الحمد لله.
لا شك في أن هناك حكمة بالغة في خلق شعر الشارب و الإبط والعانة، ونحن لسنا من أهل الاختصاص في التشريح لنفصّل سبب خروج مثل هذا الشعر في الجسد، ولم نطلع على كتب أو مقالات علمية موثوقة في هذا الشأن لنحيلكم عليها، فليس لنا أن نتكلف من الكلام بلا مستند.
قال الله تعالى: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ سورة ص/86.
عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، مَنْ عَلِمَ شَيْئًا فَلْيَقُلْ بِهِ، وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلْيَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ، فَإِنَّ مِنَ العِلْمِ أَنْ يَقُولَ لِمَا لاَ يَعْلَمُ اللَّهُ أَعْلَمُ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ )... رواه البخاري (4809)، ومسلم (2798).
لكن يكفي الباحث عن الحق أن يقيس ما يجهله من الخلق على ما يعلمه، وهو كثير، فكما يرى الإنسان في جسمه كثيرا من الأعضاء والأجزاء لا تستقيم حياته بدونها، فكذلك من العدل أن يعتقد أن ما يجهله من وظائف بعض أجزاء جسمه فيها أيضا حكمة بالغة.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: " ولمّا اجتهد الطّاعنون في الحكمة، العائبون للخِلقة، فيما يطعنون به، عابوا الشَّعر تحت الآباط، وشعر العانة، وشعر باطن الأنف، وشعر الرّكبتين، وقالوا: أيّ حكمة فيها؟! وأيّ فائدة؟!
وهذا مِن فرط جهلهم وسخافة عقولهم؛ فإنّ الحكمة لا يجبُ أن تكون بأسرها معلومة للبشر، ولا أكثرِها، بل لا نسبة لما علموه إلى ما جهلوه منها، فلو قِيسَت علوم الخلائق كلّهم بوجوه حكمة الله تعالى في خلقه وأمره ، إلى ما خفي عنهم منها : كانت كنقرة عصفورٍ في البحر.
وحسب الفَطِن اللبيب : أن يستدلّ بما عَرَف منها ، على ما لم يعرف، ويعلم أنّ الحكمة فيما جهله مثلُها فيما عَلِمَه، بل أعظمُ وأدقُّ وألطف.
وما مثلُ هؤلاء الحمقى النَّوكى ، إلا كمثل رجل لا علم له بدقائق الصّنائع والعلوم، من البناء والهندسة والطبّ، بل والحياكة والخياطة والنجارة؛ إذا رام الاعتراض بعقله الفاسد على أربابها في شيءٍ من آلاتهم وصنائعهم وترتيب صناعاتهم، فخفيت عليه، فجعل كلّما خفي عليه منها شيء قال: هذا لا فائدة فيه، وأيّ حكمة تقتضيه؟!
هذا مع أنّ أرباب الصّنائع بشر مثله ، يمكنه أن يشاركهم في صنائعهم ويفوقهم فيها؛ فما الظّنّ بمن بهرت حكمته العقول، الذي لا يشاركه مشارك في حكمته، كما لا يشاركه في خلقه، فلا شريك له بوجه ما؟!
فمن ظنّ أن يكتال حكمتَه بمكيال عقله، ويجعل عقله عِيارًا عليها ، فما أدركه أقرَّ به وما لم يدركه نفاه؛ فهو من أجهل الجاهلين.
ولله في كلِّ ما خَفِي على النّاس وجه الحكمة فيه حِكَم عديدة لا تُدْفَعُ ولا تُحْجَب " انتهى. "مفتاح دار السعادة" (2/774).
وأما الأمر بحلق مثل هذا الشعر، كما في حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: "وُقِّتَ لَنَا فِي قَصِّ الشَّارِبِ، وَتَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ، وَنَتْفِ الْإِبِطِ، وَحَلْقِ الْعَانَةِ، أَنْ لَا نَتْرُكَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً " رواه مسلم (258).
فالحكمة من هذا الأمر ظاهرة، فترك هذا الشعر فوق هذه المدة يقبح به منظر الجسم، وتسوء به رائحته، فلا ريب أن في ازالة هذا الشعر كمال النظافة والحسن.
قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى:
" وفي الحديث: ( وُقِّتَ لَنَا فِي قَصِّ الشَّارِبِ، وَتَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ، وَنَتْفِ الْإِبِطِ، وَحَلْقِ الْعَانَةِ، أَنْ لَا نَتْرُكَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً).
اعلم أنه متى زاد الزمان على هذا المقدار كثرت الأوساخ، وربما حصل تحت الظفر ما يمنع وصول الماء إليه. ثم إنها تعدم الزينة التي خصت بالأظفار والشارب " انتهى من "كشف المشكل" (3/313).
وإذا قدر أننا جهلنا حكمة خلق هذه الشعور، أو غيرها من المخلوقات، أو حكمة الأمر بحلقها بعد خلقها في البدن ؛ فيكفي المسلم أن يعلم أنه في هذه الدنيا مبتلى ومختبر بالأوامر والنواهي، وحسن إسلامه واستسلامه لدين الله تعالى، أن يطيع ولو جهل الحكمة، كما هو إيمان خيرة الناس من الصحابة رضوان الله عليهم ومن تبعهم بإحسان.
قال ابن أبي العز الحنفي رحمه الله تعالى:
" اعلم أن مبنى العبودية والإيمان بالله وكتبه ورسله، على التسليم وعدم الأسئلة عن تفاصيل الحكمة في الأوامر والنواهي والشرائع. ولهذا لم يحك الله سبحانه عن أمة نبي صدقت بنبيها وآمنت بما جاء به، أنها سألته عن تفاصيل الحكمة فيما أمرها به ونهاها عنه وبلغها عن ربها، ولو فعلت ذلك لما كانت مؤمنة بنبيها، بل انقادت وسلمت وأذعنت، وما عرفت من الحكمة عرفته، وما خفي عنها لم تتوقف في انقيادها وتسليمها على معرفته، ولا جعلت ذلك من شأنها، وكان رسولها أعظم عندها من أن تسأله عن ذلك " انتهى من "شرح الطحاوية" (ص 261).
ومثل ذلك أيضا يقال في "حب الشباب"؛ فمن أراد أن يعرف أسباب ظهوره في وجه الإنسان، ولماذا يكون ذلك في مرحلة عمرية محددة؛ فليرجع إلى كتب العلوم المختصة بمثل ذلك ، أو المواقع العلمية المعنية به.
وأما إن أراد معرفة الحكمة الدينية الخلقية، فيكفيه أن يعلم أنه مخلوق، مبتلى، وممتحن في هذه الدار التي لا تخلو من الآفات والمنغصات، فلا تجد فيها جمالا خالصا من كل وجه، ولا نعيما سالما لصاحبه من كل آفة ، أو منغص. والله عز وجل يبتلي عباده بما شاء، وأوجبت حكمته سبحانه.
قال الله تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ محمد /31.
وقال الله تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ الملك/1 – 2.
فهذه العلل مهما صغر شأنها، يبتلى بها العبد فإن صبر كانت خيرا له.
عَنْ صُهَيْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ رواه مسلم (2999).
فالخلاصة:
أن ما ثبت من كمال حكمة الله تعالى وكمال علمه وعدله كاف للمسلم أن يحيل عليها كل شيء مخلوق في هذه الدنيا، لم يفهم وظيفة وجوده.
وإذا كان الشخص يستحي أن يستشكل وجود برغي أو مسمار واحد في سيارة أو آلة صنعها إنسان يصيب ويخطئ، فالأولى أن لا يستشكل شيئا من مخلوقات الله تعالى وأوامره، لكمال علمه وحكمته ولطفه وعدله سبحانه وتعالى.
قال الله تعالى: لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ الأنبياء/2).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" وهو سبحانه خالق كل شيء وربه ومليكه، وله فيما خلقه حكمة بالغة، ونعمة سابغة، ورحمة عامة وخاصة، وهو لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، لا لمجرد قدرته وقهره، بل لكمال علمه وقدرته ورحمته وحكمته " انتهى من "مجموع الفتاوى" (8/79).
والله أعلم.
تعليق