الحمد لله.
أولًا :
من عقائد أهل السنة والجماعة المستقرة أن الله سبحانه وبحمد غير معطل عن الفعل ، ولا يليق به ، بل هو سبحانه وتعالى : فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ البروج/16 .
يقول الإمام الطبري رحمه الله: "هو غفار لذنوب من شاء من عباده إذا تاب وأناب منها، معاقب من أصر عليها وأقام، لا يمنعه مانع من فعل أراد أن يفعله، ولا يحول بينه وبين ذلك حائل، لأن له ملك السموات والأرض، وهو العزيز الحكيم " انتهى، من "تفسير الطبري" (24/284).
وقال سبحانه: يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ الرحمن/29 .
وجملة أقوال المفسرين في الآية " أن الله من شأنه في كل يوم أن يحيي ويميت ، ويخلق ويرزق ، ويعز قومًا ويذل قومًا ، ويشفي مريضًا ، ويفك عانيًا ، ويفرج مكروبًا ، ويجيب داعيًا ، ويعطي سائلًا ، ويغفر ذنبًا ، إلى ما لا يحصى من أفعاله وإحداثه في خلقه " .
"القضاء والقدر"، للأشقر (40).
ثانيًا :
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا قَضَى اللَّهُ الأَمْرَ فِي السَّمَاءِ، ضَرَبَتِ المَلاَئِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ، كَالسِّلْسِلَةِ عَلَى صَفْوَانٍ - قَالَ عَلِيٌّ: وَقَالَ غَيْرُهُ: صَفْوَانٍ يَنْفُذُهُمْ ذَلِكَ - فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ، قَالُوا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ، قَالُوا لِلَّذِي قَالَ: الحَقَّ، وَهُوَ العَلِيُّ الكَبِيرُ ، رواه "البخاري" (4701).
وهذا القضاء هو كلام الله سبحانه وبحمده ، وكلام الله صفة فعلية ، فإن الله يتكلم متى شاء سبحانه .
والدليل على هذا ما رواه "البخاري" معلقًا (9/ 141)، و"أبي داود" (4738) : عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ: إِذَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِالوَحْيِ سَمِعَ أَهْلُ السَّمَوَاتِ شَيْئًا، فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ وَسَكَنَ الصَّوْتُ، عَرَفُوا أَنَّهُ الحَقُّ وَنَادَوْا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الحَقَّ [سبأ: 23] .
وقوله : ( إذا تكلم الله بالوحي سُمِع ) " يدل على أنه يتكلم به حين يسمعونه ، وذلك ينفي كونه أزليًا ، وأيضًا : فما يكون كجر السلسلة على الصفا ، يكون شيئًا بعد شيء ، والمسبوق بغيره لا يكون أزليًا "، انتهى من "جامع الرسائل - رشيد سالم" (2/ 24).
ثالثًا :
لا تعارض بين هذا القضاء المستمر والقضاء الذي هو بمعنى الكتابة ، فإن الإيمان بالقضاء والقدر له مراتب أربع وهي :
أ ـ مرتبة العلم : وهي الإيمان بعلم الله المحيط بكل شيء ، الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ، وأن الله قد علم جميع خلقه قبل أن يخلقهم ، وعلم ما هم عاملون بعلمه القديم ، وأدلة هذا كثيرة منها قوله تعالى : هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الحشر/22 ، وقوله تعالى : وأن الله قد أحاط بكل شيء علما الطلاق/12 .
ب ـ مرتبة الكتابة : وهي الإيمان بأن الله كتب مقادير جميع الخلائق في اللوح المحفوظ . ودليل هذا قوله تعالى : أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ الحج/70 .
وقوله صلى الله عليه وسلم : " كتب الله مقادير الخلائق قبل أن تخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة " رواه مسلم ( 2653 ) .
ج ـ مرتبة الإرادة والمشيئة : وهي الإيمان بأن كل ما يجري في هذا الكون فهو بمشيئة الله سبحانه وتعالى ؛ فما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن ، فلا يخرج عن إرادته شيء .
والدليل قوله تعالى :وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّه ُ الكهف/23 ،24 وقوله تعالى : وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ التكوير/29 .
د ـ مرتبة الخلق : وهي الإيمان بأن الله تعالى خالق كل شيء ، ومن ذلك أفعال العباد ، فلا يقع في هذا الكون شيء إلا وهو خالقه ، لقوله تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ الزمر/62 . وقوله تعالى : وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُون الصافات/96 .
وقوله صلى الله عليه وسلم : " إن الله يصنع كل صانع وصنعته " أخرجه البخاري في خلق أفعال العباد (25) وابن أبي عاصم في السنة ( 257 و 358 ) وصححه الألباني في "الصحيحة" ( 1637) .
قال الشيح ابن سعدي ـ رحمه الله ـ : " إن الله كما أنه الذي خلقهم ـ أي الناس ، فإنه خلق ما به يفعلون من قدرتهم وإرادتهم ؛ ثم هم فعلوا الأفعال المتنوعة : من طاعة ومعصية ، بقدرتهم وإرادتهم اللتين خلقها الله " انتهى من "الدرة البهية شرح القصيدة التائية" ص (18).
والمرتبة الأخيرة متجددة كما هو واضح ، فإن الله جل جلاله : هو الخلَّاق ، الرزَّاق ، لم يزل يخلق خلقا من بعد خلق، ويرزقهم ، ويعطي ويمنع ، ويخفض ويرفع ، ويحيي ويميت ، سبحانه ، كل يوم هو في شأن.
انظر جواب السؤال رقم : (49004).
والله أعلم.
تعليق