الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 - 22 نوفمبر 2024
العربية

الرزق المكتوب المقدر للإنسان ليس مدعاة للتكاسل عن طلب الرزق والأخذ بالأسباب

362495

تاريخ النشر : 28-02-2022

المشاهدات : 11997

السؤال

اختلطت المفاهيم عندي تجاه موضوع الرزق والنصيب، وما إلى ذلك، فهل الواحد يستسلم لكل شي حوله، ويقول: هذا مقدر، ومكتوب، وهذا نصيبي من الدنيا؟ أم يجب أن يتكلم ويطالب بحقه، حتى لو الناس انتقدت، وغضبت منه؟ ومتى الواحد يقول: إنه ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها، ويستيقن أن ما هو مكتوب له سيأتي له؟

الجواب

الحمد لله.

أولًا :

"الرزق" صفةٌ فعليةٌ ثابتةٌ لله عَزَّ وجَلَّ بالكتاب والسنة، و(الرزَّاق) و(الرَّازق) من أسمائه تعالى.

وقد دل الكتاب والسنة على إثبات هذه الصفة لله تبارك وتعالى ، قال تعالى:  فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالًا طَيِّبًا النحل/114.

وقال: إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ  الذاريات/58.

وقد كتب الله لكل إنسان رزقه، قال عبد الله بن مسعود: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق، قال: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ: إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسَلُ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ، وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ، وَأَجَلِهِ، وَعَمَلِهِ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ. فَوَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، فَيَدْخُلُهَا، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيَدْخُلُهَا .

رواه البخاري (3332)، ومسلم (2643).

ثانيًا :

قد جعل الله لكل شيء قدرًا ، وقد أمر الله بالسعي لطلب الرزق ، قال سبحانه: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ الملك/15.

وقد قال سبحانه لمريم عليها السلام: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا  مريم/ 25.

لقد عُرف الإسلام بأنه يدعو إلى التوكل على الخالق -جل شأنه-، ويوجه القلوب إلى تفويض الأمور إليه في كل حال، وهو إن عد التوكل والتفويض إلى الله في جملة آدابه، لم يهمل النظر في الأسباب، وارتباطها بمسبباتها، فأذن، بل أمر بتعاطي ما دلت العقول والتجارب على أنه مجلبة خير، ونهى عن القرب مما عرف بأنه مجلبة شر، والتوكل والأخذ بالأسباب يلتقيان في نفس واحدة ما شد أحدهما بعضد الآخر: التوكل أدب نفسي يبتغى به رضا الخالق ومعونته، والأخذ بالأسباب عمل يجري على سنن الله في الخليقة، فمن وكل أمره إلى الله، ثم تعاطى أسبابه، وصل إليه من أرشد الطرق، وعاد منه بأحسن العواقب، "موسوعة الأعمال الكاملة" للإمام محمد الخضر حسين: (10/ 1/ 47).

وحاصل ذلك:

أن الأمرين حق، أتى بهما شرع الله، القدر السابق، وكتابة ما للعباد وعليهم . والأمر بالأخذ بالأسباب، وعدم التواني والتواكل على ذلك القدر السابق، ثم أدب الله عباده بذلك: أن يكون طلبهم لرزقهم، وما كتب لهم طلبا جميلا.

عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، فَإِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا وَإِنْ أَبْطَأَ عَنْهَا، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، خُذُوا مَا حَلَّ، وَدَعُوا مَا حَرُمَ رواه ابن ماجه (2144) وصححه الألباني.

وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلى الله عَلَيه وَسَلم: إِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ يُقَرِّبُكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ, وَيُبَاعِدُكُمْ مِنَ النَّارِ, إِلاَّ قَدْ أَمَرْتُكُمْ بِهِ, وَلَيْسَ شَيْءٌ يُقَرِّبُكُمْ مِنَ النَّارِ, وَيُبَاعِدُكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ, إِلاَّ قَدْ نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ, وَإِنَّ الرُّوحَ الأَمِينَ نَفَثَ فِي رُوعِيَ أَنَّهُ لَنْ تَمُوتَ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا, فَاتَّقُوا اللهَ, وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ, وَلاَ يَحْمِلَنَّكُمُ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ أَنْ تَطْلُبُوهُ بِمَعَاصِي اللهِ, فَإِنَّهُ لاَ يُدْرَكُ مَا عِنْدَ اللهِ إِلاَّ بِطَاعَتِهِ رواه ابن أبي شيبة (35473)، والبيهقي في "الشعب" (9891).

يقول العلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي: "وعلى العبدِ أن يفوضَ أمورَه إلى ربه (جلَّ وعلا) ويعلم أن ما أصابَه لم يكن لِيُخْطِئَهُ، وما أخطأه لم يكن لِيُصِيبَهُ.

والتوكلُ على اللَّهِ والتفويضُ عليه لا ينافِي الأسبابَ، فيجبُ على المسلمِ أن يأخذَ بالأسبابِ كما جاء به الشرعُ الكريمُ، ويكون في قرارةِ نفسِه متوكلاً على اللَّهِ، وهذا سيدُ المتوكلينَ (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه) مَرَّ عليكم أنه مع شدةِ توكلِه على الله وثقتِه بالله ، يتسببُ بالمحافظةِ من أعدائِه بأن يَدْخُلَ في غارٍ مظلمٍ في جبلِ ثورٍ، لِيَسُنَّ لأُمَّتِهِ التوكلَ على اللَّهِ والأخذَ بالأسبابِ مع التوكلِ على ضوءِ الشرعِ الكريمِ، وهذا هو الحقُّ الذي لا شَكَّ فيه، فَتَرْكُ الأسبابِ من الضلالِ، والاعتمادُ بالكليةِ عليها من الضلالِ، والحقُّ هو أن يأخذَ الإنسانُ بالأسبابِ حسبَ ما جاء به الشرعُ الكريمُ متوكلاً قلبُه على اللَّهِ، مُفَوِّضًا أمرَه إليه، عَالِمًا بأن ما أَخْطَأَهُ لم يكن لِيُصِيبَهُ، وما أَصَابَهُ لم يكن لِيُخْطِئَهُ كما قال هنا: قُل لَّنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) [التوبة: آية 51] وقد أَوْضَحَ اللَّهُ لنا في سورةِ الحديدِ أن جميعَ المصائبِ وجميعَ الأمورِ لاَ يصيبُ الإنسانَ منها إلا شيءٌ كان مُقَدَّرًا قبل أن يَخْلُقَ الخلقَ، وقبلَ أن توجدَ المصيبةُ، وربُّنا يقولُ لنا في آيةِ الحديدِ الآتيةِ ما معناه: بَيَّنْتُ لكم أن جميعَ الأمورِ كتبتُها وحسمتُها عندي لِتَتَحَصَّلُوا على أَمْرَيْنِ:

أحدُهما: أن لا تَفْرَحُوا بشيءٍ أَتَاكُمْ فإنه آتِيكُمْ لاَ محالةَ، ولا تَحْزَنُوا على شيءٍ فَاتَكُمْ لأنه فائتٌ لا محالةَ، وهذا نَصَّ عليه تعالى بقولِه: مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلاَ فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّنْ قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا أي: أن نَخْلُقَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحديد: آية 22] إنما بَيَّنَّا لكم هذا القَدَرَ السابقَ الأَزَلِيَّ لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ [الحديد: آية 23] لاَ تَحْزَنُوا على شيءٍ فاتكم فهو فائتٌ لا محالةَ؛ لأن اللَّهَ كَتَبَ ذلك وَقَدَّرَهُ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ فهو آتٍ لاَ محالةَ. هذه الآياتُ القرآنيةُ إذا تَأَمَّلَهَا المسلمُ وَتَدَبَّرَ معانيَها فَهِمَ عن اللَّهِ، وَهَانَتْ عليه أمورُ الدنيا فلم تَعْظُمْ في قلبِه، وهذا معنَى قولِه: قُل لَّنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [التوبة: آية 51]" انتهى من"العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير" (5/ 561-563).

والمطالبة بالحق، والسعي في الأرض : كل ذلك من جملة الأخذ بالأسباب، وينبغي على المؤمن أن لا يضيع حقه، وأن يحرص على ما ينفعه، ولكن يطلبه طلبا جميلا؛ يطلبه بما حل ، ويدع ما حرم . وفي الحديث : المؤمن القوي، خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء، فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان رواه مسلم (2664).

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب