الحمد لله.
روى البخاري (2738) ومسلم (1627) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ ) .
قال النووي رحمه الله : "فيه الْحَثّ عَلَى الْوَصِيَّة ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْأَمْر بِهَا ، لَكِنَّ مَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْجَمَاهِير أَنَّهَا مَنْدُوبَة لَا وَاجِبَة . وَقَالَ دَاوُدُ وَغَيْره مِنْ أَهْل الظَّاهِر : هِيَ وَاجِبَة ؛ لِهَذَا الْحَدِيث ، وَلَا دَلَالَة لَهُمْ فِيهِ ، فَلَيْسَ فِيهِ تَصْرِيح بِإِيجَابِهَا ، لَكِنْ إِنْ كَانَ عَلَى الْإِنْسَان دَيْن أَوْ حَقّ أَوْ عِنْده وَدِيعَة وَنَحْوهَا لَزِمَهُ الْإِيصَاء بِذَلِكَ . قَالَ الشَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّه : مَعْنَى الْحَدِيث : مَا الْحَزْم وَالِاحْتِيَاط لِلْمُسْلِمِ إِلَّا أَنْ تَكُون وَصِيَّته مَكْتُوبَة عِنْده .
وَيُسْتَحَبّ تَعْجِيلهَا ، وَأَنْ يَكْتُبهَا فِي صِحَّته ، وَيُشْهِد عَلَيْهِ فِيهَا ، وَيَكْتُب فِيهَا مَا يَحْتَاج إِلَيْهِ ، فَإِنْ تَجَدَّدَ لَهُ أَمْر يَحْتَاج إِلَى الْوَصِيَّة بِهِ أَلْحَقَهُ بِهَا . قَالُوا : وَلَا يُكَلَّف أَنْ يَكْتُب كُلّ يَوْم مُحَقَّرَات الْمُعَامَلَات وَجُزْئِيَّات الْأُمُور الْمُتَكَرِّرَة" انتهى .
فالوصية نوعان :
وصية واجبة : وهي الوصية ببيان ما عليه وما له من حقوق ، كدين أو قرض أو أمانات مودعة عنده ، أو حقوق له في ذمم الناس ، فالوصية هنا واجبة لحفظ ماله ، وبراءة ذمته .
ووصية مستحبة : وهي التبرع المحض ، كوصية الإنسان بعد موته في ماله بالثلث فأقل ، لقريب غير وارث ، أو لغيره ، أو الوصية في أعمال البر من الصدقة على الفقراء والمساكين أو في وجوه الخير . ينظر : "فتاوى اللجنة الدائمة" (16/264) .
وللإنسان أن يوصي أهله ببعض الأمور المتعلقة بجنازته ، كمن يغسله ومن يصلي عليه ونحو ذلك ، وأن يوصيهم بترك البدع والمحدثات ، وتجنب النياحة وغير ذلك من المنهيات ، لا سيما إذا كان يعلم من حالهم أنهم ربما فعلوا شيئا من ذلك .
ويدل لذلك ما رواه مسلم (121) أن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال وهو في سياق الموت : (فَإِذَا أَنَا مُتُّ فَلَا تَصْحَبْنِي نَائِحَةٌ وَلَا نَارٌ) .
وروى الترمذي (986) وابن ماجه (1476) عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ رضي الله عنه قَالَ : (إِذَا مِتُّ فَلَا تُؤْذِنُوا بِي ، إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ نَعْيًا ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى عَنْ النَّعْيِ) والحديث حسنه الألباني في صحيح الترمذي .
وروى أحمد (10141) عَنِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : (إِذَا مُتُّ فَلَا تَضْرِبُوا عَلَيَّ فُسْطَاطًا ، وَلَا تَتْبَعُونِي بِنَارٍ ، وَأَسْرِعُوا بِي إِلَى رَبِّي ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : إِذَا وُضِعَ الْعَبْدُ أَوْ الرَّجُلُ الصَّالِحُ عَلَى سَرِيرِهِ قَالَ : قَدِّمُونِي قَدِّمُونِي ، وَإِذَا وُضِعَ الرَّجُلُ السَّوْءُ قَالَ : وَيْلَكُمْ أَيْنَ تَذْهَبُونَ بِي) والحديث حسنه شعيب الأرنؤوط في تحقيق المسند .
وروى الحاكم في المستدرك (1409) أن قيس بن عاصم رضي الله عنه أوصاهم عند موته فقال : (إذا أنا مت فلا تنوحوا علي فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينح عليه) قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه . وقال الذهبي في التلخيص : صحيح .
فهذا وغيره يدل على مشروعية الوصية ببعض الأمور المتعلقة بالجنازة أو بالتحذير من النياحة ونحوها .
لكن ليس للوصية صيغة معينة ، يلتزم بها الإنسان ، بل يوصي بما يناسب حاله وحال أهله ، وما له وما عليه من الحقوق كما سبق .
والمهم ألا يُعتقد أن هناك صيغاً مأثورة ، أو لابد منها . وقد سئلت اللجنة الدائمة للإفتاء عن الوصية الواردة في كتيب : "هذه وصيتي الشرعية" .
فأجابت: " بقراءة الوصية المذكورة لم يوجد فيها ما يخالف الشرع ، ولكن صياغتها بشكل وصية من كل فرد وتوزيعها على الناس يوهم أنه يستحب لكل شخص أن يوصي بما فيها أو يشتريها ويدفعها لمن يتولى شأنه بعد موته ، مع أنه لا داعي لذلك ؛ لأن أحكام الجنائز المذكورة فيها موجودة في كتب الفقه ، يراجعها من يحتاج إليها بدون إيصاء أو توزيع ، لا سيما وعمل المسلمين في هذه البلاد والحمد لله في أحكام الجنائز يتمشى على السنة " انتهى من "فتاوى اللجنة الدائمة" (16/289) .
والله أعلم .
تعليق