السبت 8 جمادى الأولى 1446 - 9 نوفمبر 2024
العربية

حكم الاعتقاد أن وراء الشرع حقيقة ومعرفة وطريقا

334862

تاريخ النشر : 01-11-2020

المشاهدات : 6050

السؤال

يقول والدي : أنّ هناك مراحل للإسلام، يقول هناك ما هو أعمق أو أبعد من الشريعة: هناك طريقة، حقيقة ومعرفة، أنا مرتبك قليلا حول هذا الأمر، هل والدي على حق؟

ملخص الجواب

هذا الكلام من كلام غلاة التصوف حيث يعتقدون أن وراء الشرع حقيقة وطريقة ومعرفة. فالصوفية يزعمون أن هناك طريقا موصلا إلى المعرفة بالله وتصرفاته في الكون، ويوصل إليها بالمكاشافات والوارادات على القلب وما يجده من أذواق، وهذه المعرفة الحاصلة بهذه الوسائل إنما تنتج عندهم بطريق الالتزام بتعبدات وأوراد يأخذها المريد عن شيخه، فترتقي به في مدارج المعرفة بالله تعالى حتى يصل إلى الحقيقة، فمن وصل إليها فهو عندهم المسمى بـ "العارف بالله تعالى". وينظر الجواب المطول في الرد على هذا الضلال العظيم.

الحمد لله.

غلاة الصوفية يعتقدون أن وراء الشرع حقيقة وطريقة ومعرفة

هذا الكلام من كلام غلاة التصوف حيث يعتقدون أن وراء الشرع حقيقة وطريقة ومعرفة.

فالصوفية يزعمون أن هناك طريقا موصلا إلى المعرفة بالله وتصرفاته في الكون، ويوصل إليها بالمكاشافات والوارادات على القلب وما يجده من أذواق، وهذه المعرفة الحاصلة بهذه الوسائل إنما تنتج عندهم بطريق الالتزام بتعبدات وأوراد يأخذها المريد عن شيخه، فترتقي به في مدارج المعرفة بالله تعالى حتى يصل إلى الحقيقة، فمن وصل إليها فهو عندهم المسمى بـ "العارف بالله تعالى".

فأصل ضلالهم الأول: اعتقادهم أن نصوص الشرع، لا تكفي لوحدها للوصول إلى المرتبة العالية في المعرفة الصحيحة بالله تعالى. 

وهذا ضلال عظيم، وفيه نسبة القصور إلى الشرع وعدم كماله.

ومن المقرر في دين الإسلام؛ أن كل ما يقرب إلى الله تعالى مبين في شرع نبينا صلى الله عليه وسلم، فلم يمت صلى الله عليه وسلم إلا وقد أتم وأكمل تبليغه للدين، قال الله تعالى:

 الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ   المائدة/3.

وعن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:   إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ ، وَيُنْذِرَهُمْ شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ  رواه مسلم (1844).

فلا يجوز لأحد أن يعقب على شرعه، فيزعم أن هناك من أمور الدين ما ليس في الشرع.

فكل أمر تعبدي لم يرد في الشرع ، فهو بدعة ضلالة مردودة على صاحبها وغير مقبولة.

عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:  مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ ، فَهُوَ رَدٌّ  رواه البخاري (2697)، ومسلم (1718).

قال ابن رجب رحمه الله تعالى:

" وهذا الحديث أصل عظيم من أصول الإسلام، وهو كالميزان للأعمال في ظاهرها كما أن حديث: ( الأعمال بالنيات ) ميزان للأعمال في باطنها، فكما أن كل عمل لا يراد به وجه الله تعالى، فليس لعامله فيه ثواب، فكذلك كل عمل لا يكون عليه أمر الله ورسوله، فهو مردود على عامله، وكل من أحدث في الدين ما لم يأذن به الله ورسوله، فليس من الدين في شيء " انتهى من"جامع العلوم والحكم" (1 / 176).

فالسبيل إلى القرب من الله واضح جلي لا يحتاج إلى تكلف، وهو اتباع شرع النبي صلى الله عليه وسلم، فهو السبيل الوحيد الموصل إلى الله تعالى، قال الله تعالى:

  قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ، قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ  آل عمران/31 - 32.

قال ابن كثير رحمه الله تعالى:

" هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله، وليس هو على الطريقة المحمدية فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر، حتى يتبع الشرع المحمدي ، والدين النبوي ، في جميع أقواله وأفعاله وأحواله ..." انتهى من "تفسير ابن كثير" (2 / 32).

قال الشيخ المفسر محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى:

" فلا يخفى على من له إلمام بمعرفة دين الإسلام : أنه لا طريق تعرف بها أوامر الله ونواهيه، وما يتقرب إليه به من فعل وترك إلا عن طريق الوحي، فمن ادعى أنه غني في الوصول إلى ما يرضي ربه عن الرسل، وما جاءوا به ، ولو في مسألة واحدة : فلا شك في زندقته. والآيات والأحاديث الدالة على هذا لا تحصى...

وبذلك تعلم أن ما يدعيه كثير من الجهلة المدعين التصوف من أن لهم ، ولأشياخهم ، طريقا باطنة توافق الحق عند الله ، ولو كانت مخالفة لظاهر الشرع، كمخالفة ما فعله الخضر لظاهر العلم الذي عند موسى، زندقة، وذريعة إلى الانحلال بالكلية من دين الإسلام، بدعوى أن الحق في أمور باطنة تخالف ظاهره " انتهى من "أضواء البيان" (4 / 205).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:

" ومن ادعى أن من الأولياء الذين بلغتهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم من له طريق إلى الله لا يحتاج فيه إلى محمد : فهذا كافر ملحد.

وإذا قال: أنا محتاج إلى محمد في علم الظاهر دون علم الباطن ، أو في علم الشريعة دون علم الحقيقة؛ فهو شر من اليهود والنصارى الذين قالوا: إن محمدا رسول إلى الأميين دون أهل الكتاب. فإن أولئك آمنوا ببعض وكفروا ببعض ، فكانوا كفارا بذلك.

وكذلك هذا الذي يقول إن محمدا بعث بعلم الظاهر دون علم الباطن : آمن ببعض ما جاء به، وكفر ببعض؛ فهو كافر، وهو أكفر من أولئك؛ لأن علم الباطن الذي هو علم إيمان القلوب ومعارفها وأحوالها ، هو علم بحقائق الإيمان الباطنة . وهذا أشرف من العلم بمجرد أعمال الإسلام الظاهرة " انتهى من "مجموع الفتاوى" (11 / 225).

وأصل ضلالهم الثاني: أنهم يعتبرون المكاشافات والإلهامات والأذواق طريقا إلى المعرفة.

والمكاشفات والإلهامات والخواطر ليست دليلا بالاتفاق، وإنما يحكم بصحتها أو فسادها بالرجوع إلى الكتاب والسنة.

قال الشيخ المفسر محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى:

" المقرر في الأصول: أن الإلهام من الأولياء لا يجوز الاستدلال به على شيء، لعدم العصمة، وعدم الدليل على الاستدلال به، بل لوجود الدليل على عدم جواز الاستدلال به...

وغير المعصوم لا ثقة بخواطره؛ لأنه لا يأمن دسيسة الشيطان، وقد ضمنت الهداية في اتباع الشرع، ولم تضمن في اتباع الخواطر والإلهامات " انتهى من "أضواء البيان" (4 / 204).

ومن المعلوم أن الأذواق وما يخطر في القلب: هي نتيجة وليست دليلا، فكل إنسان يحصل له من الذوق بحسب الطريق الذي يسلكه؛ فإن كان الطريق فاسدا أنتج أذواقا فاسدة.

قال ابن القيم رحمه الله تعالى:

" ومن كيد الشيطان: ما ألقاه إلى جهّال المتصوفة من الشّطح والطامّات، وأبرزه لهم في قالب الكشف من الخيالات، فأوقعهم في أنواع الأباطيل والتُّرَّهات، وفتح لهم أبواب الدعاوى الهائلات، وأوحى إليهم أن وراء العلم طريقا؛ إن سلكوه، أفضى بهم إلى كشف العِيان، وأغناهم عن التقيّد بالسنة والقرآن.

فحسَّن لهم رياضة النفوس وتهذيبها، وتصفية الأخلاق، والتجافي عما عليه أهل الدنيا، وأهل الرياسة والفقهاء، وأرباب العلوم، والعمل على تفريغ القلب وخُلُوِّه من كل شيء، حتى ينتقش فيه الحق بلا واسطة تعلّم!!

فلما خلا من صورة العلم الذي جاء به الرسول، نقش فيه الشيطان بحسب ما هو مستعدّ له من أنواع الباطل، وخَيّله للنفس، حتى جعله كالمشاهَد كشفا وعيانا، فإذا أنكره عليهم ورثة الرسل، قالوا: لكم العلم الظاهر ولنا الكشف الباطن، ولكم ظاهر الشريعة وعندنا باطن الحقيقة، ولكم القشور ولنا اللباب.

فلما تمكّن هذا من قلوبهم سلخها من الكتاب والسنة والآثار، كما يُسلَخ الليل من النهار، ثم أحالهم في سلوكهم على تلك الخيالات، وأوهمهم أنها من الآيات البينات، وأنها من قِبَل الله سبحانه إلهامات وتعريفات، فلا تُعْرَضُ على السنة والقرآن، ولا تُعامَل إلا بالقبول والإذعان. فلغير الله -لا له- سبحانه ما يفتحه عليهم الشيطان: من الخيالات والشطحات وأنواع الهذيان!

وكلما ازدادوا بُعْدا وإعراضا عن القرآن وما جاء به الرسول؛ كان هذا الفتح على قلوبهم أعظم " انتهى من"إغاثة اللهفان" (1 / 207 - 208).

فالحاصل؛ أن والدك ملبس عليه ، وقد غلط في قوله ذلك غلطا عظيما ؛ فعليك نصحه بالحسنى وبيان فضل الاكتفاء بما في الكتاب والسنة؛ فبهما يصل العبد إلى ربه سبحانه وتعالى، قال الله تعالى:  لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا   الأحزاب/21.

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب