الحمد لله.
أولا :
الواجب على المسلم التسليم لأفعال الله وشرعه
الواجب على المؤمن أن يسلم لأفعال الله تعالى وشرعه ، ويعلم أن ما خلفه الله تعالى أو شرعه، ففيه تمام الحكمة والمصلحة .
قال الطحاوي رحمه الله :
قَوْلُهُ: "وَلَا تَثْبُتُ قَدَمُ الْإِسْلَامِ إِلَّا عَلَى ظَهْرِ التَّسْلِيمِ وَالِاسْتِسْلَامِ".
قال ابن أبي العز رحمه الله في شرحه (ص 219) :
"أَيْ : لَا يَثْبُتُ إِسْلَامُ مَنْ لَمْ يُسَلِّمْ لِنُصُوصِ الْوَحْيَيْنِ، وَيَنْقَادُ إِلَيْهَا، وَلَا يَعْتَرِضُ عَلَيْهَا وَلَا يُعَارِضُهَا بِرَأْيِهِ وَمَعْقُولِهِ وَقِيَاسِهِ" انتهى .
وقال أيضا (ص 290) :
"اعلم أن مبنى العبودية والإيمان بالله وكتبه ورسله - على التسليم وعدم الأسئلة عن تفاصيل الحكمة في الأوامر والنواهي والشرائع. ولهذا لم يحك الله سبحانه عن أمة نبي صدقت بنبيها وآمنت بما جاء به؛ أنها سألته عن تفاصيل الحكمة فيما أمرها به ونهاها عنه وبلغها عن ربها، ولو فعلت ذلك لما كانت مؤمنة بنبيها، بل انقادت وسلمت وأذعنت، وما عرفت من الحكمة عرفته، وما خفي عنها لم تتوقف في انقيادها وتسليمها على معرفته، ولا جعلت ذلك من شأنها، وكان رسولها أعظم عندها من أن تسأله عن ذلك، كما في الإنجيل: "يا بني إسرائيل لا تقولوا: لم أمر ربنا ؟ ولكن قولوا: بم أمر ربنا"؛ ولهذا كان سلف هذه الأمة -التي هي أكمل الأمم عقولا ومعارف وعلوما - لا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم : لم أمر الله بكذا ؟ ولم نهى عن كذا ؟ ولم قدر كذا ؟ ولم فعل كذا ؟ لعلمهم أن ذلك مضاد للإيمان والاستسلام، وأن قدم الإسلام لا تثبت إلا على درجة التسليم" انتهى .
ومن أسماء الله تعالى التي يؤمن بها المسلم : "الحكيم"؛ وهو يعني أن الله تعالى موصوف بكمال الحكمة ، وأن له الحكم المطلق الذي لا يعارضه أحد .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في تفسير سورة البقرة ، آية 31 :
"و الحكيم : ذو الحكمة البالغة التي تعجز عن إدراكها عقول العقلاء ، وإن كانت قد تدرك شيئاً منها؛ و"الحكمة" هي وضع الشيء في موضعه اللائق به؛ وتكون في شرع الله، وفي قدر الله.
أما الحكمة في شرعه: فإن جميع الشرائع مطابقة للحكمة في زمانها، ومكانها، وأحوال أممها؛ فما أمر الله بشيء، فقال العقل الصريح: "ليته لم يأمر به"؛ وما نهى عن شيء، فقال: "ليته لم ينهَ عنه"؛ وأما الحكمة في قدره فما من شيء يقدره الله إلا وهو مشتمل على الحكمة إما عامة؛ وإما خاصة..
واعلم أن الحكمة تكون في نفس الشيء: فوقوعه على الوجه الذي حكم الله تعالى به في غاية الحكمة؛ وتكون في الغاية المقصودة منه: فأحكام الله الكونية والشرعية كلها لغايات محمودة، قد تكون معلومة لنا، وقد تكون مجهولة؛ والأمثلة على هذا كثيرة واضحة..
ولـ (الحكيم) معنًى آخر؛ وهو ذو الحكم، والسلطان التام؛ فلا معقب لحكمه" انتهى .
ولذلك مدح الله تعالى نفسه بقوله: لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ الأنبياء/32.
وليس ذلك من أجل كمال سلطانه فقط ، بل أيضا : من أجل كمال حكمته .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
"وَهُوَ سُبْحَانَهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ ، وَلَهُ فِيمَا خَلَقَهُ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ ، وَنِعْمَةٌ سَابِغَةٌ ، وَرَحْمَةٌ عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ ، وَهُوَ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ، لَا لِمُجَرَّدِ قُدْرَتِهِ وَقَهْرِهِ ، بَلْ لِكَمَالِ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَحِكْمَتِهِ. فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ ، وَأَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ، وَهُوَ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا ، وَقَدْ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ" انتهى من "مجموع الفتاوى" (8/79).
وقال ابن القيم رحمه الله :
"وأنه تعالى هو الغني الحميد العليم الحكيم ، فمصدر خلقه وأمره وثوابه وعقابه غناه وحمده وعلمه وحكمته ، ليس مصدره مشيئة مجردة وقدرة خالية من الحكمة والرحمة والمصلحة والغايات المحمودة المطلوبة له خلقا وأمرا ، وأنه سبحانه لا يسأل عما يفعل لكمال حكمته ووقوع أفعاله كلها على أحسن الوجوه ، وأتمها على الصواب والسداد ، ومطابقة الحكم ، والعباد يسألون إذ ليست أفعالهم كذلك" انتهى من "مفتاح دار السعادة" (2/79).
ثانيا :
إخبار الله عن عذاب الآخرة للحذر منه
أخبرنا الله تعالى عن عذاب الآخرة ، وأن فيه النار ، لا من أجل أن نتساءل : لماذا النار دون غيرها ؟! وإنما من أجل أن نخشاها، ونتقيها ، وذلك بطاعة الله تعالى ، قال الله تعالى: وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ آل عمران/131.
وهذا النوع من الأسئلة لا فائدة من ورائه ترجى ، لأننا لو افترضنا أن عذاب الآخرة كان بالغرق –مثلا- ولم يكن بالنار ، لجاء من يسأل : لماذا كان العذاب بالغرق ولم يكن بالنار ؟ ولو كان بشيء ثالث ، لجاء من يسأل : لماذا كان العذاب بهذا الشيء الثالث ؟! ... وهكذا ، يدخل المسلم في دوامة من الأسئلة التي لا نهاية لها ، ولا مخرج له من ذلك إلا بأن يؤمن بأن الله تعالى حكيم ، في كل ما خلقه وشرعه .
ويكفي، على وجه الإجمال، أن نقول في أجوبة هذا النوع كله أن يقول العبد ردا لنفسه، وطردا لوسواسه: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ المائدة/1، وأن يقول: إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ الحج/14 .
ثالثا:
عذاب الآخر ليس محصوراً على النار فقط
ثم نقول أيضا هنا، على وجه زيادة التقرير في المسألة: إن هذا السؤال مغلوط (غير صحيح) لأن عذاب الآخرة ليس محصورا في النار فقط !
فقد جمع الله تعالى لأعدائه يوم القيامة ألوانا من العذاب الحسي والمعنوي .
فمن العذاب المعنوي –وهو من أعظم العذاب- أن الله تعالى حجب الكفار عن رؤيته ، فلا يتنعمون بهذا النعيم الذي هو أعظم نعيم أهل الجنة ، قال الله تعالى عن الكفار : كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ المطففين/15.
قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله :
"أعظم عذاب النار: حجابهم عن ربهم عز وجل" انتهى من "رسائل ابن رجب" (3/370).
ومن العذاب المعنوي : أنهم يحرمون من نظر الله إليهم نظر رحمة ، ويحرمون من التلذذ بكلامه الذي فيه تكريمهم وتشريفهم ، وإنما ينظر الله إليهم نظر الغضبان ، ويسمعون كلامه الذي يوبخهم به ، فيزادون حسرة وألما .
قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ آل عمران/77.
وقال تعالى: قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ المؤمنون/108.
ومن العذاب المعنوي : أنهم يحرمون من مصاحبة الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين ، وحسن أولئك رفيقا ، وإنما يصاحبون الأشرار أمثالهم من الكفار والمنافقين ، وبئس الأصحاب .
وأما العذاب الحسي ، فهو مختلف أيضا ، غير قاصر ولا منحصر في التعذيب بحر النار وسمومها .
فمن العذاب الحسي : عذاب النار .
ومن ذلك : الزمهرير ، وهو شدة البرد . قال ابن مسعود رضي الله عنه : الزمهرير لون من العذاب .
وقال ابن عباس : يستغيث أهل النار من الحر ، فيغاثون بريح باردة ، فصَدَع العظامَ بردُها ، فيسألون الحر . ينظر : "التخويف من النار" (4/190) من رسائل ابن رجب .
ومنه : السلاسل والأغلال والمقامع .
قال الله تعالى: وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ الحج/21. والمقامع هي المطارق .
وقال تعالى: إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ غافر/71، 72.
ومنه : أنهم يأكلون من شجرة الزقوم ، ويشربون عليها ماء بلغ النهاية من الحرارة . قال تعالى :
ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لَآَكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ الواقعة/51-54.
وهناك الكثير من أصناف العذاب وألوانه ، نسأل الله تعالى أن يتغمدنا برحمته ، وأن يجيرنا من عذابه .
وينظر للفائدة: جواب السؤال رقم: (43012).
والله أعلم .
تعليق