الحمد لله.
لا شك أن عدد هذه الأمة قليل جدا، مقابلَ من سبق من الأمم، فالنبي صلى الله عليه وسلم بعث في آخر الزمان، ومن آدم عليه السلام إلى زمنه صلى الله عليه وسلم أزمان متطاولة لا يعلمها إلا الله، وأمم لا يعلمها إلا الله.
قال الله تعالى: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ إبراهيم /9.
ولذا جاء في الحديث: مَا أَنْتُمْ فِي النَّاسِ إِلَّا كَالشَّعَرَةِ السَّوْدَاءِ فِي جِلْدِ ثَوْرٍ أَبْيَضَ، أَوْ كَشَعَرَةٍ بَيْضَاءَ فِي جِلْدِ ثَوْرٍ أَسْوَدَ رواه البخاري (3348)، ومسلم (222).
قال ابن حزم رحمه الله تعالى:
" وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما أنتم في الأمم قبلكم إلا كالشعرة البيضاء في الثور الأسود، أو كالشعرة السوداء في الثور الأبيض ) : هذا عنه عليه السلام ثابت، وهو عليه السلام لا يقول إلا عين الحق ، ولا يسامِح بشيءٍ من الباطل، لا بإعياء ولا بغيره.
وهذه نسبة: من تدبرها، وعرف مقدار عداد أهل الإسلام، ونسبة ما بأيديهم من معمور الأرض، وأنه الأكثر؛ علم أن للدنيا عددا لا يحصيه إلا الله تعالى.
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ( بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ ) وضم أصبعيه المقدستين، السبابة والوسطى.
وقد جاء النص بأن الساعة لا يعلم متى تكون إلا الله عز وجل لا أحد سواه، فصح أنه عليه السلام إنما عني شدة القرب...
وله عليه السلام مذ بعث أربعمائة عام ونيف، والله أعلم بمقدار ما بقي من الدنيا.
فإذا كان هذا العدد العظيم لا نسبة له عند ما سلف، لقلته وتفاهته بالإضافة إلى ما مضى؛ فهذا الذي قاله عليه السلام؛ من أننا فيمن مضى كالشعرة في الثور " انتهى من "الفصل" (2 / 257 - 258).
قال ابن الدماميني رحمه الله تعالى:
" ( مَا أَنْتُمْ فِي النَّاسِ إِلَّا كَالشَّعَرَةِ السَّوْدَاءِ فِي جِلْدِ ثَوْرٍ أَبْيَضَ ): هذا في المحشر، وأما في الجنة، فهم نصف الناس هناك، أو ثلثاهم " انتهى من "مصابيح الجامع" (7 / 113).
وقال أحمد بن إسماعيل الكوراني رحمه الله تعالى:
" ( مَا أَنْتُمْ فِي النَّاسِ إِلَّا كَالشَّعَرَةِ السَّوْدَاءِ فِي جِلْدِ ثَوْرٍ أَبْيَضَ ) يريد الناس كلهم المؤمن والكافر، وإلا فهم أكثر أهل الجنة.
فإن قلت: أيُّ فائدة لذكر هذا الكلام؟
قلت: إشارة إلى ما منَّ الله عليهم، فإنهم مع قلتهم في الناس هم أكثر أهل الجنة، ونحمد الله على أن جعلنا من هذه الأمة " انتهى من "الكوثر الجاري" (6 / 249).
ورغم كثرة من قبلنا إلا أن عدد أهل الجنة من هذه الأمة أكبر، فورد أنهم نصف أهل الجنة.
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنِّي أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الجَنَّةِ .
فَكَبَّرْنَا.
فَقَالَ: أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الجَنَّةِ .
فَكَبَّرْنَا.
فَقَالَ: أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الجَنَّةِ .
فَكَبَّرْنَا" رواه البخاري (3348) ومسلم (222).
وورد ما يشير إلى أن هذه الأمة ثلثا أهل الجنة.
عَنْ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( أَهْلُ الجَنَّةِ عِشْرُونَ وَمِائَةُ صَفٍّ ثَمَانُونَ مِنْهَا مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ وَأَرْبَعُونَ مِنْ سَائِرِ الأُمَمِ ) رواه الترمذي (2546)، وقال: " هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ ".
ومعنى ذلك: أن المستجيبين لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من الذي استجابوا للرسل قبلنا.
عَنْ حُصَيْنٍ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، فَقَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ، فَأَخَذَ النَّبِيُّ يَمُرُّ مَعَهُ الأُمَّةُ، وَالنَّبِيُّ يَمُرُّ مَعَهُ النَّفَرُ، وَالنَّبِيُّ يَمُرُّ مَعَهُ العَشَرَةُ، وَالنَّبِيُّ يَمُرُّ مَعَهُ الخَمْسَةُ، وَالنَّبِيُّ يَمُرُّ وَحْدَهُ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا سَوَادٌ كَثِيرٌ، قُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ، هَؤُلاَءِ أُمَّتِي؟ قَالَ: لاَ، وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الأُفُقِ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا سَوَادٌ كَثِيرٌ، قَالَ: هَؤُلاَءِ أُمَّتُكَ، وَهَؤُلاَءِ سَبْعُونَ أَلْفًا قُدَّامَهُمْ ، لاَ حِسَابَ عَلَيْهِمْ وَلاَ عَذَابَ ... رواه البخاري (6541).
وعن أَنَس بْن مَالِكٍ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَا أَوَّلُ شَفِيعٍ فِي الْجَنَّةِ، لَمْ يُصَدَّقْ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مَا صُدِّقْتُ، وَإِنَّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ نَبِيًّا مَا يُصَدِّقُهُ مِنْ أُمَّتِهِ إِلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ رواه مسلم (196).
وبيّن النبي صلى الله عليه وسلم سبب كثرة المؤمنين به، وهو أن معجزته أقوى ومحفوظة ومستمرة، وهي القرآن الكريم.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: مَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلَّا أُعْطِيَ مِنَ الآيَاتِ مَا مِثْلُهُ أُومِنَ، أَوْ آمَنَ، عَلَيْهِ البَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنِّي أَكْثَرُهُمْ تَابِعًا يَوْمَ القِيَامَةِ رواه البخاري (7274)، ومسلم (152).
قال القاضي عياض رحمه الله تعالى:
" وهو: أن سائر معجزات الأنبياء انقرضت بانقراضهم، ولم يشاهدها إلا من كان حاضرا لها، ومعجزة نبينا صلّى الله عليه وسلّم من القرآن وخرقه للعادة في أسلوبه، وبلاغتُه بَيِّنة لكل من يأتي إلى يوم القيامة .
إلى ما انطوى عليه من الإخبار عن الغيوب، فلا يمر عَصْرٌ إلا ويظهر فيه معجزة مما أخبر أنها تكون، تدل على صدقه ، وصحة نبوته وتجدّد الإيمان في قلوب أمته " انتهى من "إكمال المعلم" (1 / 467).
والله أعلم.
تعليق