الحمد لله.
روى الطبري في "التفسير" (8 / 467)، قال: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حدثنا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ وَمَسْرُوقٍ: أَنَّهُمَا سَأَلَا ابْنَ مَسْعُودٍ عَنِ الرِّشْوَةِ، فَقَالَ: مِنَ السُّحْتِ. قَالَ: فَقَالَا: أَفِي الْحُكْمِ؟ قَالَ: ذَاكَ الْكُفْرُ. ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ".
وهذا إسناد رواته ثقات، وصححه الشيخ سعد الحميد في تحقيق "سنن سعيد بن منصور" (4 / 1472).
وله متابعات عديدة، كمتابعة سَالِمِ بْنِ أَبِي الجَعْد لسَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، رواها سعيد بن منصور في "السنن – التفسير" (741) عَنْ عمَّار الدُّهْني، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الجَعْد، عَنْ مَسْروق، قَالَ: " سَأَلْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ عَنِ السُّحْت، أَهُوَ الرِّشوة فِي الْحُكْمِ؟ قَالَ: لَا، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ، وَالظَّالِمُونَ، وَالْفَاسِقُونَ، وَلَكِنَّ السُّحْت: أَنْ يَسْتَعِينَكَ رَجُلٌ عَلَى مَظْلَمَةٍ، فَيُهْدِيَ لَكَ، فَتَقْبَلَهُ، فَذَلِكَ السُّحت ".
وصحح إسناده محقق الكتاب الشيخ سعد الحميد.
ورواه الطبراني في "المعجم الكبير" (9100)، قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الصَّائِغُ الْمَكِّيُّ، ثنا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، ثنا حَمَّادُ بْنُ يَحْيَى الْأَبَحُّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: "الرِّشْوَةُ فِي الْحُكْمِ كُفْرٌ، وَهِيَ بَيْنَ النَّاسِ سُحْتٌ".
ورواته ثقات غير حَمَّاد بْن يَحْيَى الْأَبَحّ، فمنهم من وثقه ، ومنهم من نسب إليه أنه يهم أحيانا.
قال الذهبي رحمه الله تعالى:
" حماد بن يحيى الأبحّ البصري...
ثقة، قال أبو داود: يخطئ كما يخطئ الناس " انتهى من"الكاشف" (1 / 350).
وقال في "المغني" (1 / 191):
" حماد بن يحيى الأبح.
ثقة له أوهام وغرائب، وقد لُيِّن، قال ابن مهدي: يهم في الشيء بعد الشيء " انتهى.
ولخص حاله الحافظ ابن حجر بقوله:
" صدوق يخطىء " انتهى من"تقريب التهذيب" (ص 179).
وقال البوصيري رحمه الله تعالى:
" ورواه الطبراني موقوفا بإسناد صحيح " انتهى من "إتحاف الخيرة" (5 / 394).
وأما ما فيه من قوله: (ذَاكَ الْكُفْرُ)، فلم نقف على هذه العبارة في نص شرعي بمعنى الكفر الأصغر، لكن رويت في كلام آخر لابن مسعود رضي الله عنه في حكم ترك الصلاة، حيث روى الطبري في "التفسير" (15 / 569)، قال: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ الْمَسْعُودِيِّ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَالْحَسَنُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: ( إِنَّ اللَّهَ جلّ وعزّ يُكْثِرُ ذِكْرَ الصَّلَاةِ فِي الْقُرْآنِ ( الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ )، وَ ( عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ )، وَ ( عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ )، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: عَلَى مَوَاقِيتِهَا، قَالُوا: مَا كُنَّا نَرَى ذَلِكَ إِلَّا عَلَى التَّرْكِ، قَالَ: ذَاكَ الْكُفْرُ ).
لكن الإسناد منقطع فالْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَالْحَسَنُ بْنُ سَعْدٍ لم يسمعا من عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
والأصل في هذه العبارة (ذاك الكفر) أنها حقيقة في الكفر الأكبر؛ لأن لفظ "الكفر" إذا أطلق يراد به الكفر الأكبر، ولا يحمل على الأصغر إلا بدليل أو قرينة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" الكفر المطلق هو الكفر الأعظم المخرج عن الملة فينصرف الإطلاق إليه، وإنما صرف في تلك المواضع إلى غير ذلك لقرائن انضمت إلى الكلام، ومن تأمل سياق كل حديث وجده معه...
والكفر المُعَرَّف ينصرف إلى الكفر المعروف وهو المخرج عن الملة " انتهى من"شرح العمدة – كتاب الصلاة" (ص 82).
ولذلك حمل شيخ الإسلام ابن تيمية عبارة ابن مسعود (ذَاكَ الْكُفْرُ) في الخبر السابق عن الصلاة، بأن المراد بها الكفر الأكبر، حيث قال رحمه الله تعالى:
" وكذلك قول ابن مسعود وغيره، مع أنه بيّن أن إخراجها عن الوقت ليس هو الكفر، وإنما هو الترك بالكلية، وهذا لا يكون إلا فيما يخرج عن الملة " انتهى من "شرح العمدة – كتاب الصلاة" (ص 83).
ثانيا:
الظاهر أن قول ابن مسعود رضي الله عنه هو في مسألة أخص من مسألة الجور في الأحكام.
وهي : من يكتم حكم الله لقاء رشوة، ثم ينسب إلى الله بدله حكما آخرا كذبا. ويدل على هذا سياق الآية التي استدل بها .
( وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ) المائدة/44.
قال أبو بكر الجصاص رحمه الله تعالى:
" ... ومنها تحريم أخذ الرشا في الأحكام وهو قوله تعالى: ( وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا ).
وقوله تعالى: ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ).
قال ابن عباس: هو في الجاحد لحكم الله.
وقيل: هي في اليهود خاصة.
وقال ابن مسعود والحسن وإبراهيم: هي عامة، يعني: فيمن لم يحكم بما أنزل الله، وحكم بغيره مخبرا أنه حكم الله تعالى، ومن فعل هذا فقد كفر " انتهى من "أحكام القرآن" (4 / 92 – 93).
وقال ابن العربي رحمه الله تعالى:
" قوله تعالى: ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ )...
قال طاوس وغيره: ليس بكفر ينقل عن الملة، ولكنه كفر دون كفر.
وهذا يختلف؛ إن حكم بما عنده على أنه من عند الله؛ فهو تبديل له يوجب الكفر، وإن حكم به هوى ومعصية، فهو ذنب تدركه المغفرة على أصل أهل السنة في الغفران للمذنبين " انتهى من "أحكام القرآن" (2 / 624 - 625).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" والإنسان متى حلل الحرام - المجمع عليه - أو حرم الحلال - المجمع عليه - أو بدل الشرع - المجمع عليه - كان كافرا مرتدا باتفاق الفقهاء. وفي مثل هذا نزل قوله على أحد القولين: ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ )، أي هو المستحل للحكم بغير ما أنزل الله....
والثالث "الشرع المبدل" وهو الكذب على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أو على الناس بشهادات الزور، ونحوها، والظلم البين؛ فمن قال إن هذا من شرع الله، فقد كفر بلا نزاع، كمن قال: إن الدم والميتة حلال - ولو قال هذا مذهبي ونحو ذلك " انتهى من "مجموع الفتاوى" (3 / 267 – 268).
والله أعلم.
تعليق