الحمد لله.
الأصل في لفظ " قرأ " إذا ورد في لسان الشرع أن يحمل على القراءة المعهودة ، وهي كما قال الأصفهاني في "غريب القرآن" (ص402) :" والقراءة ضم الحروف والكلمات بعضها إلى بعض في الترتيل ".
وهذا هو أصل المعنى وعليه تحمل الأحاديث، إلا إن وردت قرائن تضيف شيئا زائدا على مجرد القراءة والتلاوة .
ومن الأمثلة التي جاء فيها لفظ القراءة ومعناه مجرد القراءة :
ما أخرجه البخاري في "صحيحه" (1978)، ومسلم في "صحيحه" (1159) ، من حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ:( صُمْ مِنَ الشَّهْرِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ) قَالَ: أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ، فَمَا زَالَ حَتَّى قَالَ:( صُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا)، فَقَالَ:( اقْرَأ القُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ) ، قَالَ: إِنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ فَمَا زَالَ ، حَتَّى قَالَ: (فِي ثَلاَثٍ).
وهنا المقصود به مطلق القراءة حتى ختم القرآن .
قال ابن حجر في "فتح الباري" (9/96) :" قَوْلُهُ : ( وَاقْرَأْ فِي كُلِّ سَبْعِ لَيَالٍ مَرَّةً ) ، أَيِ : اخْتِمْ فِي كُلِّ سَبْعٍ" ، وقال ابن الملك في "شرح المصابيح" (2/545) :" اقرأ كلَّ يومٍ وليلةٍ جزءًا من ثلاثين جزءًا حتى تختمَ كلَّ شهرٍ خَتمةً واحدةً ".
ومنها ما أخرجه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (7/209) ، من حديث عَبْدِ اللهِ بن مسعود ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:( مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُحِبَّ اللهَ وَرَسُولَهُ فَلْيَقْرَأْ فِي الْمُصْحَفِ).
والحديث حسنه الشيخ الألباني في "السلسلة الصحيحة" (2342) .
وهذا ظاهر في كونه يقرأ من المصحف .
قال الصنعاني في "التنوير شرح الجامع الصغير" (10/257) :" فإنَّه بنظر حروف كلام الله يزداد قلبه إيمانًا، فيزداد لله ولرسوله حبًّا " انتهى.
ومن الأمثلة التي جاء فيها فضل القراءة ، ولكن عُلم بالقرائن أن الفضل ليس فقط لمجرد القراءة، بل لأمر زائد على مطلق القراءة ما يلي :
ما أخرجه مسلم في "صحيحه" (804) ، من حديث أبي أمامة الباهلي ، قال : قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ:(اقْرَءُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ ، اقْرَءُوا الزَّهْرَاوَيْنِ الْبَقَرَةَ، وَسُورَةَ آلِ عِمْرَانَ، فَإِنَّهُمَا تَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ ، أَوْ كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ، تُحَاجَّانِ عَنْ أَصْحَابِهِمَا، اقْرَءُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ، فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ، وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ، وَلَا تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ).
ففي هذه الرواية ترتيب شفاعة القرآن للعبد على القراءة فقط ، إلا أنه جاءت رواية أخرى تقيد القراءة بالعمل ، وهي رواية النواس بن سمعان أخرجها مسلم في صحيحه (805) ، ولفظها :( يُؤْتَى بِالْقُرْآنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَهْلِهِ الَّذِينَ كَانُوا يَعْمَلُونَ بِهِ ، تَقْدُمُهُ سُورَةُ الْبَقَرَةِ ، وَآلُ عِمْرَانَ » ، وَضَرَبَ لَهُمَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةَ أَمْثَالٍ مَا نَسِيتُهُنَّ بَعْدُ، قَالَ:« كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ، أَوْ ظُلَّتَانِ سَوْدَاوَانِ بَيْنَهُمَا شَرْقٌ، أَوْ كَأَنَّهُمَا حِزْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ ، تُحَاجَّانِ عَنْ صَاحِبِهِمَا).
ولذا قال الطيبي في "شرح المشكاة" (5/1642) :" هذا إعلام بأن من قرأ القرآن ، ولم يعمل به ، ولم يحرم حرامه ، ولا يحلل حلاله ، ولا يعتقد عظمته: لم يكن القرآن شفيعاً له يوم القيامة "انتهى.
ومنها ما أخرجه أحمد في "مسنده" (6799) ، من حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:( يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ: اقْرَأْ ، وَارْقَ ، وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا ، فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَؤُهَا ).
والحديث حسنه الشيخ الألباني في "السلسلة الصحيحة" (2240) .
وصاحب القرآن هنا ، الذي سيقرأ يوم القيامة : ليس من قرأ القرآن فحسب ؛ بل هو خاص بمن حفظه مع العمل .
قال ابن حجر الهيتمي في "الفتاوى الحديثية" (ص113) :" الْخَبَر الْمَذْكُور خاصّ بِمن يحفظه عَن ظهر قلب، لَا بِمن يقْرَأ فِي الْمُصحف، لِأَن مُجَرّد الْقِرَاءَة فِي الْخط لَا يخْتَلف النَّاس فِيهَا ، وَلَا يتفاوتون قلَّة وَكَثْرَة ، وَإِنَّمَا الَّذِي يتفاوتون فِيهِ كَذَلِك هُوَ الْحِفْظ عَن ظهر قلب ، فَلهَذَا تفاوتت مَنَازِلهمْ فِي الْجنَّة بِحَسب تفَاوت حفظهم" انتهى.
ومنها ما أخرجه مسلم في "صحيحه" (673) ، من حديث عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:( يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ ..).
وما أخرجه البخاري في "صحيحه" (4481) ، من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: "قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:" أَقْرَؤُنَا أُبَيٌّ ".
والقراءة هنا ليست مجرد التلاوة بل أمر زائد عليه .
قال القاري في "المرقاة" (3/862) :" وَالْأَظْهَرُ أَنَّ مَعْنَاهُ: أَكْثَرُهُمْ قِرَاءَةً؛ بِمَعْنَى أَحْفَظُهُمْ لِلْقُرْآنِ ، كَمَا وَرَدَ: أَكْثَرُكُمْ قُرْآنًا"انتهى.
وكذلك مصطلح القراء ، لم يكن المقصود به مطلق القراءة ، بل شيء زائد عنه ، وهو الحفظ وكثرة القراءة وفهم القرآن .
فقد أخرج البخاري في "صحيحه" (1300) ، ومسلم في "صحيحه" (677) ، من حديث أنس ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ:" قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهْرًا حِينَ قُتِلَ القُرَّاءُ، فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَزِنَ حُزْنًا قَطُّ أَشَدَّ مِنْهُ".
قال القاري في "مرقاة المفاتيح" (3/959) :" ( يُقَالُ لَهُمْ: الْقُرَّاءُ ) : لِكَثْرَةِ قِرَاءَتِهِمْ وَحِفْظِهِمْ لِلْقُرْآنِ " انتهى.
وأخرج البخاري في "صحيحه" (7286) ، من حديث عبد الله بن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وفيه :"وَكَانَ القُرَّاءُ أَصْحَابَ مَجْلِسِ عُمَرَ وَمُشَاوَرَتِهِ، كُهُولًا كَانُوا أَوْ شُبَّانًا".
قال ابن حجر في "الفتح" (13/258) :" أَيِ الْعُلَمَاءُ الْعُبَّادُ "انتهى.
وقد بوب الإمام البخاري فقال :" بَابُ الْقُرَّاءِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ".
قال ابن حجر في "الفتح" (9/47) معلقا :" أَيِ الَّذِينَ اشْتُهِرُوا بِحِفْظِ الْقُرْآنِ وَالتَّصَدِّي لِتَعْلِيمِهِ ، وَهَذَا اللَّفْظُ كَانَ فِي عُرْفِ السَّلَفِ أَيْضًا لِمَنْ تَفَقَّهَ فِي الْقُرْآنِ " انتهى.
ثانيا:
الحديث الذي أورده السائل فهو حديث صحيح .
أخرجه الترمذي في "سننه" (2910) ، من حديث عبد الله بن مسعود ، قال : قال صلى الله عليه وسلم :(مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لاَ أَقُولُ الْم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلاَمٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ).
والحديث جود إسناده الشيخ الألباني في "السلسلة الصحيحة" (3327) .
والمقصود بالقراءة هنا التلاوة والتلفظ بالقرآن ، وعلى هذا شراح الحديث .
قال المظهري في "المفاتيح في شرح المصابيح" (3/84) :" قوله: "مَنْ قرأَ حَرْفًا من كتابِ الله فلهُ بهِ حسنةٌ " ؛ يعني: من قرأ حرفًا من القرآنِ ، فقد عملَ حسنةَ ، ومَنْ عمل حسنةً ، فله عشرُ أمثالها ، فمن تلفَّظَ بقوله: الم يُحصِّلُ بألِفٍ عشرَ حسنات ، وبلامٍ عشرَ حسنات ، وبميمٍ عشرَ حسنات ، فيكون المجموع ثلاثينَ حسنة ، وعلى هذا القياس جميعُ القرآن" انتهى.
وقال ابن مفلح في "الآداب الشرعية" (2/440) :" وَالْمُرَادُ بِالْحَرْفِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا: حَرْفُ التَّهَجِّي الَّذِي هُوَ جُزْءٌ مِنْ الْكَلِمَةِ ، صَرَّحَ بِهَذَا الْمَعْنَى: الْقَاضِي فِي الْكَلَامِ عَلَى قِرَاءَةِ حَمْزَةَ ، وَذَكَرَ جَمَاعَةٌ فِيمَنْ لَمْ يُحْسِنْ الْفَاتِحَةَ، هَلْ يَقْرَأُ مِنْ غَيْرِهَا بِعَدَدِ الْحُرُوفِ، أَوْ بِعَدَدِ الْآيَات ؟
وَقَدْ قَالَ أَحْمَد فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ : إذَا اخْتَلَفَتْ الْقِرَاءَاتُ، فَكَانَتْ فِي إحْدَاهَا زِيَادَةُ حَرْفٍ؛ أَنَا أَخْتَارُ الزِّيَادَةَ، وَلَا يَتْرُكُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ، مِثْلُ: ( فَأَزَلَّهُمَا / فَأَزَالَهُمَا ) ، ( وَوَصَّى / وَأَوْصَى ) .
قَالَ الْقَاضِي : فَقَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ يَخْتَارُ الزِّيَادَةَ ، لِمَا احْتَجَّ بِهِ مِنْ زِيَادَةِ الثَّوَابِ بِزِيَادَةِ الْحُرُوفِ " انتهى.
وقال ابن الملقن في "التوضيح" (14/99) :" وجعل فيه الحسنة عشر أمثالها والسيئة واحدة ، وتفضل عليهم بأن أعطاهم على تلاوته بكل حرف عشر حسنات كما قال ابن مسعود ، وأسنده مرفوعًا أيضًا " انتهى.
وقال الشوكاني في "تحفة الذاكرين" (ص390) :" والحديث فيه التصريح بأن قارئ القرآن له بكل حرف منه حسنة، والحسنة بعشر أمثالها " انتهى.
ومما يؤيد ذلك ما أخرجه الدارمي في "سننه" (3351) ، من طريق سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله بن مسعود ، قال :" تَعَلَّمُوا هَذَا الْقُرْآنَ ؛ فَإِنَّكُمْ تُؤْجَرُونَ بِتِلَاوَتِهِ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرَ حَسَنَاتٍ، أَمَا إِنِّي لَا أَقُولُ بِ الم ، وَلَكِنْ بِأَلِفٍ ، وَلَامٍ ، وَمِيمٍ ، بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ".
فهنا صرح ابن مسعود رضي الله عنه أن الثواب على التلاوة ، وهو ما قال به شراح السنة كما تقدم .
ومن أراد الاستزادة يمكنه مراجعة الجواب رقم :(232297).
والله أعلم .
تعليق