الحمد لله.
لقد خاطب الله تعالى عباده بما يعقلونه من الأدلة على صدق ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وبأسهل الأدلة وأوضحها، بما يكفي لكل عاقل لكي يبصر الحق ويلتزم به.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
"والله سبحانه حاج عباده على ألسن رسله وأنبيائه، فيما أراد تقريرهم به، وإلزامهم إياه، بأقرب الطرق إلى العقل، وأسهلها تناولا، وأقلها تكلفا، وأعظمها غناء ونفعا، وأجلها ثمرة وفائدة، فحججه سبحانه العقلية التي بينها في كتابه: جمعت بين كونها عقلية سمعية ظاهرة ، واضحة، قليلة المقدمات، سهلة الفهم، قريبة التناول، قاطعة للشكوك والشبه، ملزمة للمعاند والجاحد، ولهذا كانت المعارف التي استنبطت منها في القلوب أرسخ، ولعموم الخلق أنفع.
وإذا تتبع المتتبع ما في كتاب الله، مما حاج به عباده في إقامة التوحيد، وإثبات الصفات، وإثبات الرسالة والنبوة، وإثبات المعاد وحشر الأجساد، وطرق إثبات علمه بكل خفي وظاهر وعموم قدرته ومشيئته وتفرده بالملك والتدبير وأنه لا يستحق العبادة سواه، وجد الأمر في ذلك على ما ذكرناه من تصرف المخاطبة منه سبحانه في ذلك على أجلّ وجوه الحجاج، وأسبقها إلى القلوب، وأعظمها ملاءمة للعقول، وأبعدها من الشكوك والشبه، في أوجز لفظ وأبينه وأعذبه وأحسنه وأرشقه وأدله على المراد" انتهى من"الصواعق المرسلة" (2/460).
فمن ظهر له صدق النبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به؛ فاللائق به أن يصدق بكل ما أخبر به من أمور الغيب، فهذا محك الإيمان والتصديق، ولذلك جاء وصف المؤمنين، بأنهم يصدقون بالغيب، كما في قول الله تعالى:
(الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) البقرة/1–3.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى:
" فقال: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) حقيقة الإيمان: هو التصديق التام بما أخبرت به الرسل، المتضمن لانقياد الجوارح، وليس الشأن في الإيمان بالأشياء المشاهدة بالحس، فإنه لا يتميز بها المسلم من الكافر. إنما الشأن في الإيمان بالغيب، الذي لم نره ولم نشاهده، وإنما نؤمن به، لخبر الله وخبر رسوله.
فهذا الإيمان الذي يميز به المسلم من الكافر، لأنه تصديق مجرد لله ورسله. فالمؤمن يؤمن بكل ما أخبر الله به، أو أخبر به رسوله، سواء شاهده، أو لم يشاهده وسواء فهمه وعقله، أو لم يهتد إليه عقله وفهمه. بخلاف الزنادقة والمكذبين بالأمور الغيبية، لأن عقولهم القاصرة المقصرة لم تهتد إليها فكذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ففسدت عقولهم، ومرجت أحلامهم. وزكت عقول المؤمنين المصدقين المهتدين بهدى الله.
ويدخل في الإيمان بالغيب، الإيمان بجميع ما أخبر الله به من الغيوب الماضية والمستقبلة، وأحوال الآخرة، وحقائق أوصاف الله وكيفيتها، وما أخبرت به الرسل من ذلك فيؤمنون بصفات الله ووجودها، ويتيقنونها، وإن لم يفهموا كيفيتها" انتهى من "تفسير السعدي" (ص40–41).
فإذا مرت بالمسلم نصوص عذاب القبر - أو غير ذلك من أمور الغيب التي نجهل أحوالها وتفاصيلها - وراودته الخواطر، كيف يعذب الله عبدا طوال الدنيا وآخر لا يدركه في القبر إلا زمن قليل لكونه خلق في آخر الدنيا؟
فعليه أن يجيبها بما تيقن منه أن الله تعالى هو العدل فلا يظلم أحدا.
قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا) النساء/40.
وقال الله تعالى:(إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) يونس/44.
وقال الله تعالى:(وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) الكهف/49.
وقال الله تعالى:(وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ، ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) الأنفال/50–51.
ويجيبها بأنه سبحانه وتعالى هو العالم بخلقه الحكيم في تدبير أمورهم، وزمن ايجادهم في هذه الدنيا، قال الله تعالى: (وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ ، وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ ، وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) الحجر/23–25.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" الله سبحانه حكيم لا يفعل شيئا عبثا ولا لغير معنى ومصلحة وحكمة، هي الغاية المقصودة بالفعل، بل أفعاله سبحانه صادرة عن حكمة بالغة لأجلها فعل، كما هي ناشئة عن أسباب بها فعل، وقد دل كلامه وكلام رسوله على هذا وهذا في مواضع لا تكاد تحصى، ولا سبيل إلى استيعاب أفرادها ..." انتهى من"شفاء العليل" (ص 190).
فلذا لا يليق بمن يزعم التصديق أن يتشكك في تدبير الله تعالى لشؤون خلقه.
قال الله تعالى: (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) الأنبيا/23.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
"وهو سبحانه خالق كل شيء وربه ومليكه، وله فيما خلقه حكمة بالغة، ونعمة سابغة، ورحمة عامة وخاصة، وهو لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، لا لمجرد قدرته وقهره، بل لكمال علمه وقدرته ورحمته وحكمته" انتهى من "مجموع الفتاوى" (8/79).
وقال ابن أبي العز الحنفي رحمه الله تعالى:
"اعلم أن مبنى العبودية والإيمان بالله وكتبه ورسله، على التسليم وعدم الأسئلة عن تفاصيل الحكمة في الأوامر والنواهي والشرائع. ولهذا لم يحك الله سبحانه عن أمة نبي صدقت بنبيها وآمنت بما جاء به، أنها سألته عن تفاصيل الحكمة فيما أمرها به ونهاها عنه وبلغها عن ربها، ولو فعلت ذلك لما كانت مؤمنة بنبيها، بل انقادت وسلمت وأذعنت، وما عرفت من الحكمة عرفته، وما خفي عنها لم تتوقف في انقيادها وتسليمها على معرفته، ولا جعلت ذلك من شأنها، وكان رسولها أعظم عندها من أن تسأله عن ذلك" انتهى من "شرح الطحاوية" (ص261).
وينظر جواب السؤال (21212)
والله أعلم.
تعليق