الحمد لله.
النووي وابن قدامة رحمهما الله إمامان كبيران، وفقيهان عظيمان من فقهاء الملة، أطبقت الأمة على الثناء عليهما، والإفادة من علمهما، وللنووي رحمه الله كما ذكرت مخالفات في باب الأسماء والصفات، وسبق بيان ذلك في جواب السؤال رقم: (107645).
لكنهما لم يقعا في شيء من الشرك، وحاشاهما من ذلك.
وما ذكراه من التوسل وحكاية قصة العتبي، فجوابه أن التوسل ليس شركا وإنما هو بدعة، والشرك هو الطلب من الميت، والاستغاثة به؛ وهما لم يقولا ذلك.
على أن ابن قدامة أيضا لم يصرح بالتوسل، وإنما أورد الحكاية بصيغة التضعيف.
قال رحمه الله: "فصل: ويستحب زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم...، ويروى عن العُتبي، قال: كنت جالسا عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فجاء أعرابي، فقال: السلام عليك يا رسول الله، سمعت الله يقول: ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما، وقد جئتك مستغفرا لذنبي، مستشفعا بك إلى ربي، ثم أنشأ يقول:
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه ... فطاب من طيبهن القاع والأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه ... فيه العفاف وفيه الجود والكرم
ثم انصرف الأعرابي، فحملتني عيني، فنمت، فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في النوم، فقال: يا عتبي، الحق الأعرابي، فبشره أن الله قد غفر له" انتهى من "المغني" (3/ 478).
وأما النووي رحمه الله فقال: " ثم يرجع إلى موقفه الأول، قبال وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويتوسل به في حق نفسه، ويتشفع به إلى ربه سبحانه وتعالى.
ومن أحسن ما يقول ما حكاه أصحابنا عن العتبي مستحسنين له" وساق الحكاية، انتهى من الإيضاح في مناسك الحج والعمرة، ص454. وينظر: "المجموع شرح المهذب" (8/274).
وحكاية العتبي باطلة لا إسناد لها، وليس فيها استغاثة أو طلب منه صلى الله عليه وسلم، وإنما فيها الاستغفار من الله، والتشفع بنبيه صلى الله عليه وسلم، وهذا هو التوسل بالذات، أي أن يقول: يا الله أستشفع لك بنبيك أو أتوسل إليك بنبيك، ولم يدل دليل على جواز التوسل بالذوات، فكان بدعة، ولكنه ليس شركا.
وينظر: جواب السؤال رقم: (179363)، ورقم: (316791).
على أننا نقول هنا: إن العلماء الذين لهم لسان صدق في الأمة، قد يجتهد الواحد منهم اجتهادا فيخطئ فيه خطأ مغفورا له، ولا يقضى عليه فيه بالتأثيم، فضلا عن التبديع، فضلا عن التكفير؛ فمثل هذا لا يقدم عليه إلا جاهل أو مجازف.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، بعد ما ذكر طائفة من علماء الأشاعرة، وذكر بعض ما وقع لهم من أغلاط:
" ثم إنه ما من هؤلاء إلا من له في الإسلام مساعٍ مشكورة، وحسناتٌ مبرورة، وله في الرد على كثير من أهل الإلحاد والبدع، والانتصار لكثير من أهل السنة والدين = ما لا يخفى على من عرف أحوالهم، وتكلم فيهم بعلم وصدق، وعدل وإنصاف.
لكن لما التبس عليهم هذا لأصل المأخوذ ابتداء عن المعتزلة، وهم فضلاء عقلاء، احتاجوا إلى طرده، والتزام لوازمه؛ فلزمهم بسبب ذلك من الأقوال ما أنكره المسلمون من أهل العلم والدين.
وصار الناس بسبب ذلك: منهم من يعظمهم، لما لهم من المحاسن والفضائل، ومنهم من يذمهم، لما وقع في كلامهم من البدع والباطل.
وخيار الأمور أوساطها.
وهذا ليس مخصوصاً بهؤلاء، بل مثل هذا وقع لطوائف من أهل العلم والدين، والله تعالى يتقبل من جميع عباده المؤمنين الحسنات، ويتجاوز لهم عن السيئات: ( رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ) الحشر/10
ولا ريب أن من اجتهد في طلب الحق والدين من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخطأ في بعض ذلك = فالله يغفر له خطأه؛ تحقيقاً للدعاء الذي استجابه الله لنبيه وللمؤمنين، حيث قالوا: ( رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ) البقرة/286.
ومن اتبع ظنه وهواه، فأخذ يشنع على من خالفه بما وقع فيه من خطأٍ ظنه صواباً بعد اجتهاده، وهو من البدع المخالفة للسنة؛ فإنه يلزمه نظير ذلك، أو وأعظم، أو أصغر، فيمن يعظمه هو من أصحابه؛ فقل من يسلم من مثل ذلك في المتأخرين، لكثرة الاشتباه والاضطراب، وبعد الناس عن نور النبوة وشمس الرسالة الذي به يحصل الهدى والصواب، ويزول به عن القلوب الشك والارتياب" انتهى، من "درء تعارض العقل والنقل" (2/102-103).
وقال الشيخ الألباني، رحمه الله:
" ثمّ هنا لا بد من بحث، يجب أنْ نَعرِف من هو المُبتدع، تَماماً كما يجب أنْ نعرف من هو الكافر.
فهنا سؤال كما يقولون اليوم يَطرَحُ نفسَه: هلْ كلُّ مَن وَقَعَ في الكُفْرِ وَقَع الكُفْرُ عليه ؟
وكذلكَ كلُّ مَن وَقَع في البِدعَةِ وَقَعَتْ البدعة عليه ؟ أم الأمر ليس كذلك ؟...".
ثم قال:
" فلا يجوز أن نتبنى اليوم مذهباً، فنقول: لا يجوز الترحّم على فلان، وفلان وفلان من عامة المسلمين، فضلاً عن خاصتهم، فضلاً عن علمائهم. لماذا ؟
لسببين اثنين .. :
السبب الأول: أنّهم مسلمون.
السبب الثاني: أنّهم إن كانوا مبتدعين، فلا نعلم أنّه أُقيمَت الحُجَّة عليهم، وأَصرُّوا على بدعتهم، وأَصَرُّوا على ضلالهم.
لهذا أنا أقُول: مِن الأخطاء الفاحشة اليوم، أنّ الشباب الملتزم، والمتمسك بالكتاب والسنَّة فيما يَظُنُّ هو، يَقَعُ في مخالفة الكتاب والسنّة مِن حيثُ لا يدرِي، ولا يَشْعُر، وبالتالي يَحِقُّ لي على مذهبهم أنْ أُسمِّيهِم: مُبْتَدِعة، لأنهم خالفوا الكتاب والسنّة.
لكنِّي لا أُخالفُ مذهبي، الأصل في هؤلاء أنّهم مسلمون، وأنّهم لا يَتقصَّدُون البدعة، ولا يُكابرِون الحُجَّة، ولا يَرُدُّون البرهان والدليل. لذلك نقول: أخطؤوا مِن حيثُ أرادوا الصواب.
وإذا عرفنا هذه الحقيقة، نَجَوْنا مِن كثير مِن الأمُور الشائكة في هذا الزمان، ومن ذلك جماعة الهجرة والتكفير التي كانت في مصر، وكانت نَشَرَت شيئاً مِن أفكارِها وكانت وَصَلَت إلى سوريا يومَ كنتُ هناك، ثمَّ إلى هنا أيضاً، وكان لنا هنا إخوان على المنهج السلفي الكتاب والسنّة، تأثروا بتلكَ الدّعوة الباطلة وتركوا الصلاة مع الجماعة، بل والجمعة، وكانوا يُصلُّون في دُورهم وفي بيوتهم، حتى اجتمعنا معهم ..." انتهى، من "سلسلة الهدى والنور" ، نسخة الشاملة (666/7).
وينظر أيضا: "السلسلة الصحيحة" (7/110-116).
والله أعلم.
تعليق