الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 - 22 نوفمبر 2024
العربية

هل العقل معصوم من الخطأ؟

428071

تاريخ النشر : 11-07-2023

المشاهدات : 4312

السؤال

أنا قد قرأت جوابكم على ضلال المعتزلة في تفضيل العقل على النقل، واحتججتم بكون العقل غير معصوم، وأن الإسلام أعظم شأناً من العقل، وهذا جواب منطقى إن سلمنا بصحة الإسلام، ولكن كل أدلة النبوة التي مررت عليها؛ من تنبؤات، وإعجاز علمي، وإعجاز لغوي، وغيرها كلها كانت براهين عقلية، ولم تكن واحدة من تلك البرهين أعظم شأناً من العقل.

الجواب

الحمد لله.

هذا الموضوع الذي تفضلت بطرحه أخانا الكريم، موضوع مهم جدًا، وهو إذا فُهم على الوجه الصحيح انحلت لدى الإنسان مجموعة كبيرة من الإشكالات، واستقامت له منهجية التفكير السليمة، سواء فيما يتعلق بالأمور الدنيوية أو الأخروية، وسنشرح المنهجية الصحيحة في هذا الموضوع من خلال النقاط التالية:

أولًا:

لا يوجد عضو جسماني معين داخل الإنسان اسمه: العقل، فالعقل ليس جسمًا ثابتًا محددًا، وإنما العقل عملية، وفعل يقوم به الإنسان، بالضبط كما أن السمع والإبصار والمشي هي عمليات يقوم بها الإنسان، مستخدمًا أعضاءه التي هي على الترتيب هنا الأذن والعينين والقدمين.

فالعقل إذن عملية يقوم بها الإنسان، مستخدمًا جهازه العصبي.

 ثانيًا:

 يعالج الإنسان بسمعه المسموعات، وببصره المبصرات، وبعقله المعلومات، فيمارس عملية التعقل عن طريق التفكير في المعطيات والمدخلات التي تصله عن طريق الحواس، فيستخدم قواعد التفكير السليم، ويحاول البعد عن أخطاء التفكير وسقطاته وأغلاط الفهم ومغالطات الاستدلال.

قال ابن تيمية: "العقل إذا كان سليمًا من الشوائب، فإنه ميزان يزن به المرء الواردات فيفرق بين ما هو حق وما هو باطل" انتهى، من "الأعلام العلية" (34).

وقال: "العقل شرط في معرفة العلوم، وكمال وصلاح الأعمال وبه يكمل العلم والعمل ؛ لكنه ليس مستقلا بذلك؛ بل هو غريزة في النفس، وقوة فيها، بمنزلة قوة البصر التي في العين؛ فإن اتصل به نور الإيمان والقرآن كان كنور العين إذا اتصل به نور الشمس والنار" انتهى من "مجموع الفتاوى" (3/339).

ثالثًا:

 يظهر من ذلك إذن أن عملية التعقل مثلها مثل أية عملية إنسانية، هي عملية قابلة للصواب والخطأ، وتتنوع عوامل الإصابة، كما تتنوع عوامل الخطأ، بداية من وعي الإنسان بمبادئ التفكير، وليس انتهاء بدقة المعلومات والمُعطيات التي يُدخلها الإنسان إلى نفسه ليقوم بعملية التفكير.

وبالتالي فعندما نقول: العقل ليس معصومًا، نقصد بذلك: أن العمليات العقلية التي يقوم بها الإنسان عمليات قابلة للخطأ والصواب، فهي ممارسة غير معصومة، تستمد قوتها من سلامة وصحة سيرها، ومعرضة للضعف، بمقدار الأخطاء التي قد تحدث في سير العملية.

فنحن عندما نتكلم عن العقل لا نتكلم عن جوهر وعضو ثابت، كالقلب مثلا، فنقول عنه: القلب أهم عضو في الإنسان إذا توقف القلب مات الإنسان، وإنما نتكلم عن عملية كعملية السمع، قد يكون سمع الإنسان دقيقًا مرهفًا، وقد يكون غير ذلك، وقد يولي الإنسان الكلام تركيزه وانتباهه فيسمعه بدقة، وقد يسمع وهو مشوش غافل، فلا يصيب في ضبط الكلام الذي سمعه.

 رابعًا:

بعد استعمال منهجية التفكير السليمة، وممارسة عملية تعقل دقيقة الخطوات، ننتهي مثلًا إلى وجود براهين عقلية على وجود الله، وعلى وجود النبوة، وعلى صحة نبوة نبينا عليه الصلاة والسلام، وعلى أن هذا القرآن رسالة من عند الله أوحى بها إلى نبينا عليه الصلاة والسلام.

الذي حدث هنا هو: ممارسات عقلية صحيحة، استمدت قوتها من صحة الخطوات التي قام بها صاحب الممارسة العقلية، واستمدت قوتها من المعطيات التي تم إدخالها للإنسان الذي يُمارس التعقل، فالتصميم العظيم للكون معطى، لولاه لم تجد العملية التعقلية مادة تستمد منها قوتها، وبلاغة القرآن المعجزة معطى، لولاه لم تجد العملية التعقلية مادة تستمد منها قوتها.

فقيمة البراهين العقلية على هذه الموضوعات مركبة من أمرين:

الأول: سلامة خطوات عملية التعقل.

الثاني: قوة المعطيات.

خامسًا:

الذي يقع من بعض الناس، ومن بعض الاتجاهات المبتدعة: أنهم يتعاملون مع العقل كما لو كان شيئًا ثابتًا له قيمة في نفسه، بينما الواقع أن العقل عملية تستمد قوتها من صحة الخطوات وجودة المعطيات، وخطؤهم هذا يجعلهم يبالغون في تقدير قيمة ممارساتهم العقلية الذاتية، فيجعلون ممارساتهم العقلية هي العقل الممدوح، بينما ممارساتهم العقلية، هي عمليات عقلية قابلة للمدح وقابلة للذم، قابلة للاعتبار والتقدير، وقابلة أيضا للإهدار والرفض؛ بحسب سلامة خطواتها وصحة معطياتها.

فما سبق في جواب السؤال رقم: (249296) من أن : "الإسلام أعلى من شأن العقل (لعلك فهمت منها أن الإسلام أرفع شأنًا من العقل) قصدنا أن الإسلام أعطى قيمة لعملية التعقل لأنها العملية التي ينبغي أن يمارسها الإنسان ليتدبر في المعطيات ليصل إلى حقائق الإيمان والعمل الصالح".

وما سبق أيضا من : "أن ضلال المعتزلة إنما كان بمبالغتهم في تعظيم العقل ، حتى قدموه على نصوص الشرع ، وأدخلوه فيما ليس في حدوده ، ولا في طوقه ، ولا هو تحت سلطانه ، من التحكم في أمور الغيب ، والقضاء فيها بمجرد النظر العقلي".

قصدنا بذلك كله: أن المعتزلة بالغوا في تعظيم عملياتهم العقلية، وهي العمليات التي أخطأوا في خطواتها، ولم يصيبوا في دقة معطياتها، بشكل أدى إلى تضييعهم لدلالة النصوص الشرعية، ومخالفتهم لما كان عليه سلف الأمة من الصحابة والتابعين وأتباعهم.

فالسمع مهم جدًا أخي الكريم، بدونه لن نسمع كلام الله، والبصر مهم جدًا بدونه لن نبصر آيات الله الكونية، والعقل مهم جدًا، فبدونه لن نمارس عمليات التفكير في المعطيات التي ننتج بها البراهين.

لكن رغم كل ذلك: فالسمع عملية غير معصومة، بل قد يضل سمع الإنسان فلا يصيب، والبصر عملية غير معصومة، فقد يهم الإنسان ويبصر أشياء على غير حقيقتها.      والتعقل عملية غير معصومة؛ فقد يمارسها الإنسان ويصل لنتائج تصادم نصوص الوحي. وبالتالي فعملية التعقل السليمة القويمة، التي تبرهن لنا عن طريقها صحة الإسلام والنبوة؛ هذه العمليات لا تعني أن كل عملية تعقل ستكون ممدوحة وسليمة، وبلا شك لا تعني أن هناك شيئًا مجردًا في نفسه، يُمدح مدحًا مطلقا؛ اسمه العقل، هذا غير موجود.

وننصحك بقراءة كتاب : "براهين وجود الله" وكتاب: "براهين النبوة" كلاهما للدكتور سامي عامري، وفقه الله. وأيضا كتاب: "شموع النهار" للشيخ عبد الله العجيري، وفقه الله.

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب