الاثنين 22 جمادى الآخرة 1446 - 23 ديسمبر 2024
العربية

حول جزاء التائب في الدنيا والآخرة

346194

تاريخ النشر : 20-06-2021

المشاهدات : 25335

السؤال

إنسان مسلم عصى الله سنوات من حياته، وتاب توبة صحيحة نصوحة، فبعد توبتة بثانية واحدة: تقبل توبتة، تمسح كل ذنوبة كبائر وصغائر، تبدل سيئاته حسنات بسبب توبته فقط، يزول الحجاب الذي بينة وبين الله عزوجل، وينصلح القلب، يصبح ولياً لله تعالى، هو من أهل وعود الله عزوجل التي وعد بها عبادة المؤمنين، ويستجيب الله عزوجل دعائه، ويحصل له خشوع في الصلاة، وإذا مات دخل الفردوس الأعلى. هل هذا الكلام صحيح؟ 

ملخص الجواب

1. مهما فعل العبد من ذنوب كبائر وصغائر ثم تاب إلى الله تاب الله عليه، وقَبِل منه وغفر له. 2. كل مؤمن تقي له نصيب من ولاية الله تعالى، على قدر إيمانه وتقواه. 3. ذهب طائفة من أهل العلم إلى أنه لا يلزم أن يكون تبديل سيئات التائب إلى حسنات مباشرة، فيحتمل أن يكون يوم القيامة عند الحساب. 4. صلاح القلب، والخشوع في الصلاة، فهذا من التكاليف التي يخاطب بها التائب. 5. أما دخول الفردوس الأعلى ليس بلازم، لأن المسلمين يتفاوتون في الدرجات بتفاوتهم في الإيمان والأعمال. والتائبون ليسوا على درجة واحدة، وينظر تفصيل ذلك في الجواب المطول.  

الحمد لله.

أولا:

التائب من الذنب كمن لا ذنب له

مهما فعل العبد من ذنوب كبائر وصغائر ثم تاب إلى الله تاب الله عليه، وقَبِل منه وغفر له. 

قال الله تعالى:  وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ  الشورى /25.

وقال تعالى:  قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ  الزمر/53.

ثانيا:

هل التائب من أولياء الله؟

وأما بالنسبة لولاية الله تعالى فكل مؤمن تقي له نصيب من ولاية الله تعالى، على قدر إيمانه وتقواه، قال الله تعالى:  أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ  يونس/62،63.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:

"فَكُلُّ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا تَقِيًّا، كَانَ لِلَّهِ وَلِيًّا. وَهُمْ عَلَى دَرَجَتَيْنِ: السَّابِقُونَ الْمُقَرَّبُونَ وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ الْمُقْتَصِدُونَ، كَمَا قَسَّمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ فَاطِرٍ وَسُورَةِ الْوَاقِعَةِ وَالْإِنْسَانِ وَالْمُطَفِّفِينَ." انتهى من "مجموع الفتاوى" (2/234).

ثالثا:

تبديل سيئات التائب إلى حسنات 

وأما تبديل الحسنات، كما في قول الله تعالى:  وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا  الفرقان/68 – 70.

هذا التبديل: ذهب طائفة من أهل العلم إلى أنه لا يلزم أن يكون مباشرة، فيحتمل أن يكون يوم القيامة عند الحساب، واستدلوا بما ورد في حديث أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:  إِنِّي لَأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا الْجَنَّةَ، وَآخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا، رَجُلٌ يُؤْتَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُقَالُ: اعْرِضُوا عَلَيْهِ صِغَارَ ذُنُوبِهِ، وَارْفَعُوا عَنْهُ كِبَارَهَا، فَتُعْرَضُ عَلَيْهِ صِغَارُ ذُنُوبِهِ، فَيُقَالُ: عَمِلْتَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا، وَعَمِلْتَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: نَعَمْ، لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنْكِرَ وَهُوَ مُشْفِقٌ مِنْ كِبَارِ ذُنُوبِهِ أَنْ تُعْرَضَ عَلَيْهِ، فَيُقَالُ لَهُ: فَإِنَّ لَكَ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً، فَيَقُولُ: رَبِّ، قَدْ عَمِلْتُ أَشْيَاءَ لَا أَرَاهَا هَا هُنَا 

فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ " رواه مسلم (190).

قال ابن رجب رحمه الله تعالى:

"... وقالت طائفة: لا تمحى الذنوب من صحائف الأعمال بتوبة ولا غيرها، بل لابد أن يوقف عليها صاحبها، ويقرأها يوم القيامة. واستدلوا بقوله تعالى: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا).

وفي الاستدلال بهذه الآية نظر، لأنه إنما ذكر فيها حال المجرمين، وهم أهل الجرائم والذنوب العظيمة، فلا يدخل فيهم المؤمنون التائبون من ذنوبهم، أو المغمورة ذنوبهم بحسناتهم.

وأظهر من هذا: الاستدلالُ بقوله: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ).

وقد ذكر بعض المفسرين أن هذا القول هو الصحيح عند المحققين... 

وأهل هذا القول: قد يحملون أحاديث محو السيئات بالحسنات، على محو عقوباتها، دون محو كتابتها من الصحف. والله أعلم." انتهى من"جامع العلوم والحكم" (1 / 452 – 454).

رابعا:

التائب عليه أن يسعى لصلاح قلبه 

وأما صلاح القلب، والخشوع في الصلاة، فهذا من التكاليف التي يخاطب بها التائب، أن يسعى مستعينا بالله تعالى في إصلاح قلبه بالعلم والعمل، وفي أن يخشع في صلاته.

خامسا:

هل كل من تاب سيدخل الفردوس الأعلى؟

وأما دخول الفردوس الأعلى؛ فهذا ليس بلازم، لأن المسلمين يتفاوتون في الدرجات بتفاوتهم في الإيمان والأعمال. 

والتائبون ليسوا على درجة واحدة، فإيمان التائبين متفاوت، فمنهم الظالم لنفسه الذي يتوب مما يستعظم من الخطايا والذنوب ويتساهل في أخرى يراها صغيرة. 

ومنهم المقتصد الذي يسعى في التوبة من كل الذنوب، لكن يقتصر على أداء العبادات الواجبة، ولا يفعل المستحبات. 

ومنهم السابق بالخيرات الذي يجعل توبته منطلقا للمسابقة في الطاعات واستغلال اللحظات، والاشتغال بالأهم فالأهم.

قال القرطبي رحمه الله تعالى:

"روى مسلم عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم، كما تتراءون الكوكب الدري الغائر في الأفق من المشرق أو المغرب، لتفاضل ما بينهم، قالوا: يا رسول الله ! تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟ قال: بلى والذي نفسي بيده، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين)...

وقوله: (والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين) ولم يذكر عملاً ولا شيئاً سوى الإيمان والتصديق للمرسلين، وذلك ليعلم أنه عنى الإيمان البالغ، وتصديق المرسلين من غير سؤال آية ولا تلجلج، وإلا فكيف تُنال الغرفات بالإيمان والتصديق الذي للعامة، ولو كان كذلك كان جميع الموحدين في أعالي الدرجات وأرفع الغرفات، وهذا محال، وقد قال الله تعالى: (أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا) ؛ والصبر: بذل النفس، والثبات له، وقوفاً بين يديه بالقلوب عبودية، وهذه صفة المقربين...

فلا يكون العمل الصالح الذي لا يشوبه فساد، إلا مع إيمان بالغ، مطمئن صاحبه بمن آمن وبجميع أموره وأحكامه، والمخلط ليس إيمانه وعمله هكذا ؛ فلهذا كانت منزلته دون غيره " انتهى من"التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة." (ص 963 - 966).

والله تعالى قد بيّن صفات سكان الفردوس، نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم منها، حيث قال سبحانه وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا  الكهف/107 - 108.

وقال تعالى:قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ  المؤمنون/1 - 11.

قال الشيخ المفسر محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى:

"ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن المؤمنين المتصفين بالصفات التي قدمنا: هم الوارثون، وحذف مفعول اسم الفاعل، الذي هو الوارثون؛ لدلالة قوله: (الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ) عليه. والفردوس: أعلى الجنة، وأوسطها، ومنه تفجر أنهار الجنة، وفوقه عرش الرحمن جل وعلا." انتهى من"أضواء البيان" (5 / 848).

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب