الحمد لله.
أولاً :
الحب في الله تعالى بين المسلمين من أسمى صفاتهم وأعظم أخلاقهم ، ومما يميزهم عن غيرهم أنهم لا يحبون المرء لماله ولا لجماله ولا لنسبه ، بل يحبونه لله تعالى وفيه ، وقد أوجب الله تعالى محبته لهؤلاء المتحابين فيه ، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن عظيم منزلتهم يوم القيامة ، حتى إن الأنبياء والشهداء ليغبطونهم على منزلتهم تلك ، وهم تحت ظل عرش الرحمن .
عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله يقول يوم القيامة : أين المتحابون بجلالي اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي ) .
رواه مسلم ( 2566 ) .
عن أبي إدريس الخولاني قال : دخلت مسجد دمشق فإذا فتى براق الثنايا وإذا الناس معه ، إذا اختلفوا في شيء أسندوا إليه وصدروا عن رأيه ، فسألت عنه : فقيل : هذا معاذ بن جبل رضي الله عنه ، فلما كان من الغد هجَّرت فوجدته قد سبقني ووجدته يصلي ، قال : فانتظرته حتى قضى صلاته ثم جئته من قبَل وجهه فسلمت عليه ثم قلت : والله إني لأحبك ، فقال : آلله ؟ فقلت : آلله ، فقال : آلله ؟ فقلت : آلله ، قال فأخذ بحبوة ردائي وجذبني إليه وقال : أبشر فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : قال الله عز وجل: " وجبت محبتي للمتحابِّين فيَّ ، والمتجالسين فيَّ ، والمتباذلين فيَّ ، والمتزاورين في " .
رواه أحمد ( 21525 ) وصححه ابن حبان ( 2 / 335 ) .
وعن معاذ رضي الله عنه قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : قال الله عز وجل : " المتحابون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء " .
رواه الترمذي ( 2390 ) ، وقال : حديث حسن صحيح .
ثانياً :
للشيطان مدخل واسع من باب الحب في الله ، فقد يوهم كثيرين أنهم يحبون في الله أو لله وهم واقعون في العشق والهيام ، ولو كان بين امرأة وأخرى ، أو رجل وآخر ، وقد تبدأ العلاقة بين الطرفين حبّاً في الله تعالى ، لكنها لا تصمد على هذا لما يعتريه من خلل وإفراط في العلاقة بينهما ، وهذه المحبة التي بينكِ وبين صديقتك ليست محبة في الله لما ترتب عليها من آثار ضارة .
قال ابن القيم – رحمه الله - :
المحبة النافعة ثلاثة أنواع : محبة الله ، ومحبة في الله ، ومحبة ما يعين على طاعة الله واجتناب معصيته ، والمحبة الضارة ثلاثة أنواع : المحبة مع الله ، ومحبة ما يبغضه الله ، ومحبة تقطع محبته لله أو تنقصها ، فهذه ستة أنواع عليها مدار محاب الخلق .
" إغاثة اللهفان " ( 2 / 140 ) .
وقد تكلم العلماء قديما وحديثاً عن هذا الداء – وهو العشق - ، وبيَّنوا أسبابه ، وخطورته ، ثم قدَّموا علاجه لمن شاء التخلص من هذا المرض العضال .
قال ابن القيم - رحمه الله - :
العشق هو الإفـراط في المحبة ، بحيث يستولي المعشوق على قلب العاشق ، حتى لا يخلو من تخيُّلِه وذِكره والفكرِ فيه ، بحيث لا يغيب عــن خـاطـره وذهنه ، فعند ذلك تشتغل النفس بالخواطر النفسانية فتتعطل تلك القُوى ، فيحدث بتعطيلها من الآفات على البدن والروح ما يَعُـزُّ دواؤه ويتعذر ، فتتغيّر أفعاله وصفاته ومقاصده ، ويختلُّ جميع ذلك فتعجـز البشر عن صلاحه ... .
والعشق مباديه سهلةٌ حلوةٌ ، وأوسطه همٌّ وشغلُ قلب ، وسقم ، وآخره عَطَبٌ وقتلٌ ...
والذنب له - أي : للعاشق - ، فهو الجاني على نفسه ، وقد قعد تحت المثل السائر : " يداك أوكتا وفوك نفخ " .
" الجواب الكافي " ( ص 153 ) .
ومن قرأ رسالتكِ لم يشك أن العلاقة التي بينكِ صديقتكِ ليست محبة في الله شرعية ، بل هي إعجاب أدى إلى تعلق ثم إلى عشق .
ثالثاً :
للتعلق المذموم هذا أسبابه ، ومن أعظمها ضعف الإيمان بالله تعالى ، والغفلة عن اليوم الآخر ، وخواء القلب من المحبة الشرعية النافعة والمقوية له ، وكثرة الفراغ وعدم الاهتمام بالوقت – ويدل عليه كثرة المكالمات الهاتفية وطولها - ، وعدم وجود القدوة الصالحة في حياة العاشقات ، ولا شك أن للأسرة دوراً في وجود هذه العلاقات المحرمة ؛ وذلك بعدم إشباع عاطفة بناتهم من الحب الأسري ، و بسبب تأخير زواج بناتهم بذرائع فارغة كالدراسة أو العمل ، مما سبَّب انحرافاً في علاقة ابنتهم وهم غافلون .
ولهذا الداء الفتاك آثاره القاتلة على القلب والعقل ، وأعظم من ذلك : أنه قد يوقع في الشرك ؛ وذلك بتقديم رضا المعشوق على رضا الله ، وتقديم طاعته على طاعة الله ورسوله، وقد سجدت إحدى العاشقات عند قدمي معشوقتها لترضى عنها ، بعد أن حصل بينهما خلاف ! .
قال ابن القيم – رحمه الله - :
وهو أقسام ، وهو تارة يكون كفراً ، كَمَن اتّخذ معشوقه نِدّاً ، يُحبه كما يحب الله ، فكيف إذا كانت محبته أعظم من محبة الله في قلبه ؟ فهذا عشقٌ لا يُغفر لصاحبه ، فإنه من أعظم الشرك ، والله لا يغفر أن يشرك به ، وإنما يغفر بالتوبة الماحية ما دون ذلك ، وعلامة هذا العشق الشركي الكفري أن يقدم العاشق رضاء معشوقه على رضاء ربه ، وإذا تعارض عنده حق معشوقه وحقّه وحقّ ربِّه وطاعته قدّم حق معشوقه على حقِّ ربه وآثر رضاه على رضاه ، وبذل لمعشوقه أنفس ما يقدر عليه ، وبذل لربه - إن بذل - أردى ما عنده ، واستفرغ وسعه في مرضاة معشوقه وطاعته والتقرب إليه ، وجعل لربه - إن أطاعه – الفضلة التي تفضل عن معشوقه من ساعاته .
" الجواب الكافي " ( ص 150 ) .
رابعاً :
دواء هذا الداء ذكره العلماء وأوصوا بأخذه لمن أقلقه حاله ، وأراد الاستشفاء الشرعي :
قال ابن القيم - رحمه الله - :
ودواء هذا الداء القتَّّال : أن يعرف أن ما اُبتُليَ به من هذا الداء المضاد للتوحيد إنما هو مِن جهله وغفلة قلبه عن الله ، فَعَلَيْهِ أن يعرف توحيد ربِّه وسُننه وآياته أولاً ، ثم يأتي من العبادات الظاهرة والباطنة بما يشغل قلبه عن دوام الفكرة فيه ، ويُكثر اللجأ والتضرع إلى الله سبحانه في صرف ذلك عنه ، وأن يرجع بقلبه إليه وليس لـه دواء أنفع من الإخلاص لله ، وهو الدواء الذي ذكره الله في كتابه حيث قال : كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ، فأخبر سبحانه أنه صرف عنه السوء من العشق والفحشاء من الفعل بإخلاصه ؛ فإن القلب إذا خلص وأخلص عمله لله : لم يتمكن منه عشقُ الصور ؛ فإنه إنما تمكن من قلب فارغ ، كما قيل :
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى *** فصادف قلبا خاليا فتمكنا
" الجواب الكافي " ( ص 150 ، 151 ) .
وهذه فتاوى أهل العلم المعاصرين في هذه القضية الهامة والخطيرة :
1. سئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله - :
انتشرت عندنا عادة قبيحة بين النساء ويأسف كل غيور على نساء المسلمين لذلك ، وهي فتنة الطالبات بعضهن ببعض ، وقد تسمى في بعض المناطق بـ " الصحبة " ، وخلاصة هذه العادة : أن تُعجب الفتاة بفتاة أخرى لا لدينها ، بل لجمالها فقط ، فتعقد عليها أو تجعلها مِلكاً لها فلا تجالس إلا هذه الفتاة ، ولا تتكلم إلا معها ، وتقلدها في جميع شؤونها ، بل يصل الأمر إلى أن تنام عندها في بعض الليالي ، بل تقبلها في وجهها وصدرها ، وتكتب اسمها أو الحرف الذي يشير إلى اسمها على حقيبتها وثيابها المدرسية ، وقد يصل الأمر - يا فضيلة الشيخ - إلى تعاملها كما تعامل زوجها ! ولها من الحقوق مثل الزوج إن لم يكن أكثر ، فما رأي الشرع في هذا الأمر ؟ وهل من نصيحة توصون بها من ابتليت بهذا الداء ؟ .
فأجاب الشيخ :
هذا الداء يسمى بداء " العشق " ، ولا يكون إلا من قلب فارغ من محبة الله عز وجل ، إما فراغاً كليّاً ، وإما فراغاً كبيراً ، والواجب على من ابتليت بهذا الشيء : أن تبتعد عمن فتنت بها ، فلا تجالسها ، ولا تكلمها ، ولا تتودد إليها ، حتى يذهب ما في قلبها ، فإن لم تستطع : فالواجب على ولي المرأة الأخرى أن يفرق بينها وبين تلك المرأة ، وأن يمنعها من الاتصال بها ، ومتى كان الإنسان مقبلاً على الله عز وجل معلقاً قلبه به : فإنه لا يدخل في قلبه مثل هذا الشيء الذي يبتلى به كثير من الناس ، وربما أهلكه ، نسأل الله العافية والسلامة .
بواسطة " الإعجاب إلى أين " للشيخ عبد الملك القاسم .
وسئل الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله - :
كثر في المدارس ظاهرة " الإعجاب " ، وذلك أن تتعلق الطالبة بحب معلمة من أجل أناقتها أو جاهها أو جمالها " محبة دنيوية " ، أو تتعلق طالبة بطالبة أخرى فتكثر من الحديث عنها وكتابة اسمها على " دفترها " وقد ترسل لها رسائل إعجاب بشخصها ، وبالجملة تكون " محبوبتها " هي شغلها الشاغل ، فما حكم هذه المحبة الدنيوية ؟ وما الفرق بينها وبين الحب في الله - علماً بأن بعض صاحبات الإعجاب قد وقعن في الشذوذ الجنسي والعياذ بالله - ؟ .
فأجاب :
ورد في الحديث الصحيح " ثلاث من كنَّ فيه وجد بهن حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ... " إلخ ، فالمحبة الجائزة أو الواجبة هي المحبة لله وفي الله ، ومن آثارها : أن يقتدي بالمحبوب في أعماله الصالحة ، ويطيعه في نصائحه ، وأن ينصحه عند وقوعه في خطأ أو زلل ، فأما مثل هذه المحبة التي هي من آثار الإعجاب بالجمال والأناقة واللياقة ، والتي يكون من آثارها : التعلق بالمحبوب ، ومحاكاة أفعاله ، وتقليده في سيره ومنطقه وسائر أحواله ، مما يدل على تعلق القلب به : فإنها محبة ، وشهوة ، وعشق ، وميل إلى فعل الفاحشة ، وسواء كانت محبة رجل لامرأة وشغفه بها ، بحيث يكثر من ذكرها ويضمن ذلك في شعره كما حصل من " مجنون ليلى " و " كثير عزة " ، أو محبة رجل لرجل كالذين يعشقون المردان من الشباب ويحاولون أن يلتصقوا بهم مهما استطاعوا ، أو من امرأة لرجل كما حكى الله عن امرأة العزيز مع يوسف عليه السلام ، قال تعالى : وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً [ يوسف / 30 ] ، وهكذا قد يكون من امرأة لأخرى ، وذلك قليل في التاريخ ، لكن لا يستغرب حدوثه في هذه الأزمنة التي حصل فيها ما يثير الغرائز ويدفع الكوامن ولو من المرأة مع أخرى ، وهو ما يعرف بـ " السحاق " ويعرف الآن بـ " الشذوذ الجنسي " ، وإن كان أخف من فعل فاحشة اللواط لخلوه من الإيلاج ولكنه محرم ، وكذلك وسائله من المبالغة في الحب لمجرد الجمال والحسن ، وهكذا ما يؤدي إلى ذلك ، فالواجب التوبة عن جميع ما ذكره وتعلق القلب بالرب تعالى ، والله أعلم .
بواسطة " الإعجاب إلى أين " للشيخ عبد الملك القاسم .
خامساً :
الحذر الحذر أختي الفاضلة من أن يستهويكما الشيطان ، وأن يأخذ بكما إلى طريق المهالك بدعوى المحبة ، وليكن تعلقك بالله ، وفي طاعة الله ، فإن الشيطان يتربص بالمؤمن كل لحظة ليغويه ، فإن ظفر الشيطان بكما فإنه يحقق فيكما أعظم أمانيه : ضياع أجر المحبة في الله ؛ وفتور عابدتيْن عن عبادة الله ؛ وشل نشاطكما في الدعوة إلى الله ؛ واستخدامكما للصد عن سبيل الله ؛ وغير ذلك كثير .
فعليك أن تفوتي عليه هذه الفرصة بضبط العلاقة بالضوابط الشرعية ، ومكافحة الهوى والنفس وذلك بالتعلق بالله لا بالمخلوق .
وبما أن أختك في الله داعية وطالبة علم ، فإنه ينبغي لها أن تنتبه لهذه العلاقة كما فعلتِ أنتِ ، ويجب عليكما أن تتصارحا ، وأن تضعا حدّاً لهذه العلاقة ، بتقليل اللقاءات والمكالمات ، وترك التفكير في الطرف الآخر ، ولعلَّه بزواجكما أن تختصر هذه العلاقة وتؤصل وترجع إلى طبيعتها الشرعية .
وأنصحك أختي الكريمة أن تقرئي كتاب " تلبيس إبليس " لابن الجوزي ، وكتاب " الجواب الكافي " لابن القيم ففيهما خير عظيم لمثل حالتك هذه وأختك .
والله الموفق
تعليق