الحمد لله.
نعم ؛ لم يكثر ابن رشد من ذكر آراء الإمام أحمد بن حنبل في كتابه "بداية المجتهد" ، ولكنه ليس نادرا – كما ورد في السؤال – .
ففي دراسة أجراها الباحث محمد بولوز لنيل الدكتوراه ، (ص110) ، وهي متعلقة بكتاب "بداية المجتهد" ، جاء فيها ما يلي مما يتعلق بعدد مرات ذكر ابن رشد كل مذهب من المذاهب الأربعة:
- المذهب المالكي ورد ذكره 3094 مرة .
- المذهب الشافعي ورد ذكره 1499 مرة .
- المذهب الحنفي ورد ذكره 1422 مرة .
- المذهب الحنبلي ورد ذكره 253 مرة .
فلا يقال عن هذا العدد (253) : إنه نادر ، ولكنه قليل .
ولم يفصح رحمه الله عن سبب ذلك ، ولكن يمكن استنباط أسباب ذلك، وهي:
1-اعتمد ابن رشد رحمه الله في نقل الأقوال وحكاية الخلاف على كتاب "الاستذكار" لابن عبد البر رحمه الله ، وقد صرح ابن رشد بذلك ، فقال : "وأكثر ما عولت عليه فيما نقلته من نسبة هذه المذاهب إلى أربابها هو كتاب "الاستذكار" انتهى من "بداية المجتهد" (1/75).
وكتاب "الاستذكار" لم يكثر فيه ابن عبد البر من ذكر آراء المذهب الحنبلي ، فبالبحث في هذا الكتاب نجد النتيجة التالية :
ذكر ابن عبد البر المذهب المالكي تصريحا أو بالنقل عن علمائه آلاف المرات .
وذكر المذهب الحنفي ، وكذلك الشافعي أكثر من 2000 مرة، في حين لم يذكر المذهب الحنبلي إلا نحو 450 مرة.
وعلى هذا ؛ فتصرف ابن رشد ليس غريبا ، لأنه في ذلك تابع للأصل الذي نقل منه، وهو كتاب "الاستذكار".
فإذا ما كانت هناك أسباب أخرى لذلك، فيمكننا إضافة الأسباب التالية:
2-الخلاف الفقهي – قديما – اشتهر بين مدرستين: مدرسة يقودها الإمام أبو حنيفة رحمه الله ، والمدرسة الثانية يقودها الإمام الشافعي رحمه الله .
ولذلك نجد كتب أصول الفقه ، وقواعد الفقه تذكر الخلاف بين هاتين المدرستين ، ولا تذكر – غالبا – المذهبين المالكي والحنبلي .
فاعتنى ابن رشد بذكر الخلاف الفقهي بين تلك المدرستين (الحنفية والشافعية)، وأضاف إلى ذلك المذهب المالكي بكثير من تفصيلاته وخلافاته بين علماء المذهب أنفسهم – لأنه مذهبه ، فلا يحسن به إهماله ، أما المذهب الحنبلي فإنه في الغالب سيكون موافقا لمذهب من هذه المذاهب الثلاثة؛ لا سيما المذهب الشافعي.
3-المذاهب الثلاثة (الحنفي والمالكي والشافعي) كتب الله لها الانتشار جغرافيا ، بخلاف المذهب الحنبلي ، فقد كانت بلاد انتشاره قليلة إذا قورنت بالمذاهب الثلاثة الأخرى ، فاحتكت تلك المذاهب بعضها ببعض أكثر من احتكاكها بالمذهب الحنبلي ، فاشتهر الخلاف بينها ، ولذلك اهتم علماؤها بتدوين هذا الخلاف في كتبهم .
قال ابن خلدون في "التاريخ" (1/448):
"فأما أحمد بن حنبل فمقلده قليل .... وأكثرهم بالشام والعراق من بغداد ونواحيها ، وهم أكثر الناس حفظا للسنة ، ورواية الحديث.
وأما أبو حنيفة فقلده اليوم أهل العراق، ومسلمة الهند والصين وما وراء النهر وبلاد العجم كلها ....
وأما الشافعي فمقلدوه بمصر أكثر مما سواها ، وقد كان انتشر مذهبه بالعراق وخراسان وما وراء النهر ، وقاسموا الحنفية في الفتوى والتدريس في جميع الأمصار ، وعظمت مجالس المناظرات بينهم ، وشحنت كتب الخلافيات بأنواع استدلالاتهم ، ثم درس ذلك كله بدروس المشرق وأقطاره ....
وأما مالك رحمه الله تعالى فاختص بمذهبه أهل المغرب والأندلس ، وإن كان يوجد في غيرهم" انتهى.
4-لعل كتب المذهب الحنبلي كانت قليلة عند ابن رشد، وهذا قد يشير إليه أن ابن رشد في بعض المواضع، يخبر عن ظنه بأن هذا مذهب أحمد.
فإنه قال في كيفية تطهير النجاسة، وهل يشترط لها عدد محدد من الغسلات أم لا؟ قال:
"أما من لم يشترط العدد لا في غسل، ولا في مسح، فمنهم مالك، وأبو حنيفة.
وأما من اشترط في الاستجمار العدد: أعني ثلاثة أحجار، لا أقل من ذلك، فمنهم الشافعي، وأهل الظاهر .
وأما من اشترط العدد في الغسل، واقتصر به على محله الذي ورد فيه، وهو غسل الإناء سبعا من ولوغ الكلب، فالشافعي، ومن قال بقوله.
وأما من عَدَّاه، واشترط السبع في غسل النجاسات، ففي أغلب ظني أن أحمد بن حنبل منهم" انتهى من "بداية المجتهد" (1/73):
هذا؛ مع أن المسألة من مسائل الطهارة المشهورة ، ولا يكاد يخلو كتاب حنبلي من ذكرها .
ولعل هذا السبب الأخير من الأسباب التي جعلت ابن عبد البر في كتابه "الاستذكار" يذكر المذهب الحنبلي أقل من غيره ، فإن الدكتور محمد بولوز ، في بحثه السابق (ص126) ذكر المراجع التي استند إليها ابن عبد البر في كتابه ، فلم يذكر للمذهب الحنبلي إلا أربعة مراجع فقط، وهو أقل المذاهب من حيث عدد مراجعها التي رجع إليها ابن عبد البر .
وأخيرا ..
هذه الأسباب إنما ذكرت احتمالا واستنباطا، من غير الجزم بصحتها، فإن ابن رشد رحمه الله لم يحدد في مقدمة الكتاب منهجه الذي سيتبعه في حكاية اختلاف الفقهاء، وما هي الأقوال التي سيحكيها أو التي سيسكت عن حكايتها.
والله أعلم.
تعليق