الحمد لله.
أولا:
هذا الحديث رواه الإمام أحمد في "المسند" (5 /178-181) وغيره، عن أَبي بَلْجٍ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ، قَالَ: "إِنِّي لَجَالِسٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، إِذْ أتَاهُ تِسْعَةُ رَهْطٍ، فَقَالُوا: يَا أَبَا عَبَّاسٍ، إِمَّا أَنْ تَقُومَ مَعَنَا، وَإِمَّا أَنْ يُخْلُونَا هَؤُلَاءِ، قَالَ: فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَلْ أقُومُ مَعَكُمْ، قَالَ: وَهُوَ يَوْمَئِذٍ صَحِيحٌ قَبْلَ أَنْ يَعْمَى، قَالَ: فَابْتَدَءُوا فَتَحَدَّثُوا، فَلَا نَدْرِي مَا قَالُوا، قَالَ: فَجَاءَ يَنْفُضُ ثَوْبَهُ، وَيَقُولُ: أُفْ وَتُفْ، وَقَعُوا فِي رَجُلٍ لَهُ عَشْرٌ، وَقَعُوا فِي رَجُلٍ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَأَبْعَثَنَّ رَجُلًا لَا يُخْزِيهِ اللهُ أَبَدًا، يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ ...
قَالَ: وَخَرَجَ بِالنَّاسِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، قَالَ: فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: أَخْرُجُ مَعَكَ؟ قَالَ: فَقَالَ لَهُ نَبِيُّ اللهِ: (لَا) فَبَكَى عَلِيٌّ، فَقَالَ لَهُ: أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى، إِلَّا أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيٍّ، إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ أَذْهَبَ إِلَّا وَأَنْتَ خَلِيفَتِي ... .
وهذا الإسناد مختلف فيه ؛ فقواه بعض أهل العلم، ومنهم الشيخ الألباني حيث حسّنه كما في "ظلال الجنة" (2/565).
ومن أهل العلم من ضعفه، بسبب راويه أَبي بَلْجٍ. فمن أهل الحديث من رأى أنه قد صدرت منه أخطاء في الرواية تنزله عن مرتبة الاحتجاج بحديثه إذا تفرّد به ولم يشاركه غيره في روايته.
قال ابن حبان رحمه الله تعالى:
" يحيى بن أبي سليم أبو بلج الفزاري من أهل الكوفة، وقد قيل إنه واسطي، يروي عن محمد بن حاطب وعمرو بن ميمون، روى عنه شعبة وهشيم؛ كان ممن يخطئ، لم يفحش خطؤه حتى استحق الترك، ولا أتى منه ما لا ينفك البشر عنه فيسلك به مسلك العدول، فأرى أن لا يحتج بما انفرد من الرواية " انتهى من"المجروحين"(3/113).
وقوله : "ولا أتي منه": معناه، ولم يتقصر من الخطأ على هذا القدر الذي لا يخلو منه البشر.
ومما تفرّد به هذا الراوي جملة: (وأنت خليفتي في كلِّ مؤمنٍ مِن بعدي)، وقد جمع معها في متن واحد عبارة: (وَقَالَ: وسَدَّ أَبْوَابَ الْمَسْجِدِ غَيْرَ بَابِ عَلِيٍّ).
وقد حُكِم عليها بالنكارة والضعف.
قال الذهبي رحمه الله تعالى:
" يحيى بن سليم، أو ابن أبي سليم.
أبو بلج الفزاري الواسطي.
عن عمرو بن ميمون الأودى...
وثقه ابن معين، وغيره، ومحمد بن سعد، والنسائي، والدارقطني.
وقال أبو حاتم: صالح الحديث، لا بأس به.
وقال يزيد بن هارون: رأيته كان يذكر الله كثيرا.
وقال البخاري: فيه نظر.
وقال أحمد: روى حديثا منكرا.
وقال ابن حبان: كان يخطئ.
وقال الجوزجاني: غير ثقة...
ومن مناكيره: عن عمرو بن ميمون، عن ابن عباس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بسد الابواب إلا باب على رضي الله عنه) " انتهى من"ميزان الاعتدال" (4/384).
وعبارة: (إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ أَذْهَبَ إِلَّا وَأَنْتَ خَلِيفَتِي)، لها نفس الحال؛ فقد تفرد بها هذا الراوي مع مخالفتها لوقائع السيرة النبوية الثابتة، فلم يستخلف النبي صلى الله عليه وسلم عليّا رضي الله عنه دوما، بل كان يستخلف ويؤمر غيره أيضا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" قوله: (لا ينبغي أن أذهب إلا وأنت خليفتي): فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذهب غير مرة، وخليفته على المدينة غير علي، كما اعتمر عمرة الحديبية وعلي معه وخليفته غيره، وغزا بعد ذلك خيبر ومعه علي وخليفته بالمدينة غيره، وغزا غزوة الفتح وعلي معه وخليفته في المدينة غيره، وغزا حنينا والطائف وعلي معه وخليفته بالمدينة غيره، وحج حجة الوداع وعلي معه وخليفته بالمدينة غيره، وغزا غزوة بدر ومعه علي وخليفته بالمدينة غيره.
وكل هذا معلوم بالأسانيد الصحيحة، وباتفاق أهل العلم بالحديث، وكان علي معه في غالب الغزوات وإن لم يكن فيها قتال " انتهى من "منهاج السنة" (5 /34–35).
ثانيا:
أما الشطر الأول: أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى، إِلَّا أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيٍّ .
فهو ثابت ، فروى البخاري (4416)، ومسلم (2404) عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إِلَى تَبُوكَ، وَاسْتَخْلَفَ عَلِيًّا، فَقَالَ: أَتُخَلِّفُنِي فِي الصِّبْيَانِ وَالنِّسَاءِ؟ قَالَ: أَلاَ تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى، إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ نَبِيٌّ بَعْدِي .
لكن لا يصح الاستدلال به على أحقية علي رضي الله عنه بالخلافة بدلا من أبي بكر رضي الله عنه؛ وذلك من وجوه عدة:
الوجه الأول:
أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخاطب بهذا الصحابة رضي الله عنهم ابتداء، للسمع لعلي والطاعة له بعد وفاته صلى الله عليه وسلم؛ وإنما خاطب به عليّا تطييبا لخاطره، لما خلّفه على النساء والأطفال في المدينة في غزوة تبوك التي خرج فيها جميع الصحابة، ولم يتخلف إلا ثلاثة، وأصحاب الأعذار والمنافقون.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" لما كان عام تبوك لم يأذن لأحد من المؤمنين القادرين في التخلف، فلم يتخلف أحد بلا عذرٍ إلا عاص لله ورسوله، فكان ذلك استخلافا ضعيفا، فطعن فيه المنافقون بهذا السبب، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أني لم استخلفك لنقص قدرك عندي؛ فإن موسى استخلف هارون وهو شريكه في الرسالة، أفما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، فتخلفني في أهلي كما خلف هارون أخاه موسى. ومعلوم أنه استخلف غيره قبله، وكان أولئك منه بهذه المنزلة، فلم يكن هذا من خصائصه.
ولو كان هذا الاستخلاف أفضل من غيره، لم يخف ذلك على علي رضي الله عنه، ولم يخرج إليه وهو يبكي ويقول: (أتخلفني في النساء والصبيان).
ومما بين ذلك أنه بعد هذا الاستخلاف أمّر عليه أبا بكر عام تسع.
فإن هذا الاستخلاف كان في غزوة تبوك في أوائلها، فلما رجع من الغزو وأمّر أبا بكر على الحج، ثم أردفه بعلي، فلما لحقه قال: (أميرٌ أو مأمور ؟) قال: ( بل مأمور )، فكان أبو بكر يصلي بعلي وغيره، ويتأمّر عَلَى علي، وغيره من الصحابة يُطيعون أبا بكر " انتهى من"فضل الخلفاء الراشدين" ص/41–42.
الوجه الثاني:
قول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بأنه في منزلة هارون في الاستخلاف، لا ينفي هذا أن يكون الذين استخلفهم النبي صلى الله عليه وسلم في أوقات أخرى بنفس هذه المنزلة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" وتخصيصه لعلي بالذكر هنا هو مفهوم اللقب، وهو نوعان: لقب هو جنس، ولقب يجري مجرى العلم، مثل زيد، وأنت، وهذا المفهوم أضعف المفاهيم، ولهذا كان جماهير أهل الأصول والفقه على أنه لا يحتج به، فإذا قال: محمد رسول الله، لم يكن هذا نفيا للرسالة عن غيره...
وأما إذا كان التخصيص لسبب يقتضيه، فلا يحتج به باتفاق الناس.
فهذا من ذلك؛ فإنه إنما خص عليا بالذكر؛ لأنه خرج إليه يبكي، ويشتكي تخليفه مع النساء، والصبيان.
ومن استخلفه سوى علي، لمّا لم يتوهموا أن في الاستخلاف نقصا، لم يحتج أن يخبرهم بمثل هذا الكلام.
والتخصيص بالذكر: إذا كان لسبب يقتضي ذاك، لم يقتض الاختصاص بالحكم، فليس في الحديث دلالة على أن غيره لم يكن منه بمنزلة هارون من موسى، كما أنه لما قال للمضروب الذي نهى عن لعنه: ( دعه؛ فإنه يحب الله ورسوله )، لم يكن هذا دليلا على أن غيره لا يحب الله ورسوله، بل ذكر ذلك لأجل الحاجة إليه لينهى بذلك عن لعنه.
ولما استأذنه عمر رضي الله عنه في قتل حاطب بن أبي بلتعة قال: ( دعه فإنه قد شهد بدرا )، ولم يدل هذا على أن غيره لم يشهد بدرا، بل ذكر المقتضي لمغفرة ذنبه... " انتهى من"منهاج السنة" (7 /331–332).
الوجه الثالث:
هذا التشبيه بين علي رضي الله عنه وهارون عليه السلام، ليس فيه دلالة أصلا على خلافة علي رضي الله عنه؛ لأن هارون لم يخلف موسى عليه السلام بعد موته.
قال أبو محمد ابن حزم رحمه الله تعالى:
" إلا أن بعض ما يشغبون به – أي الشيعة - أحاديث صحاح نوافقهم على صحتها، منها: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي).
قال أبو محمد: وهذا لا يوجب له فضلا على من سواه، ولا استحقاق الإمامة بعده عليه السلام؛ لأن هارون لم يلِ أمر بني إسرائيل بعد موسى عليهما السلام، وإنما ولي الأمر بعد موسى عليه السلام يوشع بن نون، فتى موسى وصاحبه الذي سافر معه في طلب الخضر عليهما السلام، كما ولي الأمر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم: صاحبه في الغار الذي سافر معه إلى المدينة.
وإذا لم يكن علي نبيا، كما كان هارون نبيا، ولا كان هارون خليفة بعد موت موسى على بني إسرائيل، فقد صح أن كونه رضي الله عنه بمنزلة هارون من موسى؛ إنما هو في القرابة فقط... " انتهى من"الفصل" (4/159).
وقال ابن العربي رحمه الله تعالى:
" إنما استخلفه في حياته على المدينة، كما استخلف موسى هارون في حياته - عند سفره للمناجاة - على بني إسرائيل. وقد اتفق الكل من إخوانهم اليهود على أن موسى مات بعد هارون، فأين الخلافة؟ " انتهى من"العواصم من القواصم" (ص 192).
الوجه الرابع:
استخلاف علي رضي الله عنه لم يكن على الرجال، فقد خرج أعظمهم وأكابرهم مع النبي صلى الله عليه وسلم ، بينما كان استخلاف وتأمير أبي بكر على الرجال، وفي جوانب عدّة من الدين؛ استخلفه في الصلاة، فكان أبو بكر إماما وعلي مأموما أثناء مرضه صلى الله عليه وسلم، وأمرّه في البعوث، وفي الحج، فكان أبو بكر أميرا على الحج، في هذا الجمع العظيم الحاشد، وعليّ في الجمع : مأمور تحت إمرته.
الوجه الخامس:
هذا الحديث حجة على الشيعة أنفسهم؛ لأنهم يزعمون أن عليا رضي الله عنه إمام معصوم لا يصدر منه تقصير ولا خطأ، فلو كان هذا الحديث وصية لعلي بالخلافة؛ لكان علي رضي الله عنه مقصّرا في تحمل الأمانة التي حمّله النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه لم يطالب بالخلافة، بل بايع أبا بكر، ثم عمر، ثم عثمان ولم ينازعهم رضي الله عنه في الخلافة.
قال ابن العربي رحمه الله تعالى:
" لو كان هنالك نص على أبي بكر أو على عليّ، لم يكن بدّ من احتجاج عليّ به، أو يحتج له به غيره من المهاجرين والأنصار " انتهى من" العواصم من القواصم" (ص 192).
والله أعلم.
تعليق