الحمد لله.
أولًا:
لدينا في هذا الباب أمران ثابتان محكمان:
الأول: هو قدرة الله سبحانه، وعموم هذه القدرة لكل شيء.
قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ البقرة/20 ، وقال تعالى: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ آل عمران/189، وقال تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا فاطر/44.
والآيات في هذا المعنى كثيرة معلومة.
والثاني: أن الله جل جلاله هو الأحد الصمد، لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفؤا أحد؛ فلا شبيه له من خلقه، ولا مثيل، ولا ند ولا نظير: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ الشورى/11
وقال جل وعلا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ الأنعام/1.
يقول الشيخ السعدي، رحمه الله:
" هذا إخبار عن حمده والثناء عليه بصفات الكمال، ونعوت العظمة والجلال عموما، وعلى هذه المذكورات خصوصا. فحمد نفسه على خلقه السماوات والأرض، الدالة على كمال قدرته، وسعة علمه ورحمته، وعموم حكمته، وانفراده بالخلق والتدبير، وعلى جعله الظلمات والنور، وذلك شامل للحسي من ذلك، كالليل والنهار، والشمس والقمر. والمعنوي، كظلمات الجهل، والشك، والشرك، والمعصية، والغفلة، ونور العلم والإيمان، واليقين، والطاعة، وهذا كله، يدل دلالة قاطعة أنه تعالى، هو المستحق للعبادة، وإخلاص الدين له، ومع هذا الدليل ووضوح البرهان.
ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ أي يعدلون به سواه، يسوونهم به في العبادة والتعظيم، مع أنهم لم يساووا الله في شيء من الكمال، وهم فقراء عاجزون ناقصون من كل وجه." انتهى، من "تفسير السعدي" (250).
وقال نعيم بن حماد: "من شبه الله بخلقه؛ فقد كفر". ذكره عبد الغني المقدسي في "عقيدته" (107)، والذهبي في "العلو" (184).
ثانيًا:
المخلوق ناقص؛ يبدأ نقصه من أول كونه مخلوقًا يحتاج إلى (خالق) ليوجده، ويستمر نقصه في حاجته (رب) يصلحه، فيدبر له أمر نومه، ويقظته، ومطعمه ومشربه، وملبسه ومسكنه، وبالعموم: يدبر له (الأمر) كله؛ والله وحده هو من يدبر الأمر!!
ثم هو مخلوق ناقص، ظاهر النقصان في نقص علمه، ونقص سمعه، ونقص بصره، ونقص إحاطته، ونقص قدرته ... إلى آخر صور النقص التي لا يمكن حصرها.
إن هذا المخلوق (فقير) في أمره كله .. إلى من بيده ملكوت السموات والأرض؛ الغني:
يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ فاطر/15-17
إذا ظهر هذا؛ فالقول بأن الله يقدر على مشابهة المخلوقين، هو كالقول بأن الله يقدر أن يكون ناقصًا، يقدر أن يكون غير تام العلم والقدرة والإحاطة والحياة.
وهذا بالضبط كالقول بأن الله يقدر أن يكون غير إله، فالإله لا يكون ناقصًا.
وقدرة الله لا تتعلق بمثل تلك الأغلوطات، والمستحيلات؛ فهذه الأمور متناقضة مستحيلة عقلًا، لا يستقيم في العقل فرضها ولا تقديرها؛ حتى لكأن قائلها يقول: هل يقدر الله أن يكون ربا، ومربوبا، في وقت واحد؟ خالقا، ومخلوقا؟ كاملا، وناقصا؟ ... إلى آخر هذه السفسطات والمغاليط.
وفي ذلك يقول الإمام أبو بكر ابن العربي المالكي:
"هذا الكلام ليس له معنى مفهوم؛ إذ قوله: هل يقدر الله أن يتخذ ولدا؛ ليس يُفهَم، لأن الله هو الذي لا يُتصور أن يكون له ولد، ولا يمكن!!
فإذن، معنى ذلك من قول القائل: هل يقدر الله الذي لا يصح أن يوجد منه ولد، على أن يكون له ولد؟ فنقض آخرُ الكلام أوَّلَه، فلم يكن له معنى معقول في نفسه فيستحق به جوابا.
وكذلك قوله: هل يقدر الله على أن يخلق إلها؛ لأن الله هو الذي لا يصح أن يكون معه إله سواه، فنقض آخر الكلام أوله.
ومن ينتهي إلى هذا الحد، فقد سقطت مكالمته. " "العواصم من القواصم" (259).
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية:
"قدمنا: أن المنفيَّ بالنصوص والذي ذمَّ الله به العالمين، هو التسوية، والعدلُ به؛ ولو في بعض الأمور، وذكرنا أن الذين سألوا عن جنسه من المخلوقات بيَّن الله لهم أنه لا كفؤَ له، فبيَّن انتفاء المكافأة في شيء من الأشياء، لأن الاشتراك في الجنس والحقيقة: تكافؤٌ في ذلك، وهو نفَى الكفؤَ مطلقًا. فالماء القليل من جنس الماء الكثير كفؤٌ له في ذلك، وكذلك سائر الأجسام المتجانسة المتماثلة في الحقيقة، وإن تفاوتت في المقدار.
وانتفاء هذا كما دلَّت عليه نصوص الكتاب والسنة ووردتْ أخبارٌ بذلك، فقد بيَّن الله تعالى أن انتفاءَ ذلك معلومٌ بالعقل أيضًا، في مثل قوله: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم/ 65] وغير ذلك، فإنا نعلم بعقلنا أنه لا سَمِيَّ له، ولا عِدْلَ، ولا كُفُؤَ، ولا نِدَّ في شيء من الأشياء.
وذلك أن المتماثلينِ في الحقيقةِ وإن تفاوتا في المقدار كالماءين والترابين والعظمين واللحمين وغيرِ ذلك من الأجسام لا بدَّ أن يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر، ويجب له ما يجب له، ويمتنع عليه ما يمتنع عليه. وهذا حدُّ المِثلين عند أهل النظر، وهو أنه يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر، ويمتنع عليه ما يمتنع على الآخر، ويجب له ما يجب له.
وقد يُعبِّرون عنه بعبارة أخرى: هو ما سَدَّ أحدُهما مَسَدَّ الآخرِ وقامَ مقامَه. والعبارتان تؤديان إلى حقيقةٍ واحدةٍ، فإن الماء يَسُدُّ مَسَدَّ الماء في الحقيقة، وكذلك التراب، وكذلك العظم واللحم ونحو ذلك، ويشتركان في الواجب والجائز والممتنع في الحقيقة.
فلو كان في المخلوقات ما هو عِدْلٌ، أو مِثْلٌ، للبارئ في الحقيقة والصفات - وإن كان أصغَر منه في القدر- لجازَ على البارئ، ما يجوز عليه من العدم والفقر إلى الصانع والحدوثِ، وأنه بنفسِه ممكنٌ مفتقرٌ إلى من يُوجِدُه، ويُوجِب له ما يجب للبارئ من القدم والقيام بنفسه والاستغناءِ عن خالقٍ والصمديةِ، ولجاز عليه ما يجوز على من خلق الخلقَ وأبدعَ العالم، وامتنعَ على العبد من العدم والموتِ والحاجةِ ما يمتنع عليه.
فيلزمُ أن يُوصفَ كلٌّ منهما بالصفات التي لحقيقة الآخر. وهذا مع أنه محالٌ في حقِّ الرب أن يكون موصوفًا بالصفات التي لحقيقة العبد، ومحالٌ في حقّ العبد أن يكون موصوفًا بصفات حقيقة الرب، فإنه متناقض، إذا فُرِض تماثلُهما وتساويْهما في الصفات مع كون أحدهما خالقَ الآخر، فيجب أن يكون كلٌّ منهما خالقًا مخلوقًا، فيجب أن يكون الخالقُ قد خلق خالقَ نفسه إذ كان مثله، وخَلْقُه لنفسه محالٌ، فكيف بخالق نفسه؟ ويجب أن يكون الخالقُ مخلوقًا لمخلوقِه، وهو ممتنع عليه أن يكون مخلوقًا لنفسه، فكيف لمخلوقِهِ؟
وهذا هو السؤال الذي يُقال: إن بعض ملوك الهند أورده على بعض متكلمة المسلمين في إمارة هارون، فقال: هل يستطيعُ ربُّك أن يخلُق مثل نفسِه؟
إن قلتَ: نعم فقد جعلتَ له مثلًا!! وإن قلتَ: لا فقد عجَّزتَه !!
فقال له: هذه المسألة ممتنعة مستحيلة في نفسها، وإذا كانت في نفسها ممتنعةً، لم يكن جوابها إلا كذلك، لأنك إذا قلتَ: خلقَ مثلَ نفسه، فقد فرضتَ مِثلين أحدهما خالقُ الآخر، ولو كان مثله لم يكن مخلوقًا له، ولا كان الآخر خالقًا له، فإن التماثلَ يمنعُ هذا الاختلاف، ويُوجب التساوي في القدم والحدوث. فبُهِتَ الذي كفر.
وهذا جوابٌ سديد، فإن السائل إذا فرضَ اجتماع ما يَمتنع اجتماعهما، فقال: ماذا يكون على هذا التقدير؟
قيل له: لا يكون على هذا التقدير الممتنع المحالِ، إلّا ما هو ممتنعٌ محالٌ، واجتماعُ متماثلين أحدهما خالقُ الآخرِ: محالٌ في نفسه. كما يقال: لو فُرِضَ أن صانعَ العالمِ موجودٌ معدومٌ أكان يصنعه أم لا؟ ولو فُرِض أنه خلق العالم ولم يُرِدْ أن يخلُقَه، أو خلقَه ولم يكن قادرًا على خلقه، أو خلقه ولم يعلمْ كيف يخلقُه، أو لو فُرِض أن الذي خلق العالم كان عدمًا أو مواتًا، أو غير ذلك من التقديرات الممتنعة في نفسها". انتهى، من "جواب الاعتراضات المصرية" (119-121).
ثالثًا:
هناك فرق بين عدم القدرة على دفع الشبهة، وبين الرضا بها.
فأنت إن لم تقدر على دفع الشبهة، تقول لنفسك: أعلم أن دين الله محكم، وأن هذه الشبهة لها جواب، وتطلب هذا الجواب من أهل العلم.
ثم يلزمك: أن تمتنع عن الإغراق في هذه الشبه، أو الاستغراق فيها، ولا تفتح على نفسك أبوابها بعد ذلك، وما أصابك منها قبل ذلك، فهي كالمرض، اطلب دواءه من العالم به؛ لكن لا تتعرض لأسباب التلف والمرض بعد ذلك؛ إن كنت ناصحا لنفسك.
وأما الرضا بالشبهة فكأنك تقول: ليس لهذه الشبهة جواب، ثم تقبلها، وتقتنع بها، وينشرح صدرك لها؛ ومعاذ الله أن يقع ذلك من مؤمن، بل المؤمن يدفع الوساوس والشبهات بإيمانه، وما أشكل عليه منها، رده إلى عالمه، ودفعه بالمحكم البين من أمر الدين.
فالجهل بحل الأغلوطة، ودفع الشبهة: شيء؛ والرضا بها، والركون إليها شيء آخر، وهذا الثاني: هو البلاء، وهو الخطر المحقق بمن يجعل دينه غرضا للشبهات، والأهواء .. فانج بنفسك، وأحرز دينك أن تتخطفه الشياطين.
وانظر جواب السؤال رقم: (39679 )، ورقم: (87677)، ورقم: (147021).
والله أعلم
تعليق