الحمد لله.
قد حصل لجمع من أهل الصلاح والدين المجتهدين: أن هجموا على أمور على خلاف ماجرت به سنة الله في الخلق، كان دافعها حاجة ملحة، وغايتها تحقيق ما يرضي الله تعالى من نصرة الدين، أو تحقيق مصلحة مهمة.
فيلاحظ في هذه الحوادث أن أصحابها وثقوا بتدبير الله تعالى، وركنوا إلى محض التوكل عليه سبحانه وتعالى، لأمور:
الأمر الأول: أنهم باشروا هذه الأمور بعد استفراغ وسعهم في تحقيق ما أمروا به من أسباب شرعية واجبة أو مستحبة، فتلبسوا بأوصاف أولياء الله تعالى، كما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ رواه البخاري (6502).
الأمر الثاني: حاجتهم إلى هذا التصرف، وليس من باب التشهي.
الأمر الثالث: أن هذا – في الغالب- كان في مقام نصرة دين الله تعالى، فهؤلاء الأعلام توكلوا على الله تعالى، ووثقوا به، واستحضروا قوله تعالى: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الحج/40، وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ محمد/7.
الأمر الرابع: أنه أمر يهجم على قلوبهم، من غير تعرض له وبحث عنه، ويقدمون عليه بعد تبصر واستخارة، فلهم من البصيرة والعلم ما يميزون به بين الخواطر الصالحة وبين وساوس الشيطان وحديث النفس.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
"… وأنا قد استخرت الله سبحانه أنهم إن دخلوا النار، أدخل أنا وهم، ومن احترق منا ومنهم فعليه لعنة الله، وكان مغلوبا، وذلك بعد أن نغسل جسومنا بالخل والماء الحار.
فقال الأمير ولم ذاك؟ قلت: لأنهم يطلون جسومهم بأدوية يصنعونها من دهن الضفادع، وباطن قشر النارنج، وحجر الطلق وغير ذلك من الحيل المعروفة لهم، وأنا لا أطلي جلدي بشيء، فإذا اغتسلت أنا وهم بالخل والماء الحار، بطلت الحيلة وظهر الحق.
فاستعظم الأمير هجومي على النار، وقال: أتفعل ذلك؟ فقلت له: نعم! قد استخرت الله في ذلك، وألقى في قلبي أن أفعله، ونحن لا نرى هذا وأمثاله ابتداء؛ فإن خوارق العادات إنما تكون لأمة محمد صلى الله عليه وسلم المتبعين له باطنا وظاهرا لحجة أو حاجة، فالحجة لإقامة دين الله، والحاجة لما لا بد منه من النصر والرزق الذي به يقوم دين الله، وهؤلاء إذا أظهروا ما يسمونه إشاراتهم وبراهينهم، التي يزعمون أنها تبطل دين الله وشرعه؛ وجب علينا أن ننصر الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم ونقوم في نصر دين الله وشريعته بما نقدر عليه من أرواحنا وجسومنا وأموالنا، فلنا حينئذ أن نعارض ما يظهرونه من هذه المخاريق، بما يؤيدنا الله به من الآيات. وليعلم أن هذا مثل معارضة موسى للسحرة لما أظهروا سحرهم أيد الله موسى بالعصا التي ابتلعت سحرهم " انتهى من"مجموع الفتاوى" (11 / 459 – 460).
فتأمل قوله: "ونحن لا نرى هذا وأمثاله ابتداء"؛ فإنه يدل على أن هؤلاء الأئمة اضطروا إلى سلوك هذا المسلك، وما يشبهه، لما فيه من نصرة الله تعالى، فكافأهم الله تعالى، وحقق لهم ما أردوا من نصرة دينه.
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى:
"نعم، قد تعرض للصادق أحيانا قوة ثقة بالله، وحال مع الله، تحمله على ترك كل سبب مفروض عليه، كما تحمله على إلقاء نفسه في مواضع الهلكة، ويكون ذلك الوقت بالله، لا به، فيأتيه مدد من الله على مقتضى حاله.
ولكن لا تدوم له هذه الحال، وليست من مقتضى الطبيعة، فإنها كانت هجمة هجمت عليه بلا استدعاء، فحُمل عليها، فإذا استدعى مثلها، وتكلفها: لم يُجب إلى ذلك...
وكل تلك الحكايات الصحيحة التي تحكى عن القوم فهي جزئية حصلت لهم أحيانا، ليست طريقا مأمورا بسلوكها، ولا مقدورة" انتهى من"مدارج السالكين" (3 / 1791).
وينظر للفائدة جواب السؤال رقم (282295) ورقم: (12778).
والله أعلم.
تعليق