّوْنَ رُسُومًا وَأَوْضَاعًا وَهَيْئَاتٍ يَرَوْنَ الْخُرُوجَ عَنْهَا مُنْكَرًا !!

وَلَيْسَ الْمُنْكَرُ إِلَّا التَّقَيُّدَ بِهَا ، وَالْمُحَافَظَةَ عَلَيْهَا ، وَتَرْكَ الْخُرُوجِ عَنْهَا.

وَالصَّوَابُ: أَنَّ أَفْضَلَ الطُّرُقِ : طَرِيقُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي سَنَّهَا ، وَأَمَرَ بِهَا وَرَغَّبَ فِيهَا ، وَدَاوَمَ عَلَيْهَا ، وَهِيَ أَنَّ هَدْيَهُ فِي اللِّبَاسِ : أَنْ يَلْبَسَ مَا تَيَسَّرَ مِنَ اللِّبَاسِ، مِنَ الصُّوفِ تَارَةً ، وَالْقُطْنِ تَارَةً وَالْكَتَّانِ تَارَةً.

وَلَبِسَ الْبُرُودَ الْيَمَانِيَّةَ وَالْبُرْدَ الْأَخْضَرَ ، وَلَبِسَ الْجُبَّةَ وَالْقَبَاءَ وَالْقَمِيصَ وَالسَّرَاوِيلَ وَالْإِزَارَ وَالرِّدَاءَ وَالْخُفَّ وَالنَّعْلَ ، وَأَرْخَى الذُّؤَابَةَ مِنْ خَلْفِهِ تَارَةً وَتَرَكَهَا تَارَةً ، وَكَانَ يَتَلَحَّى بِالْعِمَامَةِ تَحْتَ الْحَنَكِ.

وَكَانَ إِذَا اسْتَجَدَّ ثَوْبًا سَمَّاهُ بِاسْمِهِ ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ كَسَوْتَنِي هَذَا الْقَمِيصَ أَوِ الرِّدَاءَ أَوِ الْعِمَامَةَ ، أَسْأَلُكَ خَيْرَهُ وَخَيْرَ مَا صُنِعَ لَهُ ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهِ وَشَرِّ مَا صُنِعَ لَهُ  ....

فَالَّذِينَ يَمْتَنِعُونَ عَمَّا أَبَاحَ اللَّهُ مِنَ الْمَلَابِسِ وَالْمَطَاعِمِ وَالْمَنَاكِحِ ، تَزَهُّدًا وَتَعَبُّدًا ؛ بِإِزَائِهِمْ طَائِفَةٌ قَابَلُوهُمْ ، فَلَا يَلْبَسُونَ إِلَّا أَشْرَفَ الثِّيَابِ ، وَلَا يَأْكُلُونَ إِلَّا أَلْيَنَ الطَّعَامِ ، فَلَا يَرَوْنَ لُبْسَ الْخَشِنِ ، وَلَا أَكْلَهُ ؛ تَكَبُّرًا وَتَجَبُّرًا .

وَكِلَا الطَّائِفَتَيْنِ : هَدْيُهُ مُخَالِفٌ لِهَدْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: كَانُوا يَكْرَهُونَ الشُّهْرَتَيْنِ مِنَ الثِّيَابِ الْعَالِي وَالْمُنْخَفِضِ ...

وَكَذَلِكَ لُبْسُ الدَّنِيءِ مِنَ الثِّيَابِ : يُذَمُّ فِي مَوْضِعٍ ، وَيُحْمَدُ فِي مَوْضِعٍ ؛ فَيُذَمُّ إِذَا كَانَ شُهْرَةً وَخُيَلَاءَ ، وَيُمْدَحُ إِذَا كَانَ تَوَاضُعًا وَاسْتِكَانَةً .

كَمَا أَنَّ لُبْسَ الرَّفِيعِ مِنَ الثِّيَابِ ، يُذَمُّ إِذَا كَانَ تَكَبُّرًا وَفَخْرًا وَخُيَلَاءَ ، وَيُمْدَحُ إِذَا كَانَ تَجَمُّلًا وَإِظْهَارًا لِنِعْمَةِ اللَّهِ ، فَفِي صَحِيحِ مسلم ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:« لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ ، وَلَا يَدْخُلُ النَّارَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبِي حَسَنًا وَنَعْلِي حَسَنَةً ؛ أَفَمِنَ الْكِبْرِ ذَاكَ؟ فَقَالَ: لَا ، إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ "  انتهى .

ثم إن الإنسان أدرى بما يصلح نفسه ، فإن رأى في نفسه كبرا ، فألبسها ما رخص ثمنه تأديبا لها وإصلاحا : كان ذلك في حقه أفضل . ومن أمن على نفسه الكبر ، وكانت هناك مصلحة دينية أو دنيوية في لبسه جميل الثياب : كان هذا في حقه أفضل .

قال ابن رسلان في "شرح سنن أبي داود" (16/483) :" وإنما كان البذاذة من الإيمان ؛ لأنه يؤدي إلى كسر النفس والتواضع ، ولكن ليس ذلك عند كل أحد ؛ بل يورث الكبر عند بعض الناس ، كما أن الثياب النفيسة توجب الكبر عند بعض الناس ، وعلى هذا فالمحبوب الوسط من اللباس ". انتهى.

وقال الشوكاني في "نيل الأوطار" (2/131) :" وَالْحَاصِلُ: أَنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ ، فَلُبْسُ الْمُنْخَفِضِ مِنْ الثِّيَابِ تَوَاضُعًا ، وَكَسْرًا لِسَوْرَةِ النَّفْسِ الَّتِي لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهَا مِنْ التَّكَبُّرِ إنْ لَبِسَتْ غَالِي الثِّيَاب:ِ مِنْ الْمَقَاصِدِ الصَّالِحَةِ ، الْمُوجِبَةِ لِلْمَثُوبَةِ مِنْ اللَّهِ .

وَلُبْسُ الْغَالِي مِنْ الثِّيَابِ عِنْدَ الْأَمْنِ عَلَى النَّفْسِ مِنْ التَّسَامِي ، الْمَشُوبِ بِنَوْعٍ مِنْ التَّكَبُّرِ ، لِقَصْدِ التَّوَصُّلِ بِذَلِكَ إلَى تَمَامِ الْمَطَالِبِ الدِّينِيَّةِ ، مِنْ أَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ عِنْدَ مِنْ لَا يَلْتَفِتُ إلَّا إلَى ذَوِي الْهَيْئَاتِ ، كَمَا هُوَ الْغَالِبُ عَلَى عَوَامِّ زَمَانِنَا وَبَعْضِ خَوَاصِّهِ : لَا شَكَّ أَنَّهُ مِنْ الْمُوجِبَاتِ لِلْأَجْرِ ، لَكِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَقْيِيدِ ذَلِكَ بِمَا يَحِلُّ لُبْسُهُ شَرْعًا " انتهى .

فبان بهذا التفصيل ، هدي النبي صلى الله عليه وسلم ، وما كان عليه أصحابه الكرام ، فهذا هو السبيل ، نسأل الله أن يحيينا ويميتنا عليه ، آمين .

ومن أراد الاستزادة فيمكنه مراجعة جواب السؤال رقم : (6652 ) ، ورقم (228099)

والله أعلم 

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب