الحمد لله.
أولا:
من المقطوع به في دين الإسلام أن القرآن الكريم كلام الله تعالى، فليس لأحد أن يغيّر منه حرفا من تلقاء نفسه بمجرد التشهي.
قال القاضي عياض رحمه الله تعالى:
“وقد أجمع المسلمون أن القرآن المتلوّ في جميع أقطار الأرض، المكتوب في المصحف بأيدي المسلمين، ممّا جمعه الدّفّتان من أوّل ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) إلى آخر ( قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ) إنّه كلام اللّه، ووحيه المنزّل على نبيّه محمّد صلى الله عليه وسلم وأن جميع ما فيه حقّ، وأن من نقص منه حرفا قاصدا لذلك أو بدّله بحرف آخر مكانه، أو زاد فيه حرفا ممّا لم يشتمل عليه المصحف الّذي وقع الإجماع عليه وأجمع على أنّه ليس من القرآن عامدا لكلّ هذا أنّه كافر ” انتهى. “الشفا” (ص 873 – 874).
وعدم جواز التصرف في ألفاظ القرآن الكريم كان متقررا عند الصحابة رضوان الله عليهم، لذا ربما أنكر بعضهم على بعض إذا حصل خلاف بينهم في تلاوة بعض ألفاظ القرآن الكريم.
كمثل ما رواه البخاري (2419)، ومسلم (818): عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ القَارِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَقُولُ: ” سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، يَقْرَأُ سُورَةَ الفُرْقَانِ عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَؤُهَا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْرَأَنِيهَا، وَكِدْتُ أَنْ أَعْجَلَ عَلَيْهِ ، ثُمَّ أَمْهَلْتُهُ حَتَّى انْصَرَفَ، ثُمَّ لَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ، فَجِئْتُ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَأْتَنِيهَا، فَقَالَ لِي: أَرْسِلْهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: اقْرَأْ، فَقَرَأَ، قَالَ: هَكَذَا أُنْزِلَتْ، ثُمَّ قَالَ لِي: اقْرَأْ، فَقَرَأْتُ، فَقَالَ: هَكَذَا أُنْزِلَتْ، إِنَّ القُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَاقْرَءُوا مِنْهُ مَا تَيَسَّرَ.
فدل ذلك على أن مما تقرر في نفوس أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أنّ على القارئ أن يقرأ كما عُلِّم، ولا يتجاوز ذلك.
روى سعيد بن منصور في “السنن – التفسير” (1 / 160)، وعبد الرزاق في “التفسير” (2 / 210)، وغيرهما: عن سُفْيَان الثَّوْرِيِّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْن مَسْعُودٍ، قَالَ: “إِنِّي قَدِ اسْتَمَعْتُ إِلَى الْقِرَاءَةِ فَلَمْ أَسْمَعْهُمْ إلا متقاربين، فاقرؤا عَلَى مَا عُلِّمتم، وَإِيَّاكُمْ والتنطُّع وَالِاخْتِلَافَ، فَإِنَّمَا هُوَ كَقَوْلِ أَحَدِكُمْ: أقبل، وهَلُمَّ، وتعال”.
قال ابن حجر رحمه الله تعالى :
” … المراعى في ذلك السماع من النبي صلى الله عليه وسلم، ويشير إلى ذلك قول كل من عمر وهشام في حديث الباب: أقرأني النبي صلى الله عليه وسلم ” انتهى . “فتح الباري” (9 / 27).
ثانيا:
وأما ما رواه الإمام أحمد في “المسند” (19 / 247)، وغيره: عن حُمَيْد، عَنْ أَنَسٍ:
” أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَكْتُبُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ كَانَ قَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ، وَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا قَرَأَ الْبَقَرَةَ، وَآلَ عِمْرَانَ جَدَّ فِينَا – يَعْنِي عَظُمَ – فَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُمْلِي عَلَيْهِ: غَفُورًا رَحِيمًا، فَيَكْتُبُ: عَلِيمًا حَكِيمًا، فَيَقُولُ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اكْتُبْ كَذَا وَكَذَا، اكْتُبْ كَيْفَ شِئْتَ.
وَيُمْلِي عَلَيْهِ: عَلِيمًا حَكِيمًا، فَيَقُولُ: أَكْتُبُ سَمِيعًا بَصِيرًا؟ فَيَقُولُ: اكْتُبْ كَيْفَ شِئْتَ.
فَارْتَدَّ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَنِ الْإِسْلَامِ، فَلَحِقَ بِالْمُشْرِكِينَ، وَقَالَ: أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِمُحَمَّدٍ، إِنْ كُنْتُ لَأَكْتُبُ كَيْفَمَا شِئْتُ، فَمَاتَ ذَلِكَ الرَّجُلُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الْأَرْضَ لَمْ تَقْبَلْهُ “.
وقال محققو المسند: ” إسناده صحيح على شرط الشيخين…
عامة الروايات في هذا الحديث جاءت مطلقة غير مقيَّدة، وليس فيها أنه كان يكتب الوحي، وقد ذهب الطحاويّ إلى أنه كان يكتب الرسائل يبعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعائه الناس إلى الإسلام ” انتهى.
وأصل هذا الخبر عند البخاري (3617): عن عَبْد الْعَزِيزِ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، و عند مسلم (2781): عَنْ ثَابِتٍ ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ.
ولفظه عند البخاري: ” كَانَ رَجُلٌ نَصْرَانِيًّا، فَأَسْلَمَ، وَقَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ؛ فَكَانَ يَكْتُبُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَعَادَ نَصْرَانِيًّا، فَكَانَ يَقُولُ: مَا يَدْرِي مُحَمَّدٌ إِلَّا مَا كَتَبْتُ لَهُ. فَأَمَاتَهُ اللهُ، فَدَفَنُوهُ، فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الْأَرْضُ، فَقَالُوا: هَذَا فِعْلُ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ؛ لَمَّا هَرَبَ مِنْهُمْ نَبَشُوا عَنْ صَاحِبِنَا، فَأَلْقَوْهُ. فَحَفَرُوا لَهُ، فَأَعْمَقُوا؛ فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الْأَرْضُ. فَقَالُوا هَذَا فِعْلُ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ، نَبَشُوا عَنْ صَاحِبِنَا لَمَّا هَرَبَ مِنْهُمْ، فَأَلْقَوْهُ. فَحَفَرُوا لَهُ، وَأَعْمَقُوا لَهُ فِي الْأَرْضِ مَا اسْتَطَاعُوا، فَأَصْبَحَ قَدْ لَفَظَتْهُ الْأَرْضُ!! فَعَلِمُوا أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ النَّاسِ؛ فَأَلْقَوْهُ “.
وقد فصّل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى الكلام حول اختلاف أهل العلم في توجيه معنى هذا الخبر، وهذا في كتابه “الصارم المسلول” (2 / 237 – 249).
وملخصه، وأهم ما ورد فيه قولان:
القول الأول:
أن هذا التخيير في الكتابة لم يحصل، وإنما هي دعوى ادّعاها واخترعها هذا الكاتب المرتد.
القول الثاني:
أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن بذلك في خواتيم الآيات التي أنزلت [أي: الخواتيم قد أنزلت] كلها من عند الله تعالى، فأذن الوحي بالتيسير والتخيير، بأي وجه أراد القارئ أن يختم الآية، فله ذلك، وأنّ هذا وجه من أوجه الأحرف السبع التي نزل بها القرآن الكريم.
وقد سبق بيان معنى هذه الأحرف السبع في جواب السؤال رقم: (5142).
ويؤيد هذا القول ما رواه أبو داود (1477) وغيره: عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: يَا أُبَيُّ، إِنِّي أُقْرِئْتُ الْقُرْآنَ، فَقِيلَ لِي: عَلَى حَرْفٍ، أَوْ حَرْفَيْنِ؟ فَقَالَ الْمَلَكُ الَّذِي مَعِي: قُلْ: عَلَى حَرْفَيْنِ، قُلْتُ: عَلَى حَرْفَيْنِ، فَقِيلَ لِي: عَلَى حَرْفَيْنِ، أَوْ ثَلَاثَةٍ؟ فَقَالَ الْمَلَكُ الَّذِي مَعِي: قُلْ: عَلَى ثَلَاثَةٍ، قُلْتُ: عَلَى ثَلَاثَةٍ، حَتَّى بَلَغَ سَبْعَةَ أَحْرُفٍ، ثُمَّ قَالَ: لَيْسَ مِنْهَا إِلَّا شَافٍ كَافٍ، إِنْ قُلْتَ: سَمِيعًا عَلِيمًا، عَزِيزًا حَكِيمًا، مَا لَمْ تَخْتِمْ آيَةَ عَذَابٍ بِرَحْمَةٍ، أَوْ آيَةَ رَحْمَةٍ بِعَذَابٍ.
قال البعلي رحمه الله تعالى مختصرا لكلام شيخ الإسلام:
” واعلم أن افتراء ابن أبي سرح والكاتب الآخر النصراني على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأنه كان يتعلّم منهما: افتراء ظاهر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا يُكَتِّبه إلا ما أنزله الله عليه، ولا يأمره أن يثبت قرآنا إلا ما أوحاه الله، ولا يتصرّف به كيف شاء، بل يتصرف كما يشاء الله تعالى.
ثم اختلف أهل العلم؛ هل كان رسول الله أقرّه على أن يكتب شيئا، غير ما ابتدأه النبي صلى الله عليه وسلم بإكتابِه؟ وهل قال له شيئا؟
على قولين:
أحدهما: أن النصرانيّ وابن أبي سرح افتريا ذلك كلّه، وأنه لم يصدر منه إقرار على كتابة غير ما قاله أصلا، وإنما هما افتريا ذلك، لينفّروا الناس عنه.
والقول الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له شيئا، فيقول له ويملي عليه: ( سميعًا بصيرًا )، فيكتب: ( سميعًا عليمًا )، فيقول له: “دعه”، ونحو ذلك؛ ويكون كل واحد من الحرفين قد نزل، فيقول له: اكتب كذا وإن شئت كذا، فكلٌّ صواب.
وقد جاء مصرَّحا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: أُنْزِلَ القرآنُ على سبعةِ أحْرُفِ كلُّها شافٍ كافٍ، إن قلتَ: “عزيز حكيم” أو “غفور رحيم” فهو كذلك ما لم تَخْتم آيةَ رحمةٍ بعذاب أو آيةَ عذابٍ برحمةٍ.
فالأحاديث تدلّ على أنّ من الحروف السبعة التي نزل عليها القرآن: أن تُخْتم الآيةُ الواحدةُ بعدّة أسماء من أسماء الله تعالى، على سبيل البدل، يُخَيّر القارئُ في القراءة بأيّها شاء، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يخيّره أن يكتب ما شاء من تلك الحروف، وربّما قرأها النبيّ بحرف، فيقول له: أو كذا وكذا، لكثرة ما سمعه منه يُخَيِّر بحرفين، فيقول له: ” نعم، كلاهما سواء “؛ لأن الآية نزلت بالحرفين معا، فيقرّه على ذلك.
ثم إن الله نسخ بعض تلك الحروف لما كان جبريل يعارض النبيّ بالقرآن في كلّ رمضان، وكانت العرضة الآخرة على حرف زيد بن ثابت الذي يقرأ به الناس اليوم، وهو الذي جمع عثمان والصحابة عليه الناس.
ورُوِيَ فيها وجه آخر …
قال شيخ الإسلام: والقول الأول أشبه الأقوال ” انتهى. “مختصر الصارم المسلول” (ص 62 — 64).
وقوله: ” والقول الأول أشبه الأقوال “: أي: أن هذا من تنوع الأحرف السبع، كما هو مبين في “الصارم المسلول” (2 / 249).
واختلاف خواتيم الآية الواحدة بسبب تنوع الأحرف السبع، لا إشكال فيه؛ لأن هذه الخواتيم كلها منزلة من عند الله تعالى.
قال البغوي رحمه الله تعالى عن تنوع الأحرف السبع:
” ولا يكون هذا الاختلاف داخلا تحت قوله سبحانه وتعالى: ( وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا )، إذ ليس معنى هذه الحروف أن يقرأ كل فريق بما شاء، فيما يوافق لغته، من غير توقيف؛ بل كل هذه الحروف منصوصة، وكلها كلام الله نزل به الروح الأمين على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يدل عليه: قوله صلى الله عليه وسلم: ( إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ )، فجعل الأحرف كلها منزّلة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعارض جبريل في كل شهر رمضان بما يجتمع عنده من القرآن، فيحدث الله فيه ما يشاء، وينسخ ما يشاء، وكان يعرض عليه في كل عرضة وجها من الوجوه التي أباح الله له أن يقرأ القرآن به، وكان يجوز لرسول الله صلى الله عليه وسلم – بأمر الله سبحانه وتعالى – أن يقرأ، ويُقرئ، بجميع ذلك، وهي كلها متفقة المعاني، وإن اختلف بعض حروفها ” انتهى. “شرح السنة” (4 / 509).
وقد ذكر أهل العلم توجيهات أخرى لحديث أبي بن كعب رضي الله عنه، ومن ذلك:
ما رآه ابن عبد البر بأنه مجرد ضربِ مَثلٍ لأوجه الأحرف السبعة، حيث قال رحمه الله تعالى:
” أمّا قوله في هذا الحديث: ( قُلْتَ: سميعًا عليمًا، أو غَفُورًا رحيمًا، أو عَلِيمًا حكيمًا ): فإنّما أراد به ضرب المثل للحروف التي نزل القرآن عليها، أنّها معان متّفقٌ مفهومُها، مختلِف مسموعُها، لا يكون في شيء منها معنى وضدُّه، ولا وجه يخالف معنى وجه، خلافا ينفيه ويضادّه، كالرّحمة التي هي خلاف العذاب وضدّه، وما أشبه ذلك ” انتهى. “التمهيد” (5 / 593).
وقيل: إن القارئ إذا حصل منه تغيير لخاتمة الآية، بخاتمة آية أخرى، بما لا يغير المعنى، لا ينسب هذا القارئ إلى الخطأ؛ لأنه لم يخل بالمعنى، ولم يدخل في القرآن ما ليس منه، مع أنّ عليه أن يتبع القراءة المسنونة ولا يعدل عنها.
قال أبو بكر البيهقي رحمه الله تعالى:
” وأمّا الأخبار الّتي وردت في إجازة قراءة “غَفورٌ رَحيمٌ”، بَدَلَ “عَليمٌ حَكيمٌ”؛ فلأنّ جميع ذلك ممّا نزل به الوحى، فإِذا قرأ ذلك في غير موضعه، ما لم يختم به آيَة عذاب بآية رحمة، أو رحمة بعذاب؛ فكأنّه قرأ آية من سورة، وآية من سورة أخرى؛ فلا يأثم بقراءتها كذلك.
والأصل ما استقرّت عليه القراءة في السّنة الّتي توفّي فيها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، بعد ما عارضه به جبريل عليه السلام في تلك السّنة مرّتين، ثم اجتمعت الصّحابة على إثباته بين الدّفّتين ” انتهى. “السنن الكبير” (4 / 637).
وإلى نحو هذا المعنى ذهب قبله أبو عبيد رحمه الله تعالى، فقال:
” حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ [يعني: ابن مسعود، رضي الله عنه] : ( لَيْسَ الْخَطَأُ أَنْ يُدْخِلَ بَعْضَ السُّورَةِ فِي الْأُخْرَى، وَلَا أَنْ يَخْتِمَ الْآيَةَ بِحَكِيمٍ عَلِيمٍ، أَوْ عَلِيمٍ حَكِيمٍ، أَوْ غَفُورٍ رَحِيمٍ، وَلَكِنَّ الْخَطَأَ أَنْ يَجْعَلَ فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ، أَوْ أَنْ يُخْتَمَ آيَةَ رَحْمَةٍ بِآيَةِ عَذَابٍ، أَوْ آيَةَ عَذَابٍ بِآيَةِ رَحْمَةٍ ).
قال أبو عبيد: أرى عبدَ اللّه إنّما أراد بهذا: أنّه إذا سمع السّامع من يقرأ هذه الحروف من نعت اللّه عز وجل، لم يجز له أن يقول: أخطأت، لأنّها كلّها من نعوت اللّه، ولكن يقول: هو كذا وكذا، على ما قال أبو العالية.
وليس وجهه: أن يضع كلّ حرف من هذا في موضع الآخر، وهو عامد لذلك.
فإذا سمع رجلا ختم آية رحمة بآية عذاب، أو آية عذاب بآية رحمة: فهناك يجوز له أن يقول: أخطأت؛ لأنّه خلاف الحكاية عن اللّه عز وجل.
فهذا عندنا مذهب عبد اللّه في الخطأ ” انتهى. “فضائل القرآن” (ص355).
وقيل: إنّ هذا الخبر متعلق بالوقف، فلا يقف على لفظة توحي أن أهل الإيمان مشاركون لأهل الكفر في العذاب، أو أن أهل الكفر مشاركون لأهل الإيمان في النعيم.
قال الزركشي رحمه الله تعالى:
” وقد سبق حديث: ( أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، كُلٌّ شافٍ كافٍ، مَا لَمْ تُخْتَمْ آيَةُ عَذَابٍ بِآيَة رَحْمَةٍ، أَوْ آيَةُ رَحْمَةٍ بِآيَة عَذَابٍ ).
وهذا تعليم للتمام؛ فإنه ينبغي أن يوقف على الآية التي فيها ذكر العذاب والنار، وتفصل عما بعدها، نحو: ( فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) ولا توصل بقوله: ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ )، وكذا قوله: ( وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ) ولا توصل بقوله: ( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ )، وكذا: ( يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ ) ولا يجوز أن يوصل بقوله: ( وَالظَّالِمُونَ ) وقس على هذا نظائره ” انتهى. “البرهان” (1 / 343).
والوجه الأول، الذي رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية: هو الأظهر والأقوى؛ لأنه المتبادر من ظاهر النص.
ثالثا:
ثم إن هذا الترخيص والتيسير حصل لمّا كان كثير من المسلمين حديثي عهد بالدخول في الإسلام، وكانت لغة أكثرهم سليمة لم تلحقها عجمة لا في التعبير ولا في الفهم، فناسبهم هذا التيسير.
فلما دخلت أمم كثيرة في الإسلام، وبدأت العجمة تنتشر، صار هذا التخيير مظنة إلى أن يختم القارئ الآية بما يخل بالمعنى، بل ربما يناقضه؛ وهو لا يشعر.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
” وكذلك أسماء الرب تعالى: كلها أسماء مدح، ولو كانت ألفاظا مجردة لا معاني لها؛ لم تدل على المدح، وقد وصفها الله سبحانه بأنها حسنى كلها، فقال: ( وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )، فهي لم تكن حسنى لمجرد اللفظ، بل لدلالتها على أوصاف الكمال، ولهذا لما سمع بعض العرب قارئًا يقرأ: ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ )، “والله غفور رحيم”، قال: ليس هذا كلام الله تعالى، فقال القارئ: أتكذِّبُ بكلام الله تعالى؟ فقال: لا، ولكن ليس هذا بكلام الله تعالى، فعاد إلى حفظه وقرأ: ( وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ )، فقال الأعرابي: صدقت، عَزَّ فَحَكَم فَقَطع؛ ولو غَفَر وَرَحَم لَما قَطَع.
ولهذا إذا ختمت آية الرحمة باسم عذاب، أو بالعكس، ظهر تنافر الكلام وعدم انتظامه ” انتهى. “جلاء الأفهام” (ص185).
وبمثل ذلك: يقع الاختلاف والشقاق بين المتعلمين لكتاب الله تعالى؛ فصار دفع مفسدة الاختلاف، وتغيير نظم كلام الله تعالى، ومراده من عباده: مقدما على جلب مصلحة التيسير، فجمع الله تعالى الأمة وأرشدها إلى الاكتفاء بوجه واحد من هذه الأوجه المتنوعة في خواتيم الآيات وغيرها.
عن أَنَس بْنِ مَالِكٍ: ” أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ اليَمَانِ قَدِمَ عَلَى عُثْمَانَ، وَكَانَ يُغَازِي أَهْلَ الشَّأْمِ فِي فَتْحِ أَرْمِينِيَةَ وَأَذْرَبِيجَانَ مَعَ أَهْلِ العِرَاقِ، فَأَفْزَعَ حُذَيْفَةَ اخْتِلاَفُهُمْ فِي القِرَاءَةِ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ لِعُثْمَانَ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، أَدْرِكْ هَذِهِ الأُمَّةَ، قَبْلَ أَنْ يَخْتَلِفُوا فِي الكِتَابِ اخْتِلاَفَ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى حَفْصَةَ: أَنْ أَرْسِلِي إِلَيْنَا بِالصُّحُفِ نَنْسَخُهَا فِي المَصَاحِفِ ، ثُمَّ نَرُدُّهَا إِلَيْكِ، فَأَرْسَلَتْ بِهَا حَفْصَةُ إِلَى عُثْمَانَ، فَأَمَرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَسَعِيدَ بْنَ العَاصِ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ فَنَسَخُوهَا فِي المَصَاحِفِ، وَقَالَ عُثْمَانُ لِلرَّهْطِ القُرَشِيِّينَ الثَّلاَثَةِ: إِذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي شَيْءٍ مِنَ القُرْآنِ فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ، فَإِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ، فَفَعَلُوا حَتَّى إِذَا نَسَخُوا الصُّحُفَ فِي المَصَاحِفِ، رَدَّ عُثْمَانُ الصُّحُفَ إِلَى حَفْصَةَ، فَأَرْسَلَ إِلَى كُلِّ أُفُقٍ بِمُصْحَفٍ مِمَّا نَسَخُوا، وَأَمَرَ بِمَا سِوَاهُ مِنَ القُرْآنِ فِي كُلِّ صَحِيفَةٍ أَوْ مُصْحَفٍ أَنْ يُحْرَقَ ” رواه البخاري (4987).
فما هو في المصاحف اليوم من خواتيم الآيات: هو الوجه الوحيد المقطوع بأنه نزل به الوحي، فلا يجوز لأحد أن يغير منه اليوم حرفا واحدا.
قال البغوي رحمه الله تعالى:
” والمكتوب بين اللوحين: هو المحفوظ من الله عز وجل للعباد، وهو الإمام للأمة، فليس لأحد أن يعدُوَ في اللفظ إلى ما هو خارج من رسم الكتابة والسواد.
فأما القراءة باللغات المختلفة، فما يوافق الخط والكتاب: فالفسحة فيها باقية، والتوسعة قائمة، بعد ثبوتها وصحتها بنقل العدول عن الرسول صلى الله عليه وسلم، على ما قرأ به القراء المعروفون بالنقل الصحيح عن الصحابة رضي الله عنهم ” انتهى. “شرح السنة” (4 / 511).
الخلاصة:
القرآن كلام الله تعالى لا يجوز لبشر أن يغير لفظا منه، وما روي من التخيير في خواتيم الآيات فقد وجهّه أهل العلم بعدة توجيهات مختلفة، والوجه الأقوى والأولى بالصواب من غير تكلّف أن يقال: بأن هذه الخواتيم التي وقع التخيير فيها كلها منزلة من عند الله تعالى، ووسع الوحي بالقراءة بأي منها، ثم لما ظهر الخلاف والعجمة، رفع هذا التوسيع واجتمع المسلمون على وجه واحد حماية وحفظا لكتابه سبحانه وتعالى، فليس لأحد أن يتلو كتاب الله تعالى بغير الوجه الذي في المصاحف اليوم، كما يقال في سائر أوجه الأحرف السبع.
قال ابن العربي رحمه الله تعالى عن الأحرف السبع:
” والّذي يتحصّل من هذه المسألة على عِظَمِ الاختلاف فيها أمران:
أمّا أحدهما: فسقوط جميع اللّغات وجميع القراءات، إلّا ما ثبت في المصحف بإجماع من الصّحابة، وأنّ ما كان أُذن فيه قبل ذلك ارتفع وذهب. جاء حذيفة بن اليمان فقال: ” يا أمير المؤمنين، أَدْرِكِ النّاسَ قبلَ أنّ يَخْتَلِفُوا في القُرآنِ كما اختلفَ اليهودُ والنَّصارى في التوراة والإنجيل “، فأجمعت الصّحابة على ما في المصحف وسقط ما وراءه، وتمّم الله علينا هذه النعمة بما ضمن من حفظ كتابه للأُمّة حين قال: ( وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ )، وذهبت كلّ صحيفة كانت في الأرض سواه … ” انتهى. “المسالك” (3 / 383).
والله أعلم.
تعليق