الحمد لله.
أولًا:
اختلاف القراءات القرآنية، يقع على وجوه:
«أحدها: اختلاف اللفظ، والمعنى واحد.
والثاني: اختلاف اللفظ والمعنى جميعًا مع جواز أن يجتمعا في شيء واحد، لعدم تضادِّ اجتماعهما فيه.
والثالث: اختلاف اللفظ والمعنى مع امتناع جواز أن يجتمعا في شيء واحد، لاستحالة اجتماعهما فيه.
- فأما اختلاف اللفظ والمعنى واحد، فنحو قوله: (السراط) [الفاتحة: 6] بالسين، والصراط بالصاد، والزراط بالزاي. و(أكلها) [البقرة: 265] و(فى الأكل) [الرعد: 4] بإسكان الكاف وبضمِّها، .. وكذلك ما أشبهه، ونحو ذلك البيان والإدغام، والمدِّ والقصر، والفتح والإمالة، وتحقيق الهمز وتخفيفه، وشبهه مما يطلق عليه أنه لغات فقط.
- وأما اختلاف اللفظ والمعنى جميعًا، مع جواز اجتماع القراءتين في شيء واحد من أجل عدم تضادِّ اجتماعهما فيه، فنحو قوله تعالى: (ملك يوم الدين) [الفاتحة: 4] بألف، و(ملك) بغير ألف؛ لأن المراد بهاتين القراءتين جميعًا: هو الله سبحانه وتعالى، وذلك أنه تعالى مالك يوم الدين، وملكه، فقد اجتمع له الوصفان جميعًا، فأخبر الله تعالى بذلك في القراءتين.
وكذا: (بما كانوا يكذبون) [البقرة: 10] بتخفيف الذال وبتشديدها؛ لأن المراد بهاتين القراءتين جميعًا هم المنافقون، وذلك أنهم كانوا يَكذبون في أخبارهم، ويُكذِّبون النبيَّ صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من عند الله تعالى؛ فالأمران جميعًا مجتمعان لهم، فأخبر الله تعالى بذلك عنهم، وأعلمنا أنه معذِّبهم بهما.
وكذا قوله: (وما هو على الغيب بضنين) [التكوير: 24] بالظاء وبضنين وبالضاد؛ لأن المراد بهاتين القراءتين جميعًا هو النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه كان غير ظنين على الغيب، أي: غير متَّهم فيما أخبر به عن الله تعالى، وغير ضنين به، أي: غير بخيل بتعليم ما علمه الله وأنزله إليه، فقد انتفى عنه الأمران جميعا، فأخبر الله تعالى عنه بهما في القراءتين، وكذا ما أشبهه.
- وأما اختلاف اللفظ والمعنى جميعا، مع امتناع اجتماعهما في شيء واحد؛ فكقراءة من قرأ: (لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلَّا ربُّ السَّموات والأرض بصائر) [الإسراء: 102] بضم التاء، وذلك أنه أسند هذا العلم إلى موسى عليه السلام حديثًا منه لفرعون حيث قال: (إنَّ رسولكم الذى أرسل إليكم لمجنون) [الشعراء: 27]، فقال له موسى عليه السلام عند ذلك: (لقد علمتُ ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر) [الإسراء: 102] فأخبر عليه السلام عن نفسه بالعلم بذلك؛ أي ليس بمجنون. وقراءة من قرأ : ( لقد علمتَ ) بفتح التاء، وذلك أنه أسند هذا العلم إلى فرعون، مخاطبة من موسى له بذلك على وجه التقريع والتوبيخ له على شدَّة معاندته للحق وجحوده له بعد علمه، ولذلك أخبر تبارك وتعالى عنه وعن قومه فقال: (فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين* وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوًّا) [النمل: 13، 14] الآية.
وكذلك ما ورد من هذا النوع من اختلاف القراءتين التي لا يصحُّ أن يجتمعا في شيء واحد: هذا سبيله؛ لأن كل قراءة منهما بمنزلة آية قائمة بنفسها، لا يصحُّ أن يجتمع مع آية أخرى تخالفها في شيء واحد؛ لتضادهما وتنافيهما».
انظر: "جامع البيان في القراءات السبع" (1/ 120 -123)، بتصرف.
وقال ابن تيمية: القراءات التي يتغاير فيها المعنى: كلها حق، وكل قراءة منها مع القراءة الأخرى بمنزلة الآية مع الآية، يجب الإيمان بها كلها، واتباع ما تضمنته من المعنى، علمًا وعملًا، لا يجوز ترك موجِب إحداهما لأجل الأخرى، ظنًّا أن ذلك تعارض.
انظر: "مجموع الفتاوى" (13/ 391-392).
ثانيًا:
تنقسم القراءات إلى قسمين من جهة الأصول والفرش:
القسم الأول: الأصول، أي: أصول القراءات، أو أصول القراءة، وهي تعني القواعد المطردة التي تنطبق على كل جزئيات القاعدة، والتي يكثر دورها، وتطرد، ويدخل في حكم الواحد منها الجميع، بحيث إذا ذكر حرف من حروف القرآن الكريم، ولم يقيد يدخل تحته كل ما كان مثله، فالتفخيم للخاء المفتوحة مثلا، يكون مطردًا في كل كلمة ترد في القرآن فيها خاء مفتوحة.
وإنما سميت الأصول أصولًا: لأنها يكثر دورها، ويطرد حكمها على جزئياتها.
والأصول التي يذكرها علماء القراءات هي: الاستعاذة، والبسملة، وسورة أم القرآن، والإدغام الكبير، وهاء الكناية، والمد والقصر، والهمزتان من كلمة، ومن كلمتين، والهمز المفرد، ونقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها، والسكت على الساكن قبل الهمز وغيره، ووقف حمزة وهشام على الهمز، والإدغام الصغير، والكلام في ذال: إذ ودال قد و تاء التأنيث ولام هل وبل وحروف قربت مخارجها، وأحكام النون الساكنة والتنوين، والفتح والإمالة وبين اللفظين، وإمالة هاء التأنيث وما قبلها في الوقف، ومذاهب القراء في الراءات واللامات، والوقف على أواخر الكلم، والوقف على مرسوم الخط، وياءات الإضافة، والياءات الزوائد.
القسم الثاني: الفرش، وهو الكلمات التي يقل دورها وتكرارها، من حروف القراءات المختلف فيها في القرآن الكريم، ولم تطرد، وقد أطلق عليها القراء فرشًا، لانتشارها؛ كأنها انفرشت وتفرقت في السور وانتشرت. ولأنها لما كانت مذكورة في أماكنها من السور، فهي كالمفروشة، فإن الفرش إذا ذكر فيه حرف، فإنه لا يتعدى أول حرف من تلك السورة إلا بدليل أو إشارة أو نحو ذلك، ويبتدئ القراء بذكر الفرش من أول سورة البقرة إلى آخر سورة الناس، وقد سمى بعضهم الفرش فروعًا مقابلة للأصول.
انظر: "مقدمات في علم القراءات" (77).
ويمكن تلخيص الإحصاء للخلاف في الفرش، في النقاط التالية:
1- عدد الكلمات التي قرئت على وجهين: (1315) كلمة.
2- عدد الكلمات التي قرئت على ثلاثة وجوه: (105) كلمات.
3- عدد الكلمات التي قرئت على أربعة وجوه: (24) كلمة.
4- عدد الكلمات التي قرئت على خمسة وجوه: (3) كلمات تكررت إحداهن (11) مرة.
وليس في القرآن الكريم أي كلمة اختلف القراء العشرة في فرشها على ستة وجوه، أو أكثر من ذلك.
وإنما ذكرنا هنا ما كان وجهًا في الفرش دون الأصول، إذ الخلاف في الأصول يمكن ضبطه من خلال قواعده الجامعة، وهو مما يكاد يتكرر في كل كلمة من القرآن الكريم، ولا يترتب عليه أدنى تغير في المعنى الدلالي، ومن غير المجدي أن نتكلف إحصاء ذلك كله.
انظر: "الشامل في القراءات المتواترة"، محمد حبش (170).
والله أعلم.
تعليق