الحمد لله.
أولا:
قد ثبت بالوحي وبتواتر الأخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقرأ ولا يكتب.
كما قال الله تعالى مبينا صفة النبي صلى الله عليه وسلم:
( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ، صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ) الشورى/52-53.
وقال الله تعالى:( وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ) العنكبوت/48.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" بين سبحانه من حاله ما يعلمه العامة والخاصة، وهو معلوم لجميع قومه الذين شاهدوه، متواتر عند من غاب عنه، وبلغته أخباره من جميع الناس: أنه كان أميا لا يقرأ كتابا، ولا يحفظ كتابا من الكتب، لا المنزلة ولا غيرها، ولا يقرأ شيئا مكتوبا، لا كتابا منزلا ولا غيره، ولا يكتب بيمينه كتابا، ولا ينسخ شيئا من كتب الناس المنزلة ولا غيرها.
ومعلوم أن من يَعلم من غيره: إما أن يأخذ تلقينا وحفظا، وإما أن يأخذ من كتابه، وهو لم يكن يقرأ شيئا من الكتب من حفظه، ولا يقرأ مكتوبا. والذي يأخذ من كتاب غيره: إما أن يقرأه وإما أن ينسخه، وهو لم يكن يقرأ ولا ينسخ " انتهى من"الجواب الصحيح" (5 /338–339).
وما كان يأتيه من وحي من قرآن وسنة، فقد تعهد الله تعالى له بحفظه وجمعه في صدره فلا ينسى، فلم يكن بحاجة إلى الكتابة.
قال الله تعالى:(لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) القيامة/16–19.
وقال الله تعالى:(سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى ، إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى) الأعلى/6–7.
وما كان من أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالكتابة، واتخاذه كُتَّابا يكتبون ما ينزل عليه من الوحي، فليس لأجله صلى الله عليه وسلم، فقد تكفل الله له بالحفظ، فلم يكن بحاجة إلى كتاب ليطالع فيه ويستذكر ما فيه من معلومات.
وإنما هذه الكتابة لأجل الأمة؛ لترجع إليها الأمة عند الحاجة، ولذا عند جمع المصحف في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه رجعوا إلى هذه الصحف.
وكذلك كان صلى الله عليه وسلم يأمر بكتابة رسائله إلى الملوك، للحاجة، ولأهميتها في إقامة الحجة وإيصال الدعوة إليهم.
عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَقُولُ: ( لَمَّا أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى الرُّومِ، قِيلَ لَهُ: إِنَّهُمْ لاَ يَقْرَءُونَ كِتَابًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَخْتُومًا، فَاتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ، فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِهِ فِي يَدِهِ، وَنَقَشَ فِيهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ) رواه البخاري(2938)، ومسلم (2092).
وكان يأمر بكتابة مواثيقه، كاتفاق صلح الحديبية الذي كان بين المسلمين وكفار أهل مكة.
ولم تكن الكتابة إلا مجرد توثيق.
كما روى البخاري عن قصة صلح الحديبية (2731):
"... فَجَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ: هَاتِ اكْتُبْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابًا فَدَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الكَاتِبَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)، قَالَ سُهَيْلٌ: أَمَّا الرَّحْمَنُ، فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا هُوَ وَلَكِنِ اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ كَمَا كُنْتَ تَكْتُبُ، فَقَالَ المُسْلِمُونَ: وَاللَّهِ لاَ نَكْتُبُهَا إِلَّا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ)، ثُمَّ قَالَ: (هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ)، فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَاللَّهِ لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا صَدَدْنَاكَ عَنِ البَيْتِ، وَلاَ قَاتَلْنَاكَ، وَلَكِنِ اكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَاللَّهِ إِنِّي لَرَسُولُ اللَّهِ، وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِي، اكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ... ).
ثانيا:
وأما حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ قَالَ: " خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي يَدِهِ كِتَابَانِ، فَقَالَ: (أَتَدْرُونَ مَا هَذَانِ الكِتَابَانِ؟) فَقُلْنَا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَّا أَنْ تُخْبِرَنَا، فَقَالَ لِلَّذِي فِي يَدِهِ اليُمْنَى: (هَذَا كِتَابٌ مِنْ رَبِّ العَالَمِينَ فِيهِ أَسْمَاءُ أَهْلِ الجَنَّةِ وَأَسْمَاءُ آبَائِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ، ثُمَّ أُجْمِلَ عَلَى آخِرِهِمْ فَلَا يُزَادُ فِيهِمْ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُمْ أَبَدًا، ثُمَّ قَالَ لِلَّذِي فِي شِمَالِهِ: هَذَا كِتَابٌ مِنْ رَبِّ العَالَمِينَ فِيهِ أَسْمَاءُ أَهْلِ النَّارِ وَأَسْمَاءُ آبَائِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ، ثُمَّ أُجْمِلَ عَلَى آخِرِهِمْ فَلَا يُزَادُ فِيهِمْ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُمْ أَبَدًا)، فَقَالَ أَصْحَابُهُ: فَفِيمَ العَمَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ كَانَ أَمْرٌ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ؟ فَقَالَ: (سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، فَإِنَّ صَاحِبَ الجَنَّةِ يُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ وَإِنْ عَمِلَ أَيَّ عَمَلٍ، وَإِنَّ صَاحِبَ النَّارِ يُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ وَإِنْ عَمِلَ أَيَّ عَمَلٍ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدَيْهِ فَنَبَذَهُمَا، ثُمَّ قَالَ: فَرَغَ رَبُّكُمْ مِنَ العِبَادِ فَرِيقٌ فِي الجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ) رواه الترمذي (2141)، وقال: " وَفِي البَابِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ "انتهى.
فقيل إن هذين الكتابين مجرد تمثيل وتوضيح.
قال الشيخ عبد الله الغنيمان رحمه الله تعالى:
" وهذان الكتابان اللذان أخذهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ليسا هما الكتابان اللذان كتب الله فيهما أسماء أهل الجنة وأهل النار، وإنما ذلك تمثيل من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقريب إلى أفهام الناس بأن الله تعالى علم كل شيء مما سيكون وما يصير إليه العباد، وكتبه تأكيدا لعلمه تعالى، فلا يتغير ولا يتبدل " انتهى. "شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري" (2/628).
وقيل: إنهما كتابان، جمع الله تعالى فيهما أسماء أهل الجنة وأهل النار حقيقة. وهذا هو الأقرب والأظهر في الدليل.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
" وإسناده حسن...
وهذا فيه تيسير الجرم الواسع، في الظرف الضيق، وظاهر قوله: ( فنبذهما )، بعد قوله: ( وفي يده كتابان ) : أنهما كانا مرئيين لهم، والله أعلم " انتهى من "فتح الباري" (6/291).
وقال أبو بكر ابن العربي، رحمه الله: " ولو أراد أحد أن يكتب أسماء أهل بلد في قراطيس تسع بيته، ما وسعت فيه، فكيف كفه؟ ولكن كتابة الباري: على ما تقتضيه قدرته .
وخذوا دستورا في كلامه العربي، الذي نظمه لرسوله الأمي، الذي آتاه جوامع الكلم ، وأنزل عليه القرآن معجزا للخلق، فذكر قصة نوح في خمس وعشرين آية، أملينا عليكم فيها خمسمائة مسألة، وذكر قصة موسى في تسعة آية، أملينا عليكم فيها ثمانمائة مسألة، وأفرد ليوسف سورة، أملينا عليكم فيها ألف مسألة. وليس يقدر أحد من الخلق على أن يجمع في قدر ذلك من الحروف، مقدارها من العلوم.
فإذا شاهدتم هذه القدرة في المؤلف بين أظهركم، فماذا تستغربون من أمر فيما غاب عنكم، فقدر نفسك على أن الأقلام أجسام تكتب في الألواح فوق السماوات بصرير، وتصريف، وتقدير، وتصوير، وأن ذلك المكتوب يُنكت في قلوب الملائكة، وينتقل منه إلى قلوبنا، ويثبت بصفته في كل موضع بحسب حاله.
والكل جائز مقدور، والحديث فيه صحيح مأثور." انتهى، من "العواصم من القواصم" (235).
وكونهما كتابين لأسماء أهل الجنة وأسماء أهل النار حقيقة، لا يلزم منه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطالعهما أو يحتفظ بهما، وإنما كانا شيئا أوحي إليه به، وأخبره الله تعالى بمضمونهما، ثم لا نعلم شيئا عن أمرهما بعد ذلك، ولا ورد لهما ذكر في مقام آخر.
والله أعلم.
تعليق