الحمد لله.
أولًا:
وردت كلمة (رحمة) في المصحف معرفة بـ (ال)، أو مضافة إلى اسم ظاهر، أو غير مضافة، في تسعة وسبعين موضعًا، رسمت بالتاء المفتوحة في سبعة مواضع:
الأول: قوله تعالى: أولئك يَرْجُونَ رَحْمَتَ الله البقرة/218.
الثاني: قوله تعالى: إِنَّ رَحْمَتَ الله قَرِيبٌ مِّنَ المحسنين الأعراف/56.
الثالث: قوله تعالى: رَحْمَتُ الله وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البيت هود/73.
الرابع: قوله تعالى: ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ مريم/2.
الخامس: قوله تعالى: فانظر إلى آثَارِ رَحْمَتِ الله الروم/50.
السادس والسابع: قوله تعالى في سورة الزخرف/32: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ، وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ.
وما سوى هذه المواضع فإنها بالهاء المربوطة، رسمًا ووقفًا؛ بالإجماع نحو قوله تعالى: لَا تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله الزمر/53.
انظر: "الدر النثير والعذب النمير" (4/153)، "الميسر في رسم المصحف" (138).
ثانيًا:
اختلف العلماء في توجيه اختلاف الرسم في تلك المواضع، وقد ذكر د. غانم قدوري الحمد بعض تلك التوجيهات في كتابه "رسم المصحف" (ص 269 - 275)، وقد انحصرت توجيهاتهم في أمرين:
الأول: أنها كتبت على الأصل الذي هو التاء؛ لأن التاء - عندهم - هي الأصل في علامة التأنيث، وأن الهاء تَخْلُفُها في الوقف، فجاءت في غالب المواضع على الأصل، مرسومة بالتاء المربوطة، ويوقف عليها بالهاء.
الثاني: أنها كتبت على إرادة الوصل.
قال "الأنباري": "فالمواضع التي يوقف عليها بالهاء: الحجة فيها اتباع المصحف، وإنما كتبوها في المصحف بالهاء، لأنهم بنوا الخط على الوقف، والمواضع اللاتي كتبوها بالتاء الحجة فيها أنهم بنوا الخط على الوصل"، انتهى من "إيضاح الوقف والابتداء" (1/287).
الثالث: لعل من وقف على تاء التأنيث بالتاء، ورسمها كذلك؛ يكون جاريًا على لغة طائفة من العرب، يقول "سيبويه": "وزعم أبو الخطاب: أن ناسًا من العرب يقولون في الوقف: طلحت، كما قالوا في تاء الجميع قولًا واحدًا في الوقف والوصل"، انتهى من "الكتاب" لسيبويه (4/167).
ويقول الدكتور رمضان عبدالتواب: "من المعروف أن العربية الفصحى، تقف على تاء التأنيث في الاسم بالهاء، ولكن قبيلة طيئ وحدها، من بين القبائل العربية القديمة، كانت تقف على هذه التاء بغير إبدال، فتبقيها تاء، كحالتها في الوصل سواء بسواء، قال الفراء: (والعرب تقف على كل هاء مؤنث بالهاء؛ إلا طيئا، فإنهم يقفون عليها بالتاء، فيقولون: هذه أَمَتْ، وجَارِيَتْ، وطَلْحَتْ).
وقد ذكر سيبويه هذه الظاهرة، وإن لم يسم القبيلة التي تخصها، وروى ذلك عن أبي الخطاب الأخفش، فقال: (وزعم أبو الخطاب أن ناسا من العرب يقولون في الوقف: طلحت، كما قالوا في تاء الجميع قولا واحدا في الوقف والوصل)"، انتهى من"بحوث ومقالات في اللغة" (258).
الرابع: يرى د. غانم قدوري الحمد: أن رسم تاء التأنيث بالتاء في تلك الكلمات: احتفاظٌ بشكلها في الرسم القديم، وأن ذلك نوع من تطور الرسم لها.
وذكر كذلك أن كل هذه احتمالات لا يمكن القطع بأحدها.
ثالثًا:
أما الفرق المعنوي بينها، فلا فرق هنالك؛ بل لكل كلمة معناها الذي يحدده السياق أيًّا كان رسمها، يقول "ابن عقيلة": "الرحمة وردت على أوجه:
(1) الإسلام. قال الله تعالى: يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ آل عمران/74.
(2) والإيمان. قال الله تعالى: وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ هود/28.
(3) والجنة. قال الله تعالى: فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ آل عمران/107.
(4) والمطر. قال الله تعالى: بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ الأعراف/57.
(5) والنعمة. قال الله تعالى: وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ النور/10.
(6) والنبوة. قال الله تعالى: أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ ص/9، أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ الزخرف:/32.
(7) والقرآن. قال الله تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ يونس/58.
(8) والرزق. قال الله تعالى: قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي الإسراء/100.
(9) والنصر. والفتح قال الله تعالى: إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً الأحزاب/17.
(10) والعافية. قال الله تعالى: أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ الزمر/38.
(11) والمودة. قال الله تعالى: رَأْفَةً وَرَحْمَةً الحديد/27، رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ الفتح/29.
(12) والسعة. قال الله تعالى: ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ البقرة/178.
(13) والمغفرة. قال الله تعالى: كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ الأنعام/12.
(14) والعصمة. قال الله تعالى: لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ هود/43. انتهى.
أقول: كل هذه المعاني راجعة إلى معنى الرحمة، ليست خارجة عنها".
انتهى من "الزيادة والإحسان في علوم القرآن" (5/ 226-227).
والله أعلم.
تعليق