الحمد لله.
روى الإمام أحمد في "المسند" (32 / 520)، قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ زِيَادِ بْنِ عِلَاقَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ قَوْمِي، قَالَ شُعْبَةُ: قَدْ كُنْتُ أَحْفَظُ اسْمَهُ، قَالَ: كُنَّا عَلَى بَابِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ نَنْتَظِرُ الْإِذْنَ عَلَيْهِ، فَسَمِعْتُ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( فَنَاءُ أُمَّتِي بِالطَّعْنِ، وَالطَّاعُونِ. قَالَ: فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا الطَّعْنُ قَدْ عَرَفْنَاهُ، فَمَا الطَّاعُونُ؟ قَالَ: " طَعْنُ أَعْدَائِكُمْ مِنَ الْجِنِّ، فِي كُلٍّ شَهَادَةٌ ).
قَالَ زِيَادٌ: فَلَمْ أَرْضَ بِقَوْلِهِ، فَسَأَلْتُ سَيِّدَ الْحَيِّ، وَكَانَ مَعَهُمْ، فَقَالَ: صَدَقَ، حَدَّثَنَاهُ أَبُو مُوسَى.
قال الشيخ الألباني رحمه الله تعالى:
" ورجاله ثقات رجال الشيخين غير الرجل الذى لم يسم، وقد سمى كما يأتي بيانه.
والحديث قال الهيثمى (2/312): رواه أحمد بأسانيد ورجال بعضها رجال الصحيح... " انتهىمن "إرواء الغليل" (6 / 70 - 71).
وقوله: " وقد سمى كما يأتي بيانه ".
يقصد به رواية الإمام أحمد في "المسند" عقب هذا الحديث (32 / 520 - 521)، حيث قال: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ النَّهْشَلِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ عِلَاقَةَ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ، قَالَ: خَرَجْنَا فِي بِضْعَ عَشْرَةَ مِنْ بَنِي ثَعْلَبَةَ، فَإِذَا نَحْنُ بِأَبِي مُوسَى فَإِذَا هُوَ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( اللهُمَّ اجْعَلْ فَنَاءَ أُمَّتِي فِي الطَّاعُونِ ) فَذَكَرَهُ.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
" وأسامة بن شريك صحابي مشهور، والذي سماه وهو أبو بكر النهشلي من رجال مسلم؛ فالحديث صحيح بهذا الاعتبار، وقد صححه ابن خزيمة والحاكم " انتهى من "فتح الباري" (10/181 – 182).
وقال أيضا:
" هكذا سماه أبو بكر النهشلي. وهو ثقة، أخرج له مسلم. وقد اختلف في اسمه، لكنه مشهور بكنيته. قال أحمد بن حنبل ويحيى بن معين والعجلي: ثقة. وقال أبو حاتم : شيخ صالح يكتب حديثه.
قلت: ولا معارضة بينه وبين رواية من سماه : " يزيد بن الحارث "، لما تقدم في رواية شعبة : أن زياد بن علاقة سمعه من "سيد الحي"، بعد أن سمعه من الأول.
فيحتمل أن يكون الأول هو " يزيد بن الحارث "، وسيد الحي هو " أسامة بن شريك "؛ وهو صحابي معروف أخرج له أصحاب السنن الأربعة ." انتهى. "بذل الماعون" (ص 112).
ونقل في (ص 117) عن شيخه العراقي تصحيحه لهذا الإسناد.
ورواه الإمام أحمد في "المسند" أيضا (32/480)، قال: حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ عِيسَى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بَلْجٍ قَالَ: حَدَّثَنَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، عَنْ أَبِيهِ عَبْدِ اللهِ بْنِ قَيْسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ الطَّاعُونَ فَقَالَ: ( وَخْزٌ مِنْ أَعْدَائِكُمْ مِنَ الْجِنِّ، وَهِيَ شَهَادَةُ الْمُسْلِمِ ).
ورواته ثقات غير أبي بلج الفَزَاري فهو مختلف فيه، قال الذهبي رحمه الله تعالى:
" أبو بلج الفزاري: يحيى بن سليم، أو ابن أبي سليم، عن: أبيه، وعمرو بن ميمون الأودي. وعنه: شعبة، وهشيم. وثقه ابن معين، والدارقطني، وقال أبو حاتم: لا بأس به. وقال البخاري: فيه نظر" انتهى من "الكاشف" (2/414).
ولخص حاله الحافظ ابن حجر بقوله:
" صدوقٌ ربما أخطأ " انتهى من "تقريب التهذيب" (ص 625).
وهو هنا لم ينفرد بهذا المتن، بل هناك من تابعه كما سبق.
فالحاصل: أن للحديث أسانيد يقوي بعضها بعضا.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
" وقد ذكر ابن عدي له – أي لأبي بلج - ترجمة – أي في كتابه "الكامل"، وأورد فيها قول البخاري والجوزجاني، ثم ساق له حديثه عن محمد بن حاطب... وثلاث أحاديث من روايته عن عمرو بن ميمون... ثم قال: وله غير ما ذكرت، وقد روي عنه أجلة الناس مثل شعبة، وهُشيم، وأبي عوانة، ولا بأس بحديثه.
فهذا ابن عدي مع شدة تَقصِّيهِ وتتبّعه لِما أخطأ الثقاتُ فيه، لم يذكر في أفراد أبي بلج حديث أبي موسى، فهو مما أتقنه عنده، ولاسيما وقد وجدنا له متابعا في الرواية المُبْتدَإ بذكرها عن أبي موسى.
فالمتن بهذه الطرق صحيح بلا ريب، والله أعلم " انتهى من "بذل الماعون" (ص 118).
وحديث عائشة رضي الله عنها، رواه الإمام أحمد في "المسند" (42/53): حَدَّثَنَا يَزِيدُ، أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ كَيْسَانَ، وَيَحْيَى بْنُ إِسْحَاقَ، وَعَفَّانُ الْمَعْنَى، وَهَذَا لَفْظُ حَدِيثِ يَزِيدَ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي الْإِسْنَادِ وَالْمَعْنَى، قَالَا: أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ كَيْسَانَ الْعَدَوِيُّ، قَالَ: حَدَّثَتْنَا مُعَاذَةُ بِنْتُ عَبْدِ اللهِ الْعَدَوِيَّةُ، قَالَتْ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ، فَقَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( لَا تَفْنَى أُمَّتِي إِلَّا بِالطَّعْنِ وَالطَّاعُونِ. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا الطَّعْنُ قَدْ عَرَفْنَاهُ، فَمَا الطَّاعُونُ؟ قَالَ: غُدَّةٌ كَغُدَّةِ الْبَعِيرِ، الْمُقِيمُ بِهَا كَالشَّهِيدِ، وَالْفَارُّ مِنْهَا كَالْفَارِّ مِنَ الزَّحْفِ ).
وقال محققو المسند: " إسناده جيد، جعفر بن كيسان من رجال "التعجيل"، وقد سلف الكلام عليه في الرواية (24527) – وفيها: وثقه ابن معين، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، وذكره ابن حبان في الثقات -. وبقية رجال الإسناد ثقات رجال الشيخين، غير يحيى بن إسحاق- وهو السيلحيني- فمن رجال مسلم " انتهى.
فهذا الحديث ذكر صفة الطاعون عند ظهوره في جسم المصاب بأنه غدة، وحديث أبي موسى رضي الله عنه نبه إلى سبب ظهور هذه الغدة.
فلا يظهر تعارض بين الحديثين، والقاعدة عند أهل العلم أنه إذا أمكن الجمع بين النصين، فلا يرد أحدهما.
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى:
" والمقرر في علم الأصول، وعلم الحديث أنه إذا أمكن الجمع بين الحديثين وجب الجمع بينهما إجماعا، ولا يرد غير الأقوى منهما بالأقوى؛ لأنهما صادقان، وليسا بمتعارضين، وإنما أجمع أهل العلم على وجوب الجمع بين الدليلين إن أمكن؛ لأن إعمال الدليلين معا أولى من إلغاء أحدهما، كما لا يخفى" انتهى من"أضواء البيان" (5/161).
وأما ما يوهم من معارضته لما يقول به أهل الطب من أن سبب هذا الوباء هو بسبب جراثيم تنتقل إلى جسد الإنسان.
فلا يظهر أيضا تعارض بين نص الحديث وما يقوله أهل الطب؛ لأن لا مانع أن يكون للشيء سببان: أحدهما حسي ظاهر، وهو هنا ما يقوله أهل الطب من الأسباب المؤدية لهذا المرض أو غيره، والآخر: غيبي مستور عن الحس، لا يعلمه الناس إلا بخبر المعصوم، كما ذكر في هذا الحديث: أن الطاعون وخز من الجن؛ ولا تعارض بين السببين، ولا تزاحم بينهما أيضا .
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" والطواعين خراجات وقروح وأورام رديئة حادثة في المواضع المتقدم ذكرها.
قلت: هذه القروح والأورام والجراحات هي آثار الطاعون وليست نفسه، ولكن الأطباء لما لم تدرك منه إلا الأثر الظاهر، جعلوه نفس الطاعون.
والطاعون يعبر به عن ثلاثة أمور:
أحدها: هذا الأثر الظاهر، وهو الذي ذكره الأطباء.
والثاني: الموت الحادث عنه، وهو المراد بالحديث الصحيح في قوله: ( الطاعون شهادة لكل مسلم ).
والثالث: السبب الفاعل لهذا الداء، وقد ورد في الحديث الصحيح: ( أنه بقية رجز أرسل على بني إسرائيل ) ، وورد فيه: ( أنه وخز الجن )، وجاء أنه دعوة نبي.
وهذه العلل والأسباب ليس عند الأطباء ما يدفعها، كما ليس عندهم ما يدل عليها، والرسل تخبر بالأمور الغائبة، وهذه الآثار التي أدركوها من أمر الطاعون ليس معهم ما ينفي أن تكون بتوسط الأرواح، فإن تأثير الأرواح في الطبيعة وأمراضها وهلاكها: أمر لا ينكره إلا من هو أجهل الناس بالأرواح وتأثيراتها... " انتهى من "زاد المعاد" (4/36).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
" والذي يفترق به الطاعون من الوباء: أصل الطاعون الذي لم يتعرض له الأطباء، ولا أكثر من تكلم في تعريف الطاعون، وهو كونه من طعن الجن.
ولا يخالف ذلك ما قال الأطباء من كون الطاعون ينشأ عن هيجان الدم أو انصبابه؛ لأنه يجوز أن يكون ذلك يحدث عن الطعنة الباطنة، فتحدث منها المادة السمية، ويهيج الدم بسببها أو ينصب.
وإنما لم يتعرض الأطباء لكونه من طعن الجن؛ لأنه أمر لا يدرك بالعقل، وإنما يعرف من الشارع فتكلموا في ذلك على ما اقتضته قواعدهم.
وقال الكلاباذي في "معاني الأخبار": يحتمل أن يكون الطاعون على قسمين: قسم يحصل من غلبة بعض الأخلاط من دم أو صفراء محترقة، أو غير ذلك من غير سبب يكون من الجن.
وقسم يكون من وخز الجن، كما تقع الجراحات من القروح التي تخرج في البدن من غلبة بعض الأخلاط وإن لم يكن هناك طعن، وتقع الجراحات أيضا من طعن الإنس انتهى. " انتهى من "فتح الباري" (10/181).
ولمزيد الفائدة تحسن مطالعة جواب السؤال رقم: (148630).
والله أعلم.
تعليق