الحمد لله.
الدنيا؛ مشتقة من لفظ "الدنو" وهو القرب.
قال ابن فارس رحمه الله تعالى:
" (دَنَى) أصل واحد يقاس بعضه على بعض، وهو المقاربة. ومن ذلك الدَّنِيُّ، وهو القريب، من: دَنَا يَدْنُو. وسميت الدُّنْيَا لِدُنُوِّهَا " انتهى من"مقاييس اللغة"(2/303).
وقال المرتضى الزبيدي رحمه الله تعالى:
" ( والدَّناوَةُ: القرابة والقربى) . يقال: بينهما دَناوَةٌ، أي قرابة...
(والدُّنْيا) ، بالضّمّ: نقيض الآخرة، سمّيت لدُنُوِّها...
وقال الليث: إنّما سمّيت الدُّنْيا لأنّها دَنَت وتأَخّرت الآخرة " انتهى من"تاج العروس"(38/69).
فالحاصل؛ أن الدنيا هي لفظ يصدق على الحياة قبل الموت فتكون شاملة لكل ما فيها من العالم المشهود لنا، وحيث يعيش الناس حياتهم.
فالدنيا هنا المتاع الذي يحياه الناس، ويدركونه، ويعيشونه على هذه الأرض، وليس الكون كله.وقد ورد في نصوص الوحي ما يراد بـ "الدنيا" متاعها الذي على هذه الأرض، كمثل ماورد في حديث آخر من يدخل الجنة، كما في حديث عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
إِنِّي لَأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا، وَآخِرَ أَهْلِ الجَنَّةِ دُخُولًا، رَجُلٌ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ حَبْوًا، فَيَقُولُ اللَّهُ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الجَنَّةَ، فَيَأْتِيهَا، فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهَا مَلْأَى، فَيَرْجِعُ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ وَجَدْتُهَا مَلْأَى، فَيَقُولُ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الجَنَّةَ، فَيَأْتِيهَا فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهَا مَلْأَى، فَيَرْجِعُ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ وَجَدْتُهَا مَلْأَى، فَيَقُولُ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الجَنَّةَ، فَإِنَّ لَكَ مِثْلَ الدُّنْيَا وَعَشَرَةَ أَمْثَالِهَا - أَوْ: إِنَّ لَكَ مِثْلَ عَشَرَةِ أَمْثَالِ الدُّنْيَا - فَيَقُولُ: تَسْخَرُ مِنِّي - أَوْ: تَضْحَكُ مِنِّي - وَأَنْتَ المَلِكُ.
فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، وَكَانَ يَقُولُ: ذَاكَ أَدْنَى أَهْلِ الجَنَّةِ مَنْزِلَةً
رواه البخاري(6571)، ومسلم(186).
قال ابن هبيرة رحمه الله تعالى:
" في هذا الحديث من الفقه : أن أدنى أهل الجنة منزلة من يجتمع له مثل ملك ملوك الدنيا، في شرقها وغربها وجبالها وأوديتها وأنهارها وأشجارها، ويضاعف ذلك عشرة أضعاف ، وهذا آخر من يخرج من النار، فلا يبقى بعده إلا من يخلد " انتهى من"الإفصاح"(2/51).
وبيان هذا من رواية أخرى عند الإمام مسلم (189) عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، يَرْفَعُهُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: سَأَلَ مُوسَى رَبَّهُ، مَا أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً؟ قَالَ: هُوَ رَجُلٌ يَجِيءُ بَعْدَ مَا أُدْخِلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، فَيُقَالُ لَهُ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ! كَيْفَ؟ وَقَدْ نَزَلَ النَّاسُ مَنَازِلَهُمْ، وَأَخَذُوا أَخَذَاتِهِمْ، فَيُقَالُ لَهُ: أَتَرْضَى أَنْ يَكُونَ لَكَ مِثْلُ مُلْكِ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا؟ فَيَقُولُ: رَضِيتُ، رَبِّ! فَيَقُولُ: لَكَ ذَلِكَ، وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ، فَقَالَ فِي الْخَامِسَةِ: رَضِيتُ، رَبِّ! فَيَقُولُ: هَذَا لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ ....
قال النووي رحمه الله تعالى:
" قوله صلى الله عليه وسلم: (فَيَقُولُ الله تعالى: اذْهَبْ فَادْخُلِ الجَنَّةَ، فَإِنَّ لَكَ مِثْلَ الدُّنْيَا وَعَشَرَةَ أَمْثَالِهَا) وفي الرواية الأخرى: (لَكَ الَّذِي تَمَنَّيْتَ، وَعَشَرَةَ أَضْعَافِ الدُّنْيَا) هاتان الروايتان بمعنى واحد، وإحداهما تفسير الأخرى، فالمراد بالأضعاف: الأمثال؛ فإن المختار عند أهل اللغة أن الضعف المثل.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم في الأخرى في الكتاب: (فيقول الله تعالى: أَيُرْضِيكَ أَنْ أُعْطِيَكَ الدُّنْيَا، وَمِثْلَهَا مَعَهَا)، وفي الرواية الأخرى: (فَيُقَالُ لَهُ: أَتَرْضَى أَنْ يَكُونَ لَكَ مِثْلُ مُلْكِ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا؟ فَيَقُولُ: رَضِيتُ، رَبِّ! فَيَقُولُ: لَكَ ذَلِكَ، وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ، فَقَالَ فِي الْخَامِسَةِ: رَضِيتُ، رَبِّ! فَيَقُولُ: هَذَا لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ )، فهاتان الروايتان لا تخالفان الأوليين؛ فإن المراد بالأولى من هاتين: أن يقال له أولا لك الدنيا ومثلها، ثم يزاد إلى تمام عشرة أمثالها، كما بينه في الرواية الأخيرة، وأما الأخيرة فالمراد بها: أن أحد ملوك الدنيا، لا ينتهي ملكه إلى جميع الأرض، بل يملك بعضا منها، ثم منهم من يكثر البعض الذي يملكه ومنهم من يقل بعضه، فيعطى هذا الرجل مثل أحد ملوك الدنيا خمس مرات، وذلك كله قدر الدنيا كلها، ثم يقال له: لك عشرة أمثال هذا، فيعود معنى هذه الرواية إلى موافقة الروايات المتقدمة، ولله الحمد وهو أعلم " انتهى من"شرح صحيح مسلم" (3 /41–42).
والله أعلم.
تعليق