الحمد لله.
أولا: دعاء المسلم لأخيه بظهر الغيب من أسباب استجابة الدعاء
من أعظم أسباب استجابة الدعاء أن يدعو المسلم لأخيه بظهر الغيب ، وذلك لما جاء في الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم في "صحيحه" (2732) ، من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَنْ دَعَا لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ ، قَالَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ: آمِينَ ، وَلَكَ بِمِثْلٍ
ومعنى قوله " بظهر الغيب " : أي في غيبة المدعو له .
والسرَّ في استجابة الدعاء لمن دعا لأخيه بظهر الغيب هو الإخلاص والبعد عن الرياء والسمعة ، فعدم إعلامه دليل صدقه وصحة قصده ، وأنه لم يقصد بذلك شيئا من حظوظ الدنيا ، فإن أخبره بذلك خرج الأمر عن المقصود .
لذا اشترط أن يكون الدعاء بغيبته ، وكذا لو كان حاضرًا لكنه لا يُسمعه .
قال القاضي عياض في "مشارق الأنوار" (1/331) :" قوله ( من دعا لأخيه بظهر الغيب ) : كأنه من وراء معرفته ومعرفة الناس بذلك ، لأنه دليل الإخلاص له في الدعاء ، وأبعد من التصنع ، وكأنه من إلقاء الإنسان الشيء وراء ظهره إذا ستره من غيره ". اهـ
وقال النووي في "شرح مسلم" (17/49) :" أَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( بِظَهْرِ الْغَيْبِ ) : فَمَعْنَاهُ فِي غَيْبَةِ الْمَدْعُوِّ لَهُ وَفِي سِرِّهِ ، لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْإِخْلَاصِ ". اهـ
وقال القرطبي في "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" (7/61) :" ( بظهر الغيب ) أي: في حال غيبته عنه ، وإنما خص حالة الغيبة بالذكر لبعدها عن الرياء ، والأغراض المفسدة أو المنقصة ؛ فإنه في حال الغيبة يتمحض الإخلاص ، ويصح قصد وجه الله تعالى بذلك ، فيوافقه الملك في الدعاء ، ويبشره على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - بأن له مثل ما دعا به لأخيه ". اهـ
وقال القاري في "مرقاة المفاتيح" (4/1526) :" بِظَهْرِ الْغَيْبِ ": الظَّهْرُ مُقْحَمٌ لِلتَّأْكِيدِ أَيْ: فِي غَيْبَةِ الْمَدْعُوِّ لَهُ عَنْهُ ، وَإِنْ كَانَ حَاضِرًا مَعَهُ ؛ بِأَنْ دَعَا لَهُ بِقَلْبِهِ حِينَئِذٍ ، أَوْ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَسْمَعْهُ " مُسْتَجَابَةٌ ": لِخُلُوصِ دُعَائِهِ مِنَ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ " انتهى.
ثانيا: يشترط لحصول الأجر المترتب على ذلك عدم علم المدعو له
الذي يظهر أن شرط الحصول على الأجر المترتب على الدعوة للغير، ودعاء الملك للداعي بمثل ما دعا لأخيه : أن يكون ذلك بحيث لا يعلم المدعو له بدعوة الداعي.
وينبغي أن يستمر على ذلك ، ولا يدعو بظهر الغيب، وفي نيته أن يعلم أخاه أنه قد دعا له.
لكن الظاهر أن الدعوة إذا مضت على ذلك ، ولم يكن في نيته أن يعلم أخاه بذلك، ولا أن يظهر عمله لغيره ، ثم عرض له مصلحة شرعية راجحة ، تغلب جانب إعلام أخيه بهذه الدعوة ؛ فالذي يظهر أن ذلك لا يقدح في إخلاصه ، ولا أنه يحرمه من دعوة الملك له ؛ لأنها مضت على الإخلاص، فلم تحبط بما عرض من الإخبار، لا سيما إذا لم يكن الداعي إليه المن على المدعو له، أو طلب مكافأته، ولو بدعوة مثلها، أو الرياء والسمعة.
ومما سبق يتبين أن شرط الاستجابة هو ألا يعلم المدعو بدعاء أخيه له ، بل يكون في غيبته وعدم حضوره ، وإن كان حاضرا كان في سره دون أن يسمعه .
فلو أعلمه لانتفى الشرط ، وكل هذا ليكون الحامل على الدعاء الإخلاص وصحة القصد ، دون أي حظ من حظوط الدنيا ، والله أعلم .
وقد اختار بعض المحققين أن الرياء العارض للعمل، بعد الفراغ منه ، لا يحبط أجره.
قال ابن مفلح رحمه الله:
" وورود الرياء بعد الفراغ من العبادة لا يحبطها، لأنه قد تم على نعت الإخلاص، فلا ينعطف ما طرأ عليه بعده، لا سيما إذا لم يتكلف هو إظهاره والتحدث به، فأما إن تحدث به بعد فراغه وأظهره فهذا مخوف، والغالب عليه أنه كان في قلبه وقت مباشرة العمل نوع رياء فإن سلم من الرياء نقص أجره، فإن بين عمل السر والعلانية سبعين درجة " انتهى من"الآداب الشرعية" (1 / 157).
فإذا كان طروء الرياء على العمل ، بعد الفراغ منه ، لا يحبط أجره؛ فكيف إذا لم يكن قصد الداعي بذلك الرياء بدعائه، بل مراعاة جانب المصلحة الشرعية؛ فهذا أبعد ، إن شاء الله ، عن أن يبطل عليه عمله، أو ينقص منه أجره.
لكن الذي يخل بأن يكون الدعاء بـ (ظهر الغيب): أن يدعو له ، وفي نيته أن يخبر صاحبه الذي دعا له.
وينظر للفائدة : جواب السؤال رقم : (331219).
والله أعلم.
تعليق