الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 - 22 نوفمبر 2024
العربية

التعليق على كتاب الروح لابن القيم

341553

تاريخ النشر : 28-12-2020

المشاهدات : 25795

السؤال

هل كتاب الروح لابن القيم، فيه بعض ما يخالف العقيدة الصحيحة وبعض البدع القبورية؟ فقد احتج علي بعض من ينتمي إلى العلم (وفيهم أنواع من البدع!) بأن إمامكم الحافظ ابن القيم رحمه الله أيضا يؤيد ما تقول به، يعني بذلك إثبات التصرف لأرواح الأموات، حيث ذكر في كتابه المسمى بكتاب "الروح" : "وما يراه الناس من أرواح الموتى، ومجيئهم إليهم من المكان البعيد أمر يعلمه عامة الناس، ولا يشكون فيه" . فماذا قصدالحافظ ابن القيم بإيراد مثل هذه النصوص؟ أليس هذا مناصرة البدعة وأهلها؟! وأيضا قد رأيت فيه شيئا كثيرا من هذا الباب، وتعجبت كثيرا؛ لأن مثل هذا الأمر لو صدر من الصوفية الخرافية المبتدعة، لهان الخطب؛ أما الحافظ ابن القيم المحقق فلا يتصور من أمثاله تأييد هذه الأقوال المملوءة بالخرافات.

الجواب

الحمد لله.

أولا: 

كتاب الروح للإمام ابن القيم رحمه الله، كتاب نافع، اشتمل على جملة من المسائل والمباحث القيمة، وفيه أمور اعتمد فيها الإمام على بعض الآثار والمنامات، مما لم يقم عليها دليل، فهي محل بحث ونقد بحسب ما يقتضيه الدليل. لكنها سواء سلمت له، أو خولف فيها ؛ لا تقدح في مؤلفه، فهي مسائل اجتهادية لم يخالف فيها إجماعا أو نصا.

وقد سئل الشيخ ابن باز رحمه الله عن كتاب الروح لابن القيم؟

فأجاب بقوله: " كتاب مفيد عظيم الفائدة فيه علم جم، ومسائل مفيدة، وفيه بعض الأشياء المرجوحة، طالب العلم إذا قرأه يعرف الراجح من المرجوح، ولكنه كتاب مفيد جدًا في بابه وفيه علم كثير، وتحقيقات كثيرة ينتفع بها طالب العلم، ولكن ليس كل ما في الكتاب صحيحًا؛ لأن كل عالم يخطئ ويصيب، وكل عالم يؤخذ من قوله ويترك إلا الرسول عليه الصلاة والسلام، فهناك مرائي وأشياء ذكرها قد لا يتابع عليها، وكذلك ترجيحه لبعض المسائل قد لا يتابع عليه رضي الله عنه ورحمه، ولكن هذا يحتاج إلى علم.

فالذي يراجع الكتاب ويقرأ الكتاب، إذا كان ذا علم وذا بصيرة سوف يفهم ما يقوم عليه الدليل، وما لا يقوم عليه الدليل" انتهى من "فتاوى نور على الدرب" :

ثانيا:

لم يقل ابن القيم بإثبات التصرف للأرواح كما يقوله ضلال الصوفية، وليس في العبارة التي نقلت ما يفيد ذلك، وإنما تكلم عن سرعة حركة الروح وانتقالها.

قال رحمه الله: " الروح تكون فوق السموات في أعلى عليين، وتردّ إلى القبر، فتردّ السلام، وتعلم بالمسلّم وهي في مكانها هناك.

وروح رسول الله في الرفيق الأعلى دائما، ويردها الله سبحانه إلى القبر، فترد السلام على من سلم عليه، وتسمع كلامه.

وقد رأى رسول الله موسى قائما يصلى في قبره، ورآه في السماء السادسة والسابعة، فإما أن تكون سريعة الحركة والانتقال كلمح البصر، وإما أن يكون المتصل منها بالقبر وفنائه، بمنزلة شعاع الشمس، وجِرمُها في السماء.

وقد ثبت أن روح النائم تصعد حتى تخترق السبع الطباق، وتسجد لله بين يدي العرش، ثم ترد إلى جسده في أيسر زمان.

وكذلك روح الميت تصعد بها الملائكة حتى تجاوز السماوات السبع، وتقف بين يدي الله، فتسجد له ويقضى فيها قضاء، ويريها الملك ما أعد الله لها في الجنة، ثم تهبط فتشهد غسله وحمله ودفنه.

وقد تقدم في حديث البراء بن عازب أن النفس يُصعد بها حتى توقف بين يدي الله، فيقول تعالى: اكتبوا كتاب عبدى في عليين ثم أعيدوه إلى الأرض، فيعاد إلى القبر، وذلك في مقدار تجهيزه وتكفينه، فقد صرح به في حديث ابن عباس حيث قال: فيهبطون على قدر فراغه من غسله وأكفانه، فيدخلون ذلك الروح بين جسده وأكفانه.

 وقد ذكر أبو عبد الله بن منده من حديث عيسى بن عبد الرحمن: حدثنا ابن شهاب حدثنا عامر بن سعد عن إسماعيل بن طلحة بن عبيد الله عن أبيه ، قال أردت : مالي بالغابة فأدركني الليل، فأويت إلى قبر عبد الله بن عمر بن حرام ، فسمعت قراءة من القبر ، ما سمعت أحسن منها ، فجئت إلى رسول الله فذكرت ذلك له فقال: (ذلك عبد الله؛ ألم تعلم أن الله قبض أرواحهم فجعلها في قناديل من زبرجد وياقوت، ثم علقها وسط الجنة، فإذا كان الليل ردت إليهم أرواحهم، فلا يزال كذلك، حتى إذا طلع الفجر ردت أرواحهم إلى مكانهم الذي كانت به).

 ففي هذا الحديث بيان سرعة انتقال أرواحهم من العرش إلى الثرى، ثم انتقالها من الثرى إلى مكانها، ولهذا قال مالك وغيره من الأئمة: إن الروح مرسلة تذهب حيث شاءت.

وما يراه الناس من أرواح الموتى ومجيئهم إليهم من المكان البعيد: أمر يعلمه عامة الناس، ولا يشكون فيه. والله أعلم" انتهى من كتاب "الروح" ص101، 102

ومراده بما يراه الناس أي في منامهم، وأن الإنسان قد يكون في مكة ويرى الميت الذي في الصين، وهذا لا يسلّم له رحمه الله؛ فإن الرؤيا لا يلزم فيها أن نفس روح الميت تأتي النائم، وإنما هو مثل يضربه الله للنائم، أو ملك موكل بالرؤيا يفعل ذلك، كما ذكر جماعة من أهل العلم في بيان حقيقة الرؤيا. وينظر: "فتح الباري" (12/ 353).

وابن القيم نفسه يقول في "إعلام الموقعين" (1/ 195): " فالرؤيا أمثال مضروبة، يضربها الملك الذي قد وكله الله بالرؤيا، ليستدل الرائي بما ضرب له من المثل على نظيره، ويعبر منه إلى شبهه" انتهى.

وأيا ما كان الأمر؛ فليس فيما ذكر شيء عن تصرف الأرواح الذي يذهب إليه أهل الباطل، من أن الروح تخاطَب، وتدعى، ويستغاث بها؛ فتغيث وتنصر، فهذا من الشرك الذي ينزه عنه هذا الإمام.

وكون الميت يسمع أو يدرك ويعلم زيارة من زاره ونحو ذلك، لا يلزم منه جواز دعائه والطلب منه، كما يقوله ضلال الصوفية، الذين لا ينفعهم الاستشهاد بكلام ابن القيم، فإنه رحمه الله لم يجوز سؤال ميت، لا نبي ولا ولي، حتى لو قرر سماع الميت أو علمه بمن يزوره.

وقد ختم رحمه الله كتابه هذا ببيان التوحيد وإنكار ما عليه هؤلاء من الشرك فقال:

" فصل: والفرق بين تجريد التوحيد، وبين هضم أرباب المراتب:

أن تجريد التوحيد أن لا يعطى المخلوق شيئا من حق الخالق وخصائصه، فلا يعبد ، ولا يصلى له ولا يسجد، ولا يحلف باسمه ، ولا ينذر له ، ولا يُتوكل عليه، ولا يؤله ولا يقسم به على الله، ولا يُعبد ليتقرب إلى الله زلفى، ولا يساوى برب العالمين في قول القائل: ما شاء الله وشئت، وهذا منك ومن الله، وأنا بالله وبك، وأنا متوكل على الله وعليك، والله لي في السماء وأنت في الأرض، وهذا من صدقاتك وصدقات الله، وأنا تائب إلى الله وإليك، وأنا في حسب الله وحسبك، فيسجد للمخلوق كما يسجد المشركون لشيوخهم، ويحلق رأسه له، ويحلف باسمه وينذر له ويسجد لقبره بعد موته، ويستغيث به في حوائجه ومهماته، ويرضيه بسخط الله ولا يسخطه في رضا الله، ويتقرب إليه أعظم مما يتقرب إلى الله، ويحبه ويخافه ويرجوه، أكثر مما يحب الله ويخافه ويرجوه، أو يساويه.

فإذا هضم المخلوق خصائص الربوبية، وأنزله منزلة العبد المحض الذي لا يملك لنفسه، فضلا عن غيره، ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا؛ لم يكن هذا تنقصا له ولا حطا من مرتبته، ولو رغم المشركون.

وقد صح عن سيد ولد آدم صلوات الله وسلامه عليه، أنه قال: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله)، وقال: (أيها الناس ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي)، وقال: (لا تتخذوا قبري عيدا)، وقال: (اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد)، وقال: (لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان)، وقال له رجل: ما شاء الله وشئت فقال: (أجعلتني لله ندا)، وقال له رجل قد أذنب: اللهم إني أتوب إليك ولا أتوب إلى محمد، فقال: (عرف الحق لأهله).

وقد قال الله له: (ليس لك من الأمر شيء)، وقال: (قل إن الأمر كله لله)، وقال: (قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله)، وقال: (قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22)) ؛ أي لن أجد من دونه من ألتجىء إليه وأعتمد عليه.

 وقال لا بنته فاطمة وعمه العباس وعمته صفية: (لا أملك لكم من الله شيئا) وفي لفظ في الصحيح: (لا أغني عنكم من الله شيئا) .

فعظم ذلك على المشركين بشيوخهم وآلهتهم ، وأبوا ذلك كله ، وادعوا لشيوخهم ومعبوديهم خلاف هذا كله، وزعموا أن من سلبهم ذلك فقد هضمهم مراتبهم وتنقصهم، وقد هضموا جانب الإلهية غاية الهضم، وتنقصوه ؛ فلهم نصيب وافر من قوله تعالى: (وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون)" انتهى من "الروح"، ص263، 264.

فتأمل هذا التوحيد ، المباين لما عليه طوائف الضلال والبدعة ؛ فإن فرح الصوفي بكتاب الروح ؛ فليعمل بهذا !! أو فليرض لنفسه مقام الذين : يؤمنون ببعض الكتاب ... ويكفرون ببعض!!

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب