الحمد لله.
أولا:
بيان درجة الأحاديث الواردة في السؤال
أمّا حديث: " كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدَحٌ مِنْ عِيدَانٍ تَحْتَ سَرِيرِهِ، يَبُولُ فِيهِ بِاللَّيْلِ" .
رواه أبو داود (24)، والنسائي (32 )، والحاكم في "المستدرك" (1 / 167)، بأسانيدهم عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ حُكَيْمَةَ بِنْتِ أُمَيْمَةَ بِنْتِ رُقَيْقَةَ، عَنْ أُمِّهَا.
وقال الحاكم:
" هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَسُنَّةٌ غَرِيبَةٌ. وَأُمَيْمَةُ بِنْتُ رُقَيْقَةَ صَحَابِيَّةٌ مَشْهُورَةٌ مُخَرَّجٌ حَدِيثُهَا فِي الْوُحْدَانِ لِلْأَئِمَّةِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ"، ووافقه الذهبي.
لكن الذهبي في موضع آخر حكم على راويته بالجهالة، حيث قال رحمه الله تعالى:
" حكيمة بنت أميمة، بنت رقيقة، عن أمها، كان للنبي صلى الله عليه وسلم قدح يبول فيه من الليل، فهي غير معروفة.
روى عنها هذا ابن جريج بصيغة عن " انتهى من"ميزان الاعتدال" (1 / 587).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
" حكيمة بنت أميمة لا تعرف " انتهى من"تقريب التهذيب" (ص 745).
ووجود مجهول في السند يضعّفه ، ويجعل الحديث لا يرقى إلى درجة القبول .
وينظر للفائدة: "بيان الوهم والإيهام"، لابن القطان (5/513-514).
وأما حديث عَائِشَةَ، قَالَتْ: " لَقَدْ نَزَلَتْ آيَةُ الرَّجْمِ، وَرَضَاعَةُ الْكَبِيرِ عَشْرًا، وَلَقَدْ كَانَ فِي صَحِيفَةٍ تَحْتَ سَرِيرِي، فَلَمَّا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَشَاغَلْنَا بِمَوْتِهِ، دَخَلَ دَاجِنٌ فَأَكَلَهَا ".
فرواه ابن ماجه (1944) والإمام أحمد في "المسند" (43 / 342) من حديث مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ.
فهذا الحديث تفرد به محمد بن إسحاق، وقد خالف الثقاتِ فيه بهذه الزيادة:
فقد رواه مالك عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ. في "الموطأ" (2 / 608) وعند مسلم (1452).
ورواه يَحْيَى وَهُوَ ابْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرَةَ، أَنَّهَا سَمِعَتْ عَائِشَةَ. كما عند مسلم (1452).
وحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ. كما عند ابن ماجه (1942).
كلهم رووه من غير جملة: " وَلَقَدْ كَانَ فِي صَحِيفَةٍ تَحْتَ سَرِيرِي، فَلَمَّا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَشَاغَلْنَا بِمَوْتِهِ، دَخَلَ دَاجِنٌ فَأَكَلَهَا".
فهذه الجملة تفرد بروايتها محمد بن إسحاق، وهو مختلف في الاحتجاج به.
قال الذهبي رحمه الله تعالى:
" محمد بن إسحاق بن يسار أبو بكر ويقال أبو عبد الله المطلبي مولاهم المدني الإمام...
كان صدوقا من بحور العلم، وله غرائب في سعة ما روى تستنكر، واختلف في الاحتجاج به، وحديثه حسن " انتهى من "الكاشف" (2 / 156).
فهذه الزيادة في حكم الشاذ، والحديث الصحيح يشترط فيه عدم الشذوذ.
قال الشافعي رحمه الله تعالى:
" ليس الشاذ من الحديث أن يروي الثقة ما لا يرويه غيره، هذا ليس بشاذ، إنما الشاذ أن يروي الثقة حديثا يخالف فيه الناس، هذا الشاذ من الحديث " انتهى من "معرفة علوم الحديث" للحاكم (ص 119).
ولذا قال محققو المسند: " إسناده ضعيف لتفرد ابن إسحاق - وهو محمد - وفي متنه نكارة " انتهى.
ولمزيد الفائدة طالع جواب السؤال رقم : (175355).
ثانيا:
الجواب عن الإشكال المتوهم في الأحاديث الواردة في السؤال
وعلى القول بأن هذين الحديثين في مرتبة الحسن، كما رجح ذلك بعض أهل العلم.
فليس فيهما ما يستشكل بحمد الله تعالى.
لأنه لم تكن يومئذ بيوت الخلاء في الدور، ولهذا كانت النساء تخرج إلى خارج البيوت بعيدا عن الناس لقضاء الحاجة، كما في حديث عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "... فَخَرَجْتُ مَعَ أُمِّ مِسْطَحٍ قِبَلَ المَنَاصِعِ، وَكَانَ مُتَبَرَّزَنَا، وَكُنَّا لاَ نَخْرُجُ إِلَّا لَيْلًا إِلَى لَيْلٍ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ نَتَّخِذَ الكُنُفَ قَرِيبًا مِنْ بُيُوتِنَا، قَالَتْ: وَأَمْرُنَا أَمْرُ العَرَبِ الأُوَلِ فِي البَرِّيَّةِ قِبَلَ الغَائِطِ، وَكُنَّا نَتَأَذَّى بِالكُنُفِ أَنْ نَتَّخِذَهَا عِنْدَ بُيُوتِنَا..." رواه البخاري (4141)، ومسلم (2770).
فاتخاذ هذا القدح كان للحاجة الماسة إذا استيقظ في الليل للصلاة، كما تشير إليه عبارة: " يَبُولُ فِيهِ بِاللَّيْلِ".
ولا يتركه طويلا في البيت كما يشير إلى هذا حديث إِسْحَاق بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْبَغَوِيِّ قَالَ: أخبرنا يَحْيَى بْنُ عَبَّادٍ أَبُو عَبَّادٍ قَالَ: أخبرنا يُونُسُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ بَكْرِ بْنِ مَاعِزٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ يُحَدِّثُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا يُنْقَعُ بَوْلٌ فِي طَسْتِ فِي الْبَيْتِ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ بَوْلٌ يُنْقَعُ، وَلَا تَبُولَنَّ فِي مُغْتَسَلِكَ رواه الطبراني في "الأوسط" (2 / 312).
قال المناوي رحمه الله تعالى:
" قال الولي العراقي: جيد.
المراد بإنقاعه طول مكثه وما في الإناء لا يطول مكثه بل تريقه الخدم عن قرب ثم يعاد تحت السرير لما يحدث...
وأُخذ من تخصيص (البول): أنه كان لا يفعل الغائط فيه. و(الليل): أنه كان لا يبول فيه نهارا " انتهى من "فيض القدير" (5 / 177).
لكن هذا الأمر لم يستمر بعد أن بنيت بيوت الخلاء في الدور، فاستغني عن هذا القدح، فكان يدخل إلى الخلاء.
كما في حديث ابْنِ عَبَّاسٍ: " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ الخَلاَءَ، فَوَضَعْتُ لَهُ وَضُوءًا قَالَ: مَنْ وَضَعَ هَذَا؟ فَأُخْبِرَ. فَقَالَ: اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ رواه البخاري (143)، ومسلم (2477).
وهذا كان في داره صلى الله عليه وسلم عند زوجته ميمونة رضي الله عنها خالة ابن عباس، كما تشير إليه وتزيده بيانا رواية الإمام أحمد في "المسند" (5 / 215) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: " كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ، فَوَضَعْتُ لَهُ وَضُوءًا مِنَ اللَّيْلِ، فَقَالَتْ لَهُ مَيْمُونَةُ: وَضَعَ لَكَ هَذَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ. فَقَالَ: اللهُمَّ فَقِّهُّ فِي الدِّينِ، وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ".
قال المناوي رحمه الله تعالى:
" والظاهر كما قاله الولي العراقي أن هذا كان قبل اتخاذ الكنف في البيوت، فإنه لا يمكنه التباعد بالليل للمشقة، أما بعد اتخاذها فكان يقضي حاجته فيها ليلا ونهارا " انتهى من "فيض القدير" (5 / 177).
وعلى هذا ؛ فوضع عائشة رضي الله عنها للصحيفة تحت السرير، كان في آخر حياته صلى الله عليه وسلم، وقصة القدح قبل ذلك.
ثالثا:
أصحاب القلوب المريضة يعرضون عن النصوص الشرعية الثابتة ويتبعون المتشابه
على أية حال؛ فليس في شيء من الروايات، ولا يمكن لهذا الطاعن أن يقول: قد كان وضع الصحيفة، وضع القدح: في وقت واحد، ومكان واحد؛ ودون ذلك خرط القتاد !!
فما يردده هذا الشخص وأمثاله، هو دليل على ضلالهم وعدوانهم، حيث يتركون ويعرضون عن الأحاديث الصحيحة الثابتة الصريحة الدلالة على أهمية النظافة والطهارة في النفس والجسد واللباس والمسكن، ويعرضون عما اشتهر من تميز دين الإسلام بالطهارة، ويتشبثون بأحاديث مختلف في صحتها، ومشتبهة المعنى، فاتبعوا سبيل إخوانهم من المنافقين ومرضى القلوب الذين وصف حالهم قول الله تعالى:
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ آل عمران /7.
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: " تَلاَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الآيَةَ: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ، مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ، وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ...
قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِذَا رَأَيْتِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكِ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ " رواه البخاري (4547).
فعلى المسلم أن يحذر طريق أهل الضلال، وليلتزم بما أرشد إليه الوحي ومضى عليه المؤمنون من تفسير النصوص المتشابهة، بما يتوافق مع النصوص المحكمة الواضحة.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" وأما طريقة الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، كالشافعي والإمام أحمد ومالك وأبي حنيفة وأبي يوسف والبخاري وإسحاق، فهي أنهم يردُّون المتشابه إلى المحكم، ويأخذون من المحكم ما يُفسِّر لهم المتشابه ويبينه لهم، فتتفق دلالته مع دلالة المحكم، وتوافق النصوص بعضُها بعضًا، ويصدُّق بعضُها بعضًا، فإنَّها كلها من عند اللَّه، وما كان من عند اللَّه فلا اختلاف فيه ولا تناقض، وإنما الاختلاف والتناقض فيما كان من عند غيره " انتهى من"أعلام الموقعين" (4 / 58).
والله أعلم.
تعليق