الحمد لله.
أولا:
روى الإمام أحمد في "المسند" (7 / 252)، والترمذي (2143): عَنْ عُمَارَةَ بْنِ القَعْقَاعِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا صَاحِبٌ لَنَا، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: " قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: (لَا يُعْدِي شَيْءٌ شَيْئًا).
فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، البَعِيرُ أَجْرَبُ الْحَشَفَةِ نُدْبِنُهُ، فَتَجْرَبُ الْإِبِلُ كُلُّهَا؟
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فَمَنْ أَجْرَبَ الأَوَّلَ؟ لَا عَدْوَى، وَلَا صَفَرَ، خَلَقَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ وَكَتَبَ حَيَاتَهَا وَرِزْقَهَا وَمَصَائِبَهَا).
وفي هذا الإسناد راو مبهم، وهو الراوي عن ابن مسعود، وابهام الراوي لا شك أنه يضعف الإسناد لعدم التحقق من عدالته وضبطه، وهما شرطان لصحة الإسناد.
لكن المتقرر في علم الحديث أن ضعف إسناد لحديث لا يلزم منه ضعف الحديث؛ لأنه قد يكون لهذا الحديث أسانيد أخرى صحيحة أو نصوص أخرى تشهد لصحة متنه.
وهذا الحاصل مع هذا الحديث؛ ولهذا قال محققو المسند:
" حديث صحيح، وهذا إسناد ضعيف لإبهام راويه عن ابن مسعود " انتهى.
فأشاروا إلى أن الحديث صحيح، لكن ليس بمجرد هذا الإسناد.
فقد رواه الإمام أحمد في "المسند" (14 / 85)، بإسناد خال من هذا الرجل المبهم، حيث روى عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ شُبْرُمَةَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( لَا يُعْدِي شَيْءٌ شَيْئًا، لَا يُعْدِي شَيْءٌ شَيْئًا ... ) الحديث.
وهذا الإسناد هو الذي اعتمده الشيخ الألباني في تصحيحه للحديث، حيث قال رحمه الله تعالى، بعد أن ذكره:
" ... عبد الله بن شبرمة عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير عن أبي هريرة مرفوعا.
وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم، وخالفه عمارة بن القعقاع فرواه عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير قال: حدثنا صاحب لنا عن ابن مسعود، قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال .. ، فذكره.
أخرجه الترمذي (2/21)، والطحاوي أيضا وأحمد (1/440)، وتابعه سعيد بن مسروق، فرواه عن عمارة عن أبي زرعة عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
وهذا إسناد صحيح أيضا.
ولعل هذا الرجل الذي لم يسم من أصحابه هو أبو هريرة كما في الرواية الأولى، وعليه فأبو زرعة يروي الحديث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم تارة بدون واسطة، وأخرى عنه عن ابن مسعود رضي الله عنه " انتهى من "السلسلة الصحيحة" (3/143).
ثم قد روي مثل هذا المتن من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بسند متفق عليه، فروى البخاري (5770)، ومسلم (2220): عَنِ ابْن شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لاَ عَدْوَى وَلاَ صَفَرَ، وَلاَ هَامَةَ.
فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَا بَالُ الإِبِلِ، تَكُونُ فِي الرَّمْلِ كَأَنَّهَا الظِّبَاءُ، فَيُخَالِطُهَا البَعِيرُ الأَجْرَبُ فَيُجْرِبُهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَمَنْ أَعْدَى الأَوَّلَ).
والشطر الأخير من الحديث تشهد له نصوص عدة، ومن ذلك حديث عَبْد اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه، قال: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصَّادِقُ المَصْدُوقُ، قَالَ: ( إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ مَلَكًا فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ، وَيُقَالُ لَهُ: اكْتُبْ عَمَلَهُ، وَرِزْقَهُ، وَأَجَلَهُ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ... ) رواه البخاري (3208)، ومسلم (2643).
فالحاصل: أن من نص على تصحيح هذا الحديث لم يعتمد في هذا التصحيح على هذا الإسناد الذي فيه مبهم.
وللفائدة تحسن مطالعة جواب السؤال رقم: (45694)، ورقم: (129598).
والله أعلم.
تعليق